كما أبدو في اللباس المدرسي للصف السابع شتاء 2006

أغمض عيناي لدقائق ثم أدرك أنه لا فائدة، في تلك الأيام المبلولة من أيلول حيث كان من الممكن أن نستفيق على ارتطام حبّات المطر بشباك غرفتنا الكبير، كنّتُ أخدع الصباح وأبقي عينيّ مغمضتين مع أشعة الشمس المنكسرة نحو غرفتنا، كان الشبّاك على منور خلفيّ غطته بيناية حديثة بنيت بجانبنا. ثم يمضي الوقت بسرعة وأسمع صوت ماما تنده لي للاستيقاظ، أسوم، وسوم، سمسم يلا حبيبي يلا فيق، مروة يلا يا مروة يلا أمّي يلا

كان يرتفع صوت فيروز غالباً في الصباح بعدها بسنوات كان صوت القرآن الكريم أكثر ما يرتفع في صباحات بيتنا، وخاصة قناة المجد الخاصة بتلاوة القرآن، أمّا أكثر أغنية كانت تعلق بذاكرتي من تلك الصباحات هي حبيتك بالصيف.. حبيتك بالشتي.. وجسر اللوزيّة..
لم تكن مهمة أبي يوماً أن يوقظنا أنا ومروة قبل أن تولد صفا وأسامة، بل كانت مهمته الأساسية في صباح شتائي أن يُشعل الصوبيا، الصوبيا التي يمكن أن تنفض أحياناً فيلحقها بشتيمتين خفيفتين، كانت العنصر الأهم في تلك الصباحات، للصوبيا قاعدة في أعلاها نغلي فيها أوراق الكينا الخضراء التي نقطفها من أمام بيت جيراننا سكريّة، ولبوري الصوبيا ما يُشبه حبال الغسيل نجفف فيها الغسيل في الأيام الماطرة.

بعد أن أغسل وجهي كنتُ أقترب من المدفأة حتى أكادُ ألامسها وكانت لاتبخل بدفئها أبداً، مراقبة قطرات المازوت تخفيفها وزيادتها متعة خاصّة، بالعموم لن أتمكنّ من وصف مايحدثُ حول المدفأة في بيت شاميّ أكثر من صديقتي العتيقة منى الصابوني في مجموعتها القصصية “حول المدفأة”.

صوت أبي وهو يشربُ القهوة التي هي أوّل ما تهتم به ماما عندما تستيقظ، دلّة الميرمية أو الشاي التي كانت ماما تحضّرها في الصباح، الميرمية مشروب شتائي كان يُشعلنا دفئاً، طعمه المرّ لم يكن لذيذاً بل شتوياً فقط وكنت قليلاً ما أفطر، لم يكن الطعام شهيّاً أوّل الاستيقاظ بالنسبة لي، مكدوس وزيتون ولبنة مدعبلة هذه أبرز عناصر الفطور وإلى جانبها علبة كبيرة من جبنة الشرق الصفراء التي كانت ماما تلفّ لنا منها سندويشات المدرسة بخبز الفرن العادي ثم تقسّم السندويشات وتضعها في أكياس النايلون، وجود السندويشة في حقيبتك يُشعرك بالأمان كلما تناولت كتاباً لحصّة في المدرسة، قد لا آكلها خلال نهار المدرسة، وقد أتذكرها في طريق العودة وقد تلقطها ماما في يوم العطلة حيث تنظف الشنتة ثم نسمع بهدلة قصيرة لأن السندويشة نشفت ولم تعد صالحة للأكل فنراها وقد وُضعت في أرض الديار للعصافير.

غالباً اليوم هو يوم أحد، ماما تكوي الثياب التي تركت على بوري الصوبيا من الأمس، للكوي رائحة، الخيوط والحرارة العالية لابدّ لها من رائحة، ولدفء الصدريّة البنيّة (على طريقة النظام الكوبي لعسكرة الطلاب) أو القميص الأزرق السماوي المكويّ توّاً لذّة ساحرة، غالباً ما نطرق باب الحمام نستعجل بعضنا، ثم نلبس باقي الملابس نحمل الشنتة.

تلحقنا ماما بفرشاة الشعر، أنا لم أكن أستخدم المرآة، كانت ماما مرآتي، تمشّط لي شعري وتشدّ جوزة فولاري البرتقاليّ، ماما كانت تضع لي الساعة الجلدية التي أهداني إياها بابا من ماركة أوماكس، ماما كانت تظف جيوبنا من بقايا المحارم البيضاء، ماما كانت تلحقنا بالسندويشات جبنة صفراء دهن، لبنة وخيار وسندويشة زعتر كانت غالباً ما تبقى لليوم التالي في الشنتة، شنتة المدرسة الثقيلة، الكتب السميكة فيها تجعلنا نشعرُ أننا نحمل العلم وهاهو يكسر ظهرنا، يالله تلك اللحظات التي نغالب فيها النعاس..

نخرج إلى أرض الديار غالباً ما يكون المطر قد توقف وبقيت قطرات عالقة في عريشة العنب تثقل الأوراق وتهطل على الأرض، وإلى داخل البحرة الصغيرة في أرض ديارنا، نبحث عن فردات الجرابات الضائعة، الجرابات الكحلية غالباً والرمادية أحياناً، نبلس بوط الفتوّة الأسود، نحاول تلميعه، وقبل المحطة الأخيرة ندخل إلى غرفة جدّي الضاحك دوماً والذي كان يغضب في ثانية، يفتح درج الخزانة العسليّة الصغيرة بجانب سريره هناك ما يُشبه طاسة من الستيل تحولت فيما بعد لبلاستيك شفاف يضمّ فيها القطع المعدنية، ينادينا لأخد عشر ليرات أو 15 ليرة وفي أيّام خيّرة كانت ال25 المذهبة هي أجمل انتصار صباحيّ، نأخذ رضاه بدون بوسة يد ثم نودع ماما بنظرة وابتسامة، ننزل درجات أرض الديار البيضاء.

في الحارة نجد أولاد العم الذين يملؤون حارتنا، الصغار والكبار، فولارات ملوّنة وبدلات خاكيّة ثم صداري بنيّة وبدلات كحليّة للشباب ورماديّة للبنات، ننتظر الميكرو سيرفيس، نسعى للنزول باكراً حتى يأخذنا بذهابه من بيته في حارة قريبة ليجمع الطلاب، فنجلس على الشباك أولاً وندور معه نحضر الأولاد وربّما انتظرنا أحدهم فنزعق في الحارة حتى ينزل ونحن نسمع سُباب عائلته لأنه تأخّر، كان عمّو معتز يشغل لنا أغاني فيروز في الذهاب، في الحقيقة كان يكبس الراديو كبسة واحدة وكلّ الإذاعات السوريّة تضع فيروز، وفي العودة كانت نجوى كرم غالباً فقد كان معجباً بها كما يبدو، يسيرُ السرفيس بسرعة جنونيّة ليلحق مدرسة أخرى، كانت السرافيس المخصصة لنقل 14 راكب تسع 25، ونحن فرحين، كنّا أشبه بقطيع مدرسيّ.

كان طريق المدرسة فرصة لسماع جعيرنا المشترك وكأننا كورال شعبي شوارعيّ، أما عند الوصول لباب المدرسة فهنا يكون الإختبار الأوّل لصبرنا لهذا اليوم، هل نشتري البوشار أو الترمس أو الفول أم ننتظر للفرصة الاولى؟ تلاحقنا أعين الباعة حتى دخول باب المدرسة.. كم من أيام انتهت العشر ليرات قبل أن أدخل باب المدرسة.

وسيم السخلة، صيف 2020