هالدّني بتساع الكل <3 - Life can accommodate everyone

Author: waseemz (Page 1 of 4)

ليس أدنى من اقالة الحكومة وحلّ البرلمان!

إنّ ما نحنُ ذاهبون إليه هي حالة الإضراب الصامت, ستُجرّب كل شريحة اتباع تكتيك معيّن يتماشى معها

سيمتنعُ بعض تجّار التجزئة عن قبول أصناف متعددة من البضاعة الجديدة لارتفاع أسعارها، سيُغلقُون بمواربة محالهم، ويُحاولون تخزين ما أمكن من مواد غذائيّة فيها لأيام أصعب قادمة.

موظفون سيتركون الوظيفة، سيتركونها بدون تبريرات صحيّة أو ظروف عائليّة، سيُغلقون هواتفهم في وجه إداراتهم العامّة والخاصة ويتركون لهم المرتّب الذي لم يعد يكفي لنصف طبخة ليوم واحد.

ستنتقل هذه الحالة بسرعة من الموظفين الصغار إلى الموظفين الكبار، ستقف عند حدّ معيّن لكنّهُ لايكفي للتشغيل، نعم هناك مصانع ودوائر ستفرُغ، مصانع وورشات بلا عُمال ورؤساء بلا مرؤوسين في دوائر اللاجدوى الحكوميّة.

أسواق الجملة ستُخفّضُ طلباتها اليوميّة من الكمّيات، مع الوقت سيذهبُ الناس باتجاه الأرياف للسكن وطلب المنتجات، سيكونون بالقرب من الفلاحين لشراء الخضروات والفاكهة، ستظهر أنماط جديدة من القوى والتحالفات المحليّة.

ستعودُ الحوالات لتتركز في السوق السوداء، تكثر المُشكلات المحليّة بأسباب مختلفة، ستتعطّل الجباية والحركة الماليّة، ستمتلئ المقاهي الشعبيّة القليلة جداً، يرتفع الدولار حتى يختفي من التداول، ستغلق محال الذهب وتبيع بالمواربة، ستبدأ بعض مظاهر التحرّش الطبقي تكسير مرايا سيارات، ثم واجهات مطاعم، وتتطوّر حتى تصل إلى كلّ ما لانتخيّله.

مهما كان هُناك من حلول ذكيّة فإنّها تحتاج لأسابيع، هذه الأسابيع غير مضمونة، مهما كانت الحلول يجب أن يُعطى الناس تنازلاً ما ليس أدنى من إقالة الحكومة وحلّ البرلمان.

إلى الآن الشارع منضبط، خلال أيام ستحكمهُ الشائعات تماماً..

وسيم السخلة 26-7-2023
— ‏‏دمشق‏‏

ملامِحُ رديئة، للمدينة القديمة

أرى الفتيات الجميلات يختبئن مع سندويشات الشاورما في زوايا الحارات، تلحقهنّ القِططُ فقط، يتغلّبن على طعمة الثوم بباكيتات علكة تشيكلتس المقلّدة، يُقال لها في الشام اختصاراً شكلس!

في الحارات القديمة حيث يأخذُ الناس أصدقائهم من غير السوريين يقولون لهم هذه أقدم مدينة في التاريخ، ثُمّ يرمون بوجهها فضلاتهم، صحون بلاستيكيّة مُسرطنة، معالق بلاستيك سوداء، ورق لف للسندويش لا يصلُحُ للفّ شيء، أكياسُ نايلون بعدد خيباتنا.

تختلط هذه النفايات، تُنتج رائحة نتنٍ تجعل من نزار قباني أسطورةً كاذبة، تُحطّم إدعاءات قارورة العطر وتدفّق بردى وطيور الحمام التي رآها درويش تطير في في ثُنائيّات، فلا رائحة ياسمين، ولامن يحزنون أصلاً.

ماذا حدث لتلك البيوت، فصار هذا مطعماً لمُحدثي النعمة، وهذا بار للمنبوذين، وهذه قهوة للنصابين، وتلك حانةٌ لأصحاب الموعد الأول، وهذه حديقة تمّ تسويرها، هل خافوا من هروب الأشجار مثلاً؟

كانت الشقراواتُ الأجنبيات يُطعمن القطط الخجولة التي لاتتسلّلُ للبيوت، القطط اليوم باتت هجينة، هل ترون كيف صارت القطط وقحة جداً، غالباً ولدت في منتصف حزيران، فليس من المعقول ألا تكون ابنة هذا الصيف المُقرف، قطط بلاتربية، مثل أكثرنا!

في بحثه عن قدّاحة، يُجرّب ثلاثينيٌّ سؤال 5 بسطات ليُقرر شرائها، البسطات لم تعد للعاديين، صارت لأمراء محليين، تُحادثُ أحدهم وكأنّهُ حرّر القدس، يحتلّ نصف الشارع أحياناً، بقي أن يلبسو أوسمةً ليشتريها الهواةُ من أحفادهم.

المتسولون بالورود كبروا، المتسول لم يعد يبيعُك الورد، صار يوزّع نظراتهُ بينك وبين الآخرين، هو يشعرُ أنّهُ منسيّ، كما شعرت أنت، يوم جلست على الفراغ لتصل إلى بيتك في سيرفيس مُتهالك يُجبرك على سماع سارة، الزكريّا!

المدينةُ القديمة، لنُسمّيها المتناقضة، هُنا كان الناسُ يخلقون دهليزاً بعد باب المنزل، ولايُدخلون غريبٌ جنّتهم، باتت هذه البيوت صالات للعرض، فنادق للسيّاح، ملاهي ليليّة، مشارب وحانات تختلط فيها أصوات الموسيقى والأذان والترانيم، الجيّد أن أصوات القذائف صمتت منذ قتلَ الأبطال زعران علوش وشتّتوا شمل عصاباته.

في القيمريّة تتعجّب من 20 متجر يبيعُ بيتزا كالكاوتشوك بالقطعة، و10 محلات تبيع البوظة الرديئة على الصاج، يصنعونها بأصوات مؤذية، تشقّ طبلات الأذن، يحتلّون بعرباتهم الطريق الضيّق أصلاً، يحتلّون طريقك ليبيعوك كما يحتلُّ انفصاليون حقول نفطك ليبيعوك نفطك ويُجوّعوك.

السُكان صامتون، معظمُ أولادهم هاجروا، بقي المسنّون، يغلقون بقلق أبوابهم الخشبيّة باكراً، الضجيج والإزعاج سامحوا به مُرغمين ولم يعد لديهم القدرة على خوض جدلٍ مع متموّل جديد، فلكلّ متموّل أزلام ومسؤولون ونواب مُنتخبون.

لا أدري من أين يُحضرون هذا الكمّ الهائل من الحبر، ليطبعوا كلّ هذه الصور الخشبيّة والتذكارات، الحكومة نفسها عجزت عن تأمين الحبر لصحف تُبرّرُ فشلها منذ نصف قرن، يطبعون صوراً كثيرة لفيروز، على التوازي اخترعوا أحجاماً جديدة لليمون المُثلّج، لم نعد نشتريه لطعمهِ بل نشتريه للذاكرة، نتقوّى به على تذكّر الأيام الجميلة والحبيبة الأولى.

ماذا كانت تعني باب توما مثلاً؟ تعني كروسان بالجبنة (لاعلاقة لها بالكروسان الفرنسي طبعاً) وتعني كروسان شوكولا نتقاسمها أو قطعة غوڤر نضيف لها كرة من البوظة اذا وفّرنا مصروفنا ليومين، اليوم راتب تقاعدي لوزير سابق قد يُساوي 10 قطع من الغوڤر و 5 كروسانات، ولاشيء آخر.

أعتقدُ أنّ الله حاسب المدينة بكمّ الكذب الذي كذبهُ باعة الأنتيكا على السياح، بكمّ الحلفان والقسم لسائقي التكاسي الذين لديهم عمليات لأطفالهم في المشافي ويجمعون تكلفتها، بكمّ الغمزات المُتبادلة بين حويّصة سوق الحميديّة وأصحاب المحلات
ليبيعوا عربيّاً سلعةً بأضعاف ثمنها، يالله كم كذب السوريون!! وكم كان حسابهم عسيراً في السنوات الحقيرة الماضية.

تُعجبنا التفتيلة في السيارة، نضعُ أغنية الموسم نفتح نصف الشبابيك، يخرجُ أحدهم نصف يديه مع سيجارة، الآخرُ يقود السيارة ببُطء، يفرحون عندما تقطع فتاة الطريق عليهم، يبتسمون لها، تحرّشٌ عابر مُطبّعٌ معه. عندما سافر الشباب رأيتهم يُمارسون نفس التفتيلة في الحمرا والروشة والمنارة ببيروت وقيل لي أنّهم يفعلون ذلك في برلين وأربيل ويكتفون بالهرولة في مولات دُبي للحاق بأبواب الخروج، بأيديهم الفارغة إلا من العجز.

هناك أمرٌ مثير في المدينة القديمة أيضاً، ثمّة من اشترى الشوارع والأرصفة وصار يؤجرُك أمتاراً لركن سيارتك، أنا مازلتُ أتعجّبُ من وقاحة الڤاليه باركينغ، كيف يؤجرونَنا أرصفتنا وشوارعنا ونشكُرُهم ونكرمهم زيادة على هذه الأتاوة؟ أي بلطجة أقنعتنا بهذه المُمارسة؟

الملامُح كُلّها تدلّ على أنّ هذه المدينة القديمة في طريقها لتتحوّل إلى مكان سوقيّ بكُلّ ما تعنيه هذه الكلمة من سوء، رُبّما البعض ينتظرون أن تظهر الرداءة أكثر ليشتروا مدينة قديمة أخرى، يبيعونها من جديد.

وسيم السخلة

صيف 2023

طعمُ أيّام الإمتحان هو نفسهُ منذ الصف الأول!

بطعم الميرميّة المغليّة.. مُرّ، كانت ماما تعدّ الميرميّة للمغص، لم يكن مغصاً، كان عادة النقّ قبل الإمتحان

يوم الإمتحان تسمع أسوأ صوت لمنبّه في العالم، مهما كانت الأغنية أو الموسيقى، رنّة منبّه الساعة صباح الامتحان واحدة، تُشبهُ الحلقة الأخيرة في مسلسل الانتظار، حقيرة

البرد الذي يأكل أطرافك (أنت الذي لاتعرفُ البرد) لاتعنيه درجات الحرارة، صوت فيروز الشتوي البعيد يبدو وكأنه حُزنٌ عليك، صوت فتح باب الصوبيا وأنت في أبعد غرفة عن الصالون يُشعرك أنها تحتاج 10 ساعات لتتوهّج، حتى القهوة المغليّة تشربها باردة، يطلُبك الحمّام 4 مرّات في ساعة!

تكون الشمس بيضاء صباح الامتحان، لا أشعة لها، فقط بياضٌ بارد متسلّل عبر الغيوم، تتمنّى لو أنّ يُعطوك 5 دقائق أخرى ولو كنت قد غفوت منذ دهر وعندما تستيقظ تكتشف أنه لم يكن هناك من غيوم بل كان مناماً

العصافير تُصدر أصواتاً غريبة، اصطكاكُ أسنانها مع بعضها وليس تغريداً، أشعرُ أن العصافير تنتظرُ قيامتي لتغفو من جديد

في صباح الامتحان تكتشفُ أنّ أقلامك الزرقاء جميعها سائلة لاتصلح لورقة الإمتحان، وأنّ ماحفظته لايُساوي سؤال شاهدّتهُ صدفةً فوق طاولتك

الناس في الطريق يتركُونك لمصيرك، لا أحد يُسلّم عليك، الحارة تبدو حيّاً آخر لاتعرفه، أطفال المدارس يتطلعون إليك كندّ، كيف يعرفون أنّ لديك امتحاناً مثلهم؟

في الحافلة لاأحد يتعاطى معك، وكأنهم يعرفون جميعاً أنك تخون الحياة اليوميّة وتقدم امتحاناً، تنظر للساعة كلّ دقيقة رغم أنّ الوقت مازال بعيداً، تتحرّك العقارب بسرعة الحلزون ولكنّ الساعة فجأة تصيرُ مكتملة

في باب الجامعة تنسى من أنت، أو تتذكّر أنك طالب وعليك البحث عن بطاقتك

في مدرّج الامتحان أنت متهم بلاسبب، يتطلّعُ إليك المراقبون وكأنك مجرمٌ محتمل.. في الحقيقة أنت لم تفعل شيء لكنهُ تقليدٌ يتوارثهُ المراقبون وربّما يتعلمونه بدقّة، بثّ الرّعُبْ!

*في الامتحان – لوحة لممدوح قشلان 1959

أنا وجدّي وصحف الصباح 🗞️

كان جدّي العزيز جداً يُرسلني كلّ صباح لأشتري له الصحف اليوميّة المحليّة، كانت القاعدة أن أشتري ٢/٣ من الصحف الحكوميّة لأنه يعرف سلفاً تكراراتها. كما أشتري له صحيفة الاقتصادية الأسبوعيّة ومجلة أبيض وأسود والكفاح والمحرر العربي وغيرها من الصحف التي كانت ترضى الدولة عن توزيعها محليّاً والتي انضمت لها الوطن السورية في 2006. كان ينظرُ بقرف إلى سالب وموجب الفضائحيّة.

أيضاً كان أحد السائقين على خط بيروت – دمشق يُهرّب لجدّي بعض أعداد الصحف الممنوع بيعها محليّاً منها النهار وأعداد من البيرق والحياة والشرق الأوسط والسفير أحياناً وصحف أخرى..

ومازلتُ أذكر يوم بدأت صحيفة الدومري كيف أرسلني جدّي لاشتري 4 أعداد اضافيّة ليوزعها على ضيوفه، فقد فاجأتهُ جرأتها وقال يومها: انشالله يكفو هيك. لاحقاً تمّ ايقاف أعداد من الجريدة وسحب ترخيصها كما أذكر..

حديث الجرائد هذا كان في آواخر التسعينات وبداية الألفيّة، ولم تكن سنوات مثاليّة بالطبع لكن كان فيها بعض الأمل بالمستقبل والمشاركة، ما كنتُ ألحظهُ أنني بعد أن آخذ حصّة جدّي من الصحف كان صاحب المحل يحزمُ الأعداد كمُرتجعات، فهو يعرف زبائن الجرائد وكانوا يتناقصون باستمرار، وهكذا صار يحزمُ كلّ يوم عدداً أكبر ليُرجعه إلى مؤسسة توزيع المطبوعات صباح اليوم التالي، كانت المؤسسة تتركُ الصحف الجديدة أمام المحل وتأخذ المرتجعة باكراً قبل أن يفتح، كانوا مُطمئنّين أنّهُ لا أحد يسرقُ الصحف، لا أحد يهتم إلا وقت التعزيل، كان الجيران والأقارب يسألوننا عن جرائد قديمة لمسح البللور ووضعها تحت الطعام.

مع صحف جدّي تعرّفت إلى الصحافة، كانت زاوية قوس قزح للراحل وليد معماري وزاوية عادل أبو شنب أول عهدي بالقراءة الصحفيّة، كما كنتُ أنظر باحترام لتحقيقات جريدة الثورة في السنوات الأولى للألفيّة حيث كانت تحمل جرأة تسبقُ بها باقي الصحف المحليّة وكان كل أسبوع على الأقل هناك تحقيق استقصائي ضخم يُحرّك مياهاً راكدة.

على عكس ما يراهُ الناس عن تلك الحقبة -العقد الأخير قبل الحرب- كنتُ أشاهد صعوداً وهبوطاً في الصحافة المحليّة وليس صعوداً فقط، كانت بهدوء تتخلّى الصحافة عن أدوارها لصالح أخبار المسؤولين والمواد غير المُجديّة، حتى مرّة مرحلة كان التحقيق الصحفي فيها غائباً..

كُل هذه الذكريات أثارتها فيي هذه الصورة التي وضعتها غلافاً ل مدونة الشأن العام – سورية، كيف كان السوريون مشغولون بالمجال العام وكيف هُمُ اليوم مشغولون بالمجال الخاص، أحبُّ أن أُسهم في إعادة الإعتبار للشأن العام في سورية.

وسيم السخلة / دمشق

عشرُ حقائب سوريّة

نستخدم تطبيقات مجانيّة لكنها تتطوّر كلّ لحظة،ونحن مكاننا، أقصدها حرفيّاً هذه المرّة لا مجازيّاً

أنا في دمشق، صديقي في كندا، يعيشُ في مدينة يصعُب عليه لفظ اسمها.. صديقة عتيقة تنتظرُ الشمس منذُ عدّة أيام في السويد.. تنتظرها بملل

شقيقتي في بريطانيا تكتشفُ الطبيعة من جديد، صديقٌ ينتظر المترو في دبي، يأتي بسرعة، لاوقت للانتظار.. آخر يتشاجرُ مع ڤان رقم 4 في بيروت..

أحدهم صار بعيداً جداً يقضي يومهُ في تعليم الأميركيين مكان سورية في الخريطة.. ويشرحُ لهم ما حصل في الحرب فيخوض حرباً جديدة مع العالم الآخر

ونحنُ صغار كنّا نرى خريطة العالم ومركزها سورية، لكنّ الخرائط المدرسيّة مُضلّلة ركزنا فيها على سورية وبلاد الشام والوطن العربي، كلّماً كانت تتسع الخريطة مزيداً من الدول كانت تصغر سورية، وتصغُرُ كثيراً

عندما سافرنا وارتحلنا اكتشفنا أن لكلّ بلد خرائطُه، وبالكاد تظهر منطقتنا كلّها وليس سورية فحسب، بالكاد يمكنك أن تشرح للناس قضايانا العادلة وغير العادلة، عاداتنا الأصيلة والمسروقة، تاريخنا المُصدّق والمزور، غاباتنا المشمسة والمحروقة، أرشيفُ انتصارات هزائمنا، لون الرماد فوق المدن، في جدران المؤسسات الحكوميّة، في كوريدور مدرستي الإبتدائية، على شُبّاك تابوت للنقل العام، كان أخضراً وأزرقاً وأحمراً وفي سنوات الرخاء والمصائب كان أبيضاً..

ونحنُ هُنا، يقلق الأصدقاءُ في تركيا، يتمنّون لو أنه لدينا انتخابات ثم يقلعون عن الفكرة بسرعة، يخوضون حرباً في روسيا، يخسرون أرزاقهم في مصر، يتسوّلون أموالهم المسروقة من بنوك لبنان، يتعلمون الألمانيّة للسنة العاشرة، ويعدّون أنواع الطيور في أستراليا فيكتشفون أن التنوع في بلادهم كذبة، أقصد التنوع الحيواني بالطبع

صار همُّ الناس مركباً، بلادٌ جديدة يحملون همومها، اليمين واليسار، القوانين والقرارات، نخنُ خارجون من بلاد لاتسألنا ولا نسألها، نُحبّها ولا تهتمُ لأمرنا.. من أين جائتنا هموم الديموقراطيّة والحريات وأحزاب الخضر!

يحملُ كلّ سوري عشر حقائب كبيرة، حقيبةٌ للمؤسسات الحكوميّة، يحمل فيها ألف صورة لهويته وتسعمائة اخراج قيد وتسعين تأجيلاً وثلاث موافقات سفر، ودفتراً لخدمة العلم ودفتراً لسيارة والده، ودفتراً للعائلة، ودفتر النهاري مجلداً بالأحمر لأنه كتب عليه حلمهُ في المدرسة ودفتر الليلي مجلداً باللون الكحلي حيث صلحت لهُ المعلّمة الجميلة وظيفة الفرنسي ودفتراً للرسم رسم فيه بيتاً بسقف قرميدي رآه في أفلام مُترجمة، ودفتراً للموسيقى بقي فارغاً لسنوات، ودفتراً للدّين انتزعهُ من بقاليّة الحارة بعد ما باع خاتم أمّه وسدّد الدين قبل الرحيل ودفتراً لقسائم المازوت المُباعة، ودفتراً أثرياً لقسائم التموين، ودفتراً للقاحات التي أقحموها في حلقنا ذات مرّة في المدرسة والمستوصف.. ودفتراً فارغاً ليكتب خطته الفاشلة

في حقيبة أخرى نحملُ بهارات لم نستخدمها، كركم، وفلفل حلو وفلفل حار وفلفل متوسط بينهما، ونعنع يابس وجوزتين طيب وأوراق غار ووكمون مطحون وكمون حب وكربونة وسمّاق وعشر مكعبات ماجي، أعرف صديقاً استخدم من كُلّ هذا مكعبات الماجي فقط، وعندما عاد (عاد ظلّهُ) وزّع البهارات على من بقي هُناك وهم بدورهم جعلوها في الرفّ الأخير ينقلونها من حلم لآخر.. فإنذارات الحريق لاتحتمل هذه الروائح

الحقيبة الثالثة مخصصة للملابس الداخليّة البيضاء، معظمها اشترتها الأم السورية لأولادها وزوجها من سوق الحميديّة بقياسين، الأول قياسه الحالي والثاني بنمرة أكبر، لم تدري الأم أن هذه الأحجام ستنتهي وسيمتنع أولادها عن تناول السكر أشهراً لخفض أوزانهم، سيتحول شكل الجسم مع شكل الحياة الجديدة، أجسادٌ لاتُشبهنا، كثيرة الرشاقة تحملُ خفّة الرحيل المستمر.

حقيبة السوري الرابعة مخصصة للمناسبات، طقمٌ رسميّ نلبسه مرّة في عرس أصدقائنا، نتحايل مع خياط عربي لنصيف إليه زرّاً جديداً مع كُلّ مناسبة، نضيّق الخصر، نوسّع الجيوب لتتسع لباور بانك، بوط كبير يُشبه الحرب، نحملهُ لأيام المطر، نتوقع دوماً أننا سنستخدمهُ فنبدو به كجنديّ سوڤيتيّ يتجول في مطعم أميركي للوجبات السريعة، نتخلصُ منه حالاً، ثم نضعه في البلكون، نتراجع، نقول سيلزمنا عندنا نذهب للتخييم وهناك نرى الأصدقاء الجدد يلبسون خفّافات خفيفة فنخلعهُ من جديد ونحفظهُ لأنه يذكرنا بالفتوّة، من أفتى بها أصلاً حتى صرنا جنوداً لكلّ هذه الهزائم؟

في الحقيبة الخامسة نحملُ أدوات للعناية الذاتية، بودرة خوفاً من “السماط” وعشر عُلبٍ من حبوب الإلتهاب المحظورة بدون وصفة (خارج بلدنا طبعا) وابر ديكلون قاتلة، وكريماً وطنيّاً لترطيب البشرة يجعلها قاسيةً جيّدة، ونكاشات أسنان نحملها ولاندري معها أنّ أيام المناسف واللحم على الطريقة القديمة ستنتهي بعد أن نعبر نقطة المصنع على الحدود اللبنانية، نحملُ ظروف سيتامول وطني، نعرف أن وجع الرأس سيأتي سيأتي، نجرّب عشر مشاطات للشعر ونختارُ أسوأها حُبّاً بالتغيير، نُحبّ التغيير للأسوأ على طريقة حكوماتنا.

في الحقيبة السادسة نحمل عشر أحلام وألف خيبة وستين تحدّي أُجبرنا عليه منذ طلب منّا استاذ العسكريّة في المدرسة أن نُسمع الحيّ كلّه شعارات الصباح والنشيد الوطني، في حذه الحقيبة شيءٌ واحد محسوس، سجادة صلاة جديدة أخرجتها أمّ من صندوق السرير حفظتها عقدين على الأقل بعد عودة أحدهم من الحج، سجادة ستبقى جديدة دوماً على الأغلب.. لأن اتجاه القُبلة يتغيّر في الخارج

في الحقيبة السابعة نحملُ الحقيبة الثامنة لأننا نخشى أن يكون سوق الخجا غير موجود خارج سورية، وأن نُضطرّ لحمل الهدايا في أكياس نايلون، نعدُ الناس قبل السفر بالهدايا، سأُحضر لك هذا الشيء وتلك الهديّة وكأننا سنعود ونحن نقود باخرتنا.. وفي الحقيقة إن عُدنا فالعودةُ على ظهر شاحنة أو وقوفاً في بولمان.

في الحقيبة التاسعة نحمل كلّ السُتَر، هذا جاكيت للشتاء القارس صحيح أنّهُ مضروب من هُنا لكنّ الوالدة وضعت لهُ رقعةً عليها وردتين، وهذا جاكيت خفيف للربيع سحّابهُ معطّل لكن لاضرورة لزرّه، وهذه كنزة صوفيّة تخلق حساسيّة وتجعلك مدفأة وتلبس تحتها 5 كنزات ولاتلبسها أبداً.. وهذه طاقيّة للشمس لتحمي مقدمة الرأس وتكون بمثابة بطاقة تعريفيّة لك أنك عامل وأن شعار الشركة على الطاقيّة لأنها غرض دعائي وليس لأنك صاحب الشركة، أن لاتملكُ حتى نفسك.

الحقيبة العاشرة لاتعرف ماذا بها، هي التي تركتها في المطار مُكرهاً تحت طائلة فوات الرحلة عليك، وهي نفسها التي سرقها راكب آخر في البولمان عندما نزل وأنت تبكي وترسل ستيكرات القلوب في واتساب، وعلى الأغلب هي الحقيبة التي تضعُ فيها قلبك الذي يضمّ حبيباتك منذ المدرسة وحتى آخر مرّة أحببت فيها بصدق وفارقتها أمام دار الأوبرا.. هذه الحقيبة لا تُسافر معك، انها تُسرق منك وتبقى هُنا للأبد، واذا عُدّت فلن تجدها ولن تجدك.

وسيم السخلة

دمشق 2023

مالذي نفعلهُ في الشعلان؟ منذ خُلقَتْ

نتعجّب من فتاة صينيّة تمارس الرياضة على الرصيف، فلا زبائن لمحلها الذي يبيع الشاي الصيني بطعماته

نراقبُ الهواء برائحة شواء الشاورما واحتراق المازوت والبنزين في مولدات الكهرباء الكبيرة والصغيرة ميكس

ننظر إلى بائع وردٍ يحتّل الطريق، لا أحد يُحاسب أحداً فالورود مسموح لها الطريق، كما هي عربات الصاج

نختار أفضل عربة لبيع التماري كعك ونحصل على أسوء طعمة منها، بلا طعمة أضافو شوكولا وفريز وجوز!

نسترقُ بعض الوقت أمام المحمصة، لأننا نحبّ رائحة تحميص المكسرات، ثم نشتريها من البيرقدار، أو نظام

نجري جولة في محال الثياب، نرى أصدقائنا المغادرين فيها، أشباه ذكريات وأشباه أيام، أين ذهب الناس؟

نعتاد أصوات مولدات الكهرباء، نطبّع مع رائحة قلي الفلافل والبطاطا، نعرفُ أنّهُ زيت مكرّر ألف مرة، ومرة

نرضى بانقسام محل “عرقسوس الشعلان” لمحلين، نسامح بائعي سوق التنابل الذين يحتلون رصيف ونصف شارع

نعود إلى حلويات الورد، سعر عادي طعم عادي لم يتغير منذ عقد ، الوحيد الذي يبيع بابا روم بقطر وماء فقط

نركب مع أصدقائنا، نخفضُ نصف البلّور نُشغّل أغاني 2010 نمشي ببطىء لنُسمع الناس أغنيات مروان خوري

تفتحُ محال جديدة، نجرّبها لمرّة واحدة، ثم نعود إلى المحال القديمة، تهمّنا الذكريات لا الجودة، نحبّ الرائحة

نعود لبطاطا الرواد أو لسندويشات الفلافل الصغيرة عند بيسان، مهما افتتحت محلات سناك جديدة، تبقى جديدة

سندويشات بطاطا الكروكيت وأنواع السندويشات الكثيرة عند سناك هنيء باتت غالية جداً، كما لم تكن في الماضي

يجرّب بنّ الشامي بيع القهوة، الناس هنا لغير التسوق يشترون عادةً لا تلذذاً، يكتفي فرن السكري بمنتصف النهار

تجول السيارات الخليجيّة، يُمارس أصحابها فعل العدم، يمشون ببطء، يحتكّون بالعامّة، يتحرّشون بأحلامهم

نقفُ في الزوايا، نُراقب الماضي الذي كان، لانطبّع مع سائقي الدراجات الناريّة، نكره حضورهم في الشارع وزعرنتهم

نوسّخ ملابسنا الجديدة، نشتري بوظة الفواكه التي ارتفعت مئة ضعف، توقفنا عن شراء بطاطا الكومبرينو منذ عقد!

تفتح محال جديدة للموبايلات كلّ يوم، ميتا المزيّف ينافس متجر أبل المزيّف، ايّما تنافس نفسها، سامسونج لوحده

مأكولات السبكي تزيد اللون الأصفر حولها كمتجر خردل، الرصيفُ متروك لأشجار الكينا الناس يمشون على ذكرياتهم

في الشارع الموازي برود وعدميّة، جمهور السبكي غير جمهور الشعلان، خرّبوا الحديقة منذ سنوات ولن ترجع

جمهور الشعلان يعرفُ محلّ NBA المزيّف وينصح أطفاله بشراء كاسكيتات منه وأعلام للمونديل وكونڤيوس ملوّن

يحفظُ الناس أسعار الفواكه الموسميّة، يفاضلون بين أنواع الكمأة، يحبّون الوجوه البشوشة مهما فاصلتها

يُحبّ الناس ألوان المخللات ولا يشترونها، يعاينوها ويسألون عن قساوتها، ثم يشترونها من باب سريجة

يمشي الناسُ بلا هدف، يصطدمون ببعضهم، يقولون جميعاً “نزلت ع الشعلان” وكأنها قاع المدينة بالفعل

ينتهي في كلّ الأماكن بعد رمضان، إلا في الشعلان يبقى التمر هندي والعرق سوس مستمر، يتّسعُ الشارع بالإزدحام

الناسُ يُعلّقون صور الرئيس، ويحتفلون بالمولد النبوي، ويشترون شرطة المرور، ويوسخون وينظفون كل يوم

في الشعلان نحن لاننتظر أحد، لا نواعد أحد، المكان هو الناس، من كلّ الطبقات، هناك طبقة وحيدة تحبّ المكان

بعض الشباب يأتون زيارات من ألمانيا ليس لأجل عائلاتهم، يتواعدون في الشعلان، يشتهونها، يشتهون حياةً قديمة

وسيم السخلة
الشعلان 2023

المدينة تختفي كحبيبة، ونحنُ نعيشُ خيالها

أبدأ بتدوين هذا الحديث من مقهى عتيق في وسط دمشق، مقهى الكمال الصيفي، من النافذة الكبيرة هُنا أستطيع رؤية خطوط سكة الترامواي التي أوقف العمل بها قبل نصف قرن. إلى جانب المقهى سينما الكندي التي افتتحت مطلع القرن الماضي وتعلن عن حفلتين لعروض سينمائية يوميّاً لكنها في الحقيقة فارغة يوميّاً، حتى أنّ الباحثين عن مكان مظلم لا تستقبلهم، فالمسؤول عنها يعرفهم من وجوههم، كما قال لي مرّة.

*كُنت قادراً على استخدام الصور لكل جملة من الآتي، لكنني أفضل ترك تصور ذلك لخيالكم، فأنتم أيضاً أهل وسكان المدينة وتعرفونها، كما أفترض، وإن كان هذا الحديث عن دمشق فإنه ينسحب على مختلف المدن في سورية حسب ما اختبرت.

تغيّرت المدينة، تضيقُ يوميّاً المدينة التي نتخيّلها، فتعالوا نُلاحظ معاً ما حدث ويحدث.. قد تكون التكملة ترفاً فإذا شعرتم بذلك توقفوا عن القراءة، قد تكون مُملّة..

لقد ضاقت الأرصفة وصارت عالية!

جربوا المشي اليوم في المدينة، كم تستطيعون الاستمرار؟ هل ما زال التجول مُمكناً؟ لقد ضيّقوا الأرصفة القديمة التي كانت تُناسب تجول أربعة أصدقاء إلى جانب بعضهم، اليوم كُل الأرصفة الحديثة لا يستطيع فيها رجل وزوجته أن يتجاورا في المشي، على أحدهما أن يسبق الآخر..

لقد قطّعت أوصال الأرصفة وصارت جزراً ولم تعد مساراً متصلاً، أيضاً نقلوا الأشجار لوسط الرصيف فصار لزاماً النزول إلى الشارع والصعود منه مع كل شجرة، ولم يكتفوا بذلك، بل قلّموا الأشجار جيداً ويواظبون على ذلك أكثر من تنظيف المصارف المطرية، وبعد أن يقلموها يختفي الظلّ تماماً ويصيرُ المشيُ في هذه الأرصفة المليئة بالحفريات مرهقاً في الصيف، مستحيلاً في الشتاء.

 كانت الأرصفة تعلو الشارع بارتفاع موحد، اليوم لكل رصيف معاييره، وبات التنقل من الرصيف إلى الشارع يحتاج انتباهاً أكثر خصوصاً إن كنت تسير مع أطفالك، بالمناسبة اذا كان ابنك رضيعاً وقررت التنزه معه أو الذهاب إلى موعد ووضعته في عربته قد يكون هناك خطورة، العربة لا مسار لها فالرصيف ترتفع وتهبط بلاطاته الشاحبة (التي كانت ملونة) ـ حكماً ستهتز العربة بشكل مزعج، لا تستهِن بذكريات الصغار عن هذه اللحظات، فانا أتذكر كيف كان بعض الأطفال يرموننا بالحجار ونحن داخل القطار ذاهبين إلى عين الفيجة.

أيضاً تختفي الحواف من الأرصفة، لقد تمّ تحطيمها أو بناء جدار محلّها أو وضع الحديد الشائك عليها بحيث لم تعد الاستراحة ممكنة وأكثر شعور يتملّكك أنه عليك المشي بسرعة ولا يمكنك التمهّلُ أبداً، رغم أن الاستمتاع في المدينة جزءٌ منهُ مشي فيها..

بالمناسبة، كُل هذا هو عمّا بقي، فالأرصفة تختفي يوميّاً، إن لم يأكلها الرصيف فتأكلها السيارات التي تعتبر الرصيف كراجاً لها، ولا تتوقف الوقاحة بتجاوز بعض الرصيف، بل بأخذه بكامله لصالح السيارات في كثير من الشوارع، أيضاً بعض الناس يسرقون أطاريف الأرصفة وأحجارها!

ليست السيارات فقط، أيضاً البسطات المكررة، وكراتين البسكويت وبرادات الكولا والأكشاك التي تتجاوز المساحة المرخصة لها بعشر أضعاف.. جرّبوا محاولة المشي من جسر الرئيس إلى البرامكة مثلاً، اذا استطعتم المشي بدون تحرّش أو تعثّر أو مشكلة، فأنتم مُباركين.

يكفي الحديث عن الأرصفة، تعالوا نحكي عن الحدائق، مادامت المدينة قد توسعت كثيراً، فلماذا بقيت الحدائق محدودة؟ ولماذا بقيت على المخططات في المناطق الجديدة؟ وما الذي تغير في الحدائق القديمة؟

أبواب الحدائق الكبيرة التقليدية مغلقة دوماً، ستجد فقط بابا صغيراً فتح إلى جانب الباب الأصلي، الباب لا يرحب فيك تجد عليه لوحة عليها تعليمات تشبه التعليمات الامتحانية في جامعاتنا..

ممنوع إدخال الكرات! ممنوع إدخال الحيوانات الأليفة! ممنون المشي على العشب! ممنوع إدخال الطعام والشراب! ممنوع إدخال الدراجات! ممنوع قطف الزهور، وممنوعات أخرى.. المسموح فقط هو الدخول والجلوس في كرسي غير مريح أبداً، يبدو أنّهُ تمّ تصميمه ليكون غير مريح!

كانت الحدائق في الماضي تضمّ طاولات حجريّة حولها مقاعد أو قعدات نصف مدوّرة، وفي أسوأ الأحوال كانت توضع الكراسي العريضة الخضراء إلى جانب بعضها، فكان من المُمكن أن تأتي عائلة او عائلتين للاستمتاع في الحديقة العامة. اليوم كراسي أقل لا تتقابل ولا تتجاور كأنها منافي فردية، أسوار عالية للحدائق وهذا لا يعني بالطبع أنها آمنة..

كُل هذا عما بقي من حدائق أصلاً، بعض الحدائق احتلّت المطاعم والنوادي أجزاء واسعة منها كحديقة تشرين وبعضها تمّ نبشهُ لأجل كراجات طابقيّة، وبعضها تغيّر للأبد. بعض الحدائق باتت موصومة بأنها بؤر غير أخلاقية، بالتالي بعد أن كانت الحدائق للجميع صار الجميع يهرب منها، وبات نادراً أن تواعد صديقك في الحديقة أو تأخذ أطفالك للتنزه فيها فأنت لا تحب بالطبع أن يُشاهد أطفالك شاب وفتاة يقبلون بعضهم، (نعم نحنُ نقبل ذلك فقط على الانترنت لكننا نُحاولُ تجاهله عموماً فيهرب العُشاق إلى دور السينما والحدائق، هرباً من محيطهم).

بالمناسبة، حتى مناهل مياه الفيجة النظيفة الجميلة التي المخصصة للشرب في الحدائق باتت محدودة جداً، أو معطّلة، بالمقابل فإن أي حديقة ستجد على بابها كشكاً يبيع المياه المعبأة بضعفي تسعيرتها.. حتى أنها تحمل نفس اسم النبع الذي يسقي كُلّ المدينة.. مياه الفيجة.

لقد تغيّرت الأماكن الدينية أيضاً، المساجد صارت للصلاة والدروس المحدودة فقط، كانت المساجد منارات مفتوحة دوماً، اليوم تفتح وتغلق قبل وبعد دقائق من الصلوات، وكذلك الكنائس. أيضاً التكايا وسبق الخيل (أرض المعرض القديم) التي أوقفت لترحب بالعابرين صارت مطارح للاستثمار وأسواقاً تقليدية وبازارات وهياكل فارغة.

وأين المقاهي الشعبية، إنها تختفي لتتكاثر المقاهي الجديدة، المكلفة!

كانت المقاهي متنفس الناس للقاء والتجمّع والحديث والتسلية وتداول الأخبار وتأسيس الجمعيات والتفكير المشترك والسرد القصصي، وكانت دوماً رخيصة وأسعارها مقبولة لأي شخص ولو كان عاطلاً عن العمل، ولم يكن فيها تمايز طبقي كبير، فهي في نهاية المطاف طاولات خشبية وكراسي من الخيزران وكان يمكن أن يتواجد في جلسة واحد أكثر من عشرة شخص يضمون طاولاتهم إلى بعضها بدون اذن فهذا ما كان عادياً وهم قادرين على سماع بعضهم البعض وليسوا مضطرين لدفع ضرائب أو دفع مبالغ زيادة على مشاريبهم وأراجيلهم.

اليوم باتت المقاهي الجديدة بطاولات أعرض تجعل سماع الشخصين المتقابلين مشوشاً أحياناً، وأكبر طاولة يمكنها أن تتسع 6 أشخاص وهم حكماً لا يستطيعون سماع بعضهم بشكل جيد، فالكراسي لم تعد ضيقة، بل بات لها أطراف وأحياناً تكون الكراسي عبارة عن كنبات عريضة لا يمكن معها أن يجلس أكثر من 4 أشخاص لمائدة واحدة.

صارت المياه في المقاهي مدفوعة بعد أن كانت أباريق مجانيّة، وصارت اجبارية (لا يحدث هذا في الدول الأخرى بالمناسبة)، كما صارت هناك حدود دنيا أحياناً وصار زبون الطعام مقدماً على زبون الشراب، وفي مناسبات معينة صار الاحتفال بميلاد صديق تلحقه تكاليف خدمة وفي بعض المناسبات تجد تسالي رمضان الإجباريّة، انا لا أعرف شعباً مجبراً على التسلية مثلنا!

يطول الحديث عن تحولات المدينة، الساحات الكبيرة عديمة الفائدة، التصاميم والمشاريع التي صرفنا عليها لسنوات طويلة وفشلت كساحة العباسيين، الشوارع التي اشترت نصفها شركات خاصة وصارت مصفّات مدفوعة ووصلت إلى جوار المنازل، المنشآت الرياضية التي تحولت أجزاء منها لمحال بيع السندويش والدجاج، أنفاق المشاة المظلمة منذ تمّ إنشائها، التصاميم الغبية في فصل الشوارع كما في منّصف شارع الثورة، ألوان الأضواء المتنافرة (إن تمّ تشغيلها)، روافد الأنهار التي صارت مكبّات زبالة، أدراج الجسور التي صارت ملك المتسولين وباعة الدخان، النهر الذي ما عاد نهراً وصار ساقية لشهرين في السنة، وعشرات التحولات الأخرى.

مع الأسف في زحمة صعوبات الحياة تُباع المدينة برضا سكانها ومشتروها هم أيضاً سكانها بالمناسبة، أهمل الناس حقوقهم في المدينة، وظنّوا أن بيع المساحات العامة أو التحايل في بيعها شرط لازم لتطوّرها، ففي الوقت الذي تشكل المساحات العامة فيه أهم مميزات المدن تجدنا نتخلّى عنها ونضيّقها يوماً بعد آخر.

في المدن القديمة والتاريخية يفتخر الناس بالأنهار التي تقطعها والحدائق والساحات والشواطئ وباحات الأماكن الدينية الواسعة، أما نحن فباتت المجمعات التجارية والمقاهي الغربية والمباني البشعة الزجاجية التي لا تشبه المدينة هي ما يدلّ الناسُ عليها ويعتقدون أنها الأفضل.

سندرك عندما نستريح أن الرجوع إلى الوراء صار مستحيلاً والمدينة باتت مجرّد فوضى لا تشبهنا، وهذا قد يُفسر اتجاهنا في مواقع التواصل الاجتماعي لمشاركة صور المدينة في تاريخها الحديث الأنيق، هذه المشاهد يُمكننا استعادتها وليس البكاء عليها فقط.

وسيم السخلة

دمشق 2023

ما اُسميه فجوراً طبقيّاً

هذه التدوينة ليست إدانة لنا جميعاً لأننا نمارسُ هذا الفجور بقصد أو بدون، لكنها محاولة للانتباه فالقادم كبير وقاسي.

يُرسل لي صديقي صورةً من داخل النادي الرياضي الذي احتلّ جزءاً من حديقة تشرين العامّة، ويغمزُ لي هازئاً “مازالت مساحة عامة، انظر إلى الناس يقتربون كثيراً من سور النادي”.

صديقي العزيز لم يُدرك حقيقةً جليّة، أن الذي يقترب من السور هو النادي، فهو الغريب المُشاد في مساحة عامّة كانت كُلها مخصصة للناس، قبل سنوات اقتُطع جزء واسع منها لصالح مجمّع يضمُّ مطاعم وصالة رياضيّة وبار على سطح مكشوف يُطلُّ على المدينة.

قبل 5 سنوات كتبتُ تدوينة أحاول فيها هزّ الوعي الجمعي الذي تجاهل احتلال حديقته الكُبرى في العاصمة من قبل رأس المال متواطئاً مع الجهات الرسميّة!

أعدّتُ البحث وقتها خلال الشهور التي تلت التدوينة فلم أجد إلا مقالاً يتيماً أشار إلى تدوينتي نفسها، وهكذا نسي أو تناسى آلاف الصحافيين والمستصحفين أيضاً وجامعي الإعجابات الوهميّة، والناشطين والحقوقيين والناس أنفسهم، هذا الإعتداء..

لا أودّ هُنا شرح الطبقات وإلا لكنتُ بدأت بتعريف وتأصيل مفاهيمي، لكنها مُحاولة للتذكير بمظاهر وصفها صديق آخر قبل أيام في حديث مشترك ب”الإباحيّة الطبقيّة” التي تنتشر من حولنا اليوم في سورية أكثر من أيّ وقت مضى.

على الرغم من أنّ الظروف الاقتصاديّة التي تعيشها الدولة والناس هي الأقسى على الإطلاق، على الأقل خلال القرن الماضي الذي شهد ولادة الدولة الوطنية في سورية، فإن الفارق الطبقي اليوم أكثر حدّة من أيّ وقت مضى أيضاً.. على الأقل كما يبدو لي.

نعم في كلّ البلاد الناس طبقات اقتصاديّة واجتماعيّة متعددة، تضيق وتتسع تبعاً لتقسيم الثروة وشكل السلطات وعلاقاتها والقوانين وتنفيذها، كما تؤثر الثروات وحدود الملكيات وعوامل أُخرى لست بوارد تصنيفها وترتيبها.

الجديد والوقح اليوم هو “الفجور الطبقي”، الذي بات وجهاً أساسيّاً من وجوه سورية، وهو المُلاحظة الأبرز لأيّ زائر من الخارج، اسأل أيّ أحد تعرفه يزور سورية سيقول لك أن هناك تناقض كبير، هناك سورية المُتعبة الضعيفة الفقيرة وهناك سورية الأخرى، ومع الوقت يا للأسف تحوّل هذا الفجور ليكون المُحرّك الأكبر لاقتصاد البلد وتكريس الفروقات الطبقيّة وانشطار الطبقات يوميّاً.

 في الزمن الماضي -وأتركُ لكلّ قارئ تخيُّل نقطة نهايته- كانت المطاعم في سورية تنفتحُ إلى داخلها، فكانت الستائر الكتيمة تغطّي الواجهات، وكانت الطاولات لا تمتدّ إلى الخارج، فيبقى الرصيفُ رصيفاً وتبقى مسألة الاستمتاع بوجبة مُكلفة أمر شخصي وعائلي وليس موضوعاً للمشاركة والتقييم، اليوم فإن النوافذ المفتوحة والطاولات العريضة التي تحتلُّ الأرصفة والتي تجاور الشوارع التي تحتلها مصفّات المطاعم هي سمة المطاعم وميزتها الكبرى، وبات الممشى للناس ما تتركهُ الطاولات بينها من فراغات، بالمناسبة لقد أجّرت البلديات الأرصفة بطريقة رسميّة وبشروط كتبت على الأوراق فقط.

كان السوريون في زمن مضى أكثر حشمة في التباهي، فكانوا يسافرون إلى أي دولة ويعودون من أسفارهم ببعض ألبومات الصور المطبوعة حيث يُشاهدها المقربون وهم بالعشرات على الأكثر، أما اليوم فالحصول على فيزا أو تجديد جواز السفر أو عبور الحدود أو الانتظار في بوابة عاديّة في مطار بيروت والسفر بالطائرة ووجهة الطائرة وبوابة الفندق وتفاصيل البلاد الأخرى تستلزم الكثير من الصور والفيديوهات والحالات، وكُلّما زادت نجوم الأماكن حظيت بكمٍّ أكبر من الصور والتعليقات، بالمناسبة اليوم جمهور ومشاهدي ووصول هذه الصور بالآلاف لكن المتفاعلين معها بالعشرات، وكأنهُ صمتٌ طبقي بانتظار فرصة للصراخ.

في الماضي حمل الناس أكياس القُماش ليس لأجل البيئة والمناخ، بل كانوا يضعون فيها مُشترياتهم من الفاكهة والغذاء لكي لا تلفت الأنظار فهم لم يحرموا أنفسهم من التمتع بحشمة، وكانت الأشياء مُتقاربة ولا مجال كثير فيها للتفاخر، مثلاً كانت مُنتزهات الربوة وعين الفيجة في متناول الجميع تقريباً ولو لمرّة في الشهر، وكان سقفُ التفاخر أخذ علبة المحارم ووضعها على تابلوه السيارة، والمفارقة أنّ الجميع تقريباً كان قادراً على ذاك ومن الطبيعي أن يكون سائقو التكاسي والسرافيس وموظفي الحكومة من القادرين، أما اليوم فوجبة للعائلة في مطعم عادي لخمس أشخاص تعني 5 رواتب لموظف من الفئة الأولى..

في الماضي أيضاً، ولمّا كانت الأعمال أكثر استقراراً فقد ألحق أصحاب الأعمال استغلالهم لموظفيهم وعمالهم بجانبهم الأبوي الخيري، فكان العامل لديهم يطمئنُّ إلى عيديّة في العيد، وتكاليف عرس بسيط، ودعم للأولاد في المدارس، وكسوة شتويّة تُقدّم إليه كأموال زكاة رغم أنّ مجموع هذا قد لا يُلامس الحد الأدنى الإنساني للأجر!

لكن كانت معظم الأطراف راضية، اليوم فغياب الاستقرار يجعل من العلاقة بين أصحاب الأعمال وعمالهم نديّة جداً، كيف لا وراتبهم يفقد قيمته يوميّاً، ولهذا تضخّمت جداً السرقات وقلّة الأمانة، وأنا أقول لكم أنّ البعض يُمارس السرقة من عمله مُطمئنّاً وراضياً لأنه يعتقد أنّ حقه مسلوب، وكذلك علاقة صاحب العمل بالمؤسسات الرسمية وكذلك علاقتها بموظفيها وكذلك علاقة المُراجعين مع الموظفين الذين باتت الرشوة طريقهم الوحيد للحياة الكريمة أمام أطفالهم.

شكّل المُقتدرون في الماضي الجمعيات الخيريّة وباتت وصيّتهم لأولادهم لأنهم كانوا يُدركون بشكل جيد أنّ جُزءاً من هذا الإفقار الذي يتعرّض له الناس هم مُسببوه، وكانوا يحمون أنفسهم وأموالهم من انفجار طبقي يُنتقم فيه من ذواتهم، وكانت هذه الجمعيات تطبيقاً للزكاة وتحصيناً للمجتمع وأيضاً كان الجميع تقريباً راضين.

مع كُلّ الانقسام الطبقي كانت المدينة مُتاحة، فالأسواق الشعبية كانت ما تزال كذلك، والحدائق كبيرة وأنيقة وواسعة، والمهرجانات الشعبية من الزهور وحتى الفنون والمسرح كانت مجانيّة وللجميع، وكان الناس لا يشعرون بأنّ عليهم تغيير ملابسهم بحسب الشارع الدي يقطعونه، وكانوا لا يستحون أن يصطحبوا عائلاتهم للحدائق المجانيّة وألعاب الأطفال فيها، فكان للجميع ممارسات متقاربة وكانت الطبقات معدودة ومعروفة فيما هي اليوم كثيرة، كثيرة جداً ومتداخلة.

أعادت المواقع الإجتماعيّة مسألة الطبقات إلى الواجهة، فبعد أن أنجز الكثيرون نقاشاتهم الجادّة وتأكدوا من فشل الثورات واجهاضها من خلالهم أصلاً توجهوا نحو استخدام هذه المواقع للتمايز الاجتماعي، فباتت محاولاتهم الفاشلة لكسر الطبقات ممكنة، وبات الذهاب إلى أحد المطاعم فرصة لالتقاط الصور وجدولتها على مدار أشهر وهو أكثر أولوية من الحصول على وجبة جيدة أو لقاء الأصحاب أو العشاء مع العائلة.

اليوم يُمكنك ببعض الصور أن تعيد تعريف نفسك وطبقتك، فصورة لك من احدى المدن أو أحد الفنادق كفيل برسم صورتك بالنسبة للآخرين، كذلك ساعة تلبسها شرط أن تكون متقنة التقليد أو باب سيارة لمديرك في العمل أو صديقك الغني.

الذي حدث بالفعل هو انشطار الطبقات، في مراحل ماضية كان الناس يبذلون جهداً كبيراً للولوج إلى طبقة جديدة، فيما حدث اليوم انشطار سريع جعل من بعض أفراد نفس الطبقة ضمن طبقة أخرى مفترضة وقد تتحول إلى حقيقيّة، أتحدث هُنا عن استثمار الجسد وأحياناً بعض السماجة فقط في التحول إلى نجم في المواقع الاجتماعية يُحصّل من المال بفيديو قصير ما تحصّله عائلة كاملة تعمل في التجارة أو تمتهن الطبّ والهندسة! إنه انشطار فقد حدث في وقت سريع جداً وبلا مقدمات طويلة، وبقي هذا النجم وعلى الأغلب هي نجمة يعيش في منزل أهله لكنه منشطر تماماً عن طبقته وحيّه ومجتمعه.

جزء كبير من الانفجارات السورية الاجتماعيّة بدءاً من 2011 لم تكن لأبعاد سياسيّة، كانت تعبيرات طبقيّة ولو حاول الكثيرون إلغاء هذا الجانب، بعض الأرياف ثأر شبابها من أصحاب المعامل الذين كانوا يشغلونهم كعبيد، فعادوا إليها حرقاً وتحطيماً ولو لبسوا لبوس الدين أو البحث عن الحريات وغيرها من دعاوى العقد الماضي. وكما كان استثمار الآلاف وتحويلهم لمتطرفين سهلاً سلسلاً من خلال ليرات بسيطة بات اليوم أكثر سهولة من خلال قروش فقط!

خُلقت خلال السنوات الماضية طبقات جديدة، وبعيداً عن تسميات الناس لها بأمراء الحرب (كان لدينا طبقات ظهرت كأمراء سلام بالمناسبة) فإن هذه الطبقات باتت بحاجة لمطارح للمتع والترفيه، والفضاءات السابقة باتت قديمة ومهملة وغير مُلبّية للرغبات المُحدثة، فانتشرت أماكن جديدة للسهر وللرياضة والطعام الصحي والحفلات الشاطئيّة واستلزمت هذه المُتع مزيداً من العُمال بأجور زهيدة ومزيداً من الخدمات المحليّة بأثمان بخسة وهو ما جعل استثمار فقر الطبقة الأدنى فرصة مرّة جديدة للعمل بأجر منخفض والتشغيل الكبير وفق مبدأ الفرص القليلة أمام العرض الكبير للراغبين بالعمل.

ما اودّ قوله أن الشهور القادمة ستحمل أحداثاً هنا وهناك يمكن تصنيفها ضمن تحرّشات طبقيّة، ستكون لأسباب مباشرة متعددة لكنّ أسبابها العميقة هي أسباب طبقيّة بالمطلق، وستكبر هذه التحرشات وتنتشر وهي قد تؤخر قليلاً الانفجار الاجتماعي الكبير القادم حكماً، في هذا الانفجار إن لم نُحسن التدبير والعمل من الآن سنكون جميعاً مجرّد شظايا..

وسيم السخلة – ربيع 2023

كان من الصعب أن تطمئنّ على مليون شخص.. مذكرات 4 آب 2020

هذه المذكرات هي مذكرات شخصيّة، قد تصف كثير من الألم والمشاعر والتفاصيل وكل التفاصيل

فيها حقيقيّة، اذا كنت تبحث عن مقال سياسي أو اقتصادي فهذا ليس مناسباً لك..

صيف بيروت، الثلاثاء 4 آب 2020

كانت بيروت تلتهب، صيفٌ حارق، البحر يتبخّر، الرطوبة تبطء الهواء فيبدو ثقيلاً، نتنفسه نحن فلا يتحرك من أمام وجوهنا، تخيلوا هواءاً لا يتحرك، يجثم أمامنا في المدينة، منتظراً شيئاً ما، عاصفة، انفجار، نهاية الكوكب، أي شيء آخر..

كانت إصابات كوفيد-19 في تصاعد، وكانت الليرة اللبنانية تهوي، كانت تهوي سريعاً، والناس معها يتخلون عن المستقبل، في كلّ المرات التي تحدث فيها الأزمات يفتح الناس خزائنهم، فيصرفون ماجمعوه، على مبدأ القرش الأبيض لليوم الأسود.. إلا في بيروت، استيقظ الناس في أيام سوداء، فوجدوا أن قروشهم التي جمعوها قد اختفت، هكذا فجأة ثمّة من سرق بلد كامل، لم يسرق بنكاً، سرق المصرف، لقد كان الناسُ مفلسين تماماً، ليس لأنهم لايملكون الأموال، بل لأن هناك من سرقها..

كان الثلاثاء يوماً بين فترتي حجر أقرتهما الحكومة، لم يلتزم الناس احتراماً للقانون، بل درءاً للكارثة الصحية المستمرّة، المشافي ممتلئة والضحايا يتمّ عدّهم كأرقام فقط، حين يعلنون اصابتك أو موتك لا أحد يسأل عن عائلتك أو أحلامك أو آخر شيء جيد فعلته، ولاحتى عن موقفك السياسي وحزبك، يسألون فقط عن عمرك، وعن مكان سكنك، وأين توفيت، وكم مرّة دفعت لإجراء اختبار الكورونا

.. هكذا كانت بيروت، كورونا تنغل نغلاً، رطوبة عالية جداً، صيف مشتعل الناس فيه غير قادرين على الخروج للسياحة كما اعتادوا حيث أموالهم سرقت والحدود مغلقة بسبب كورونا تماماً، الجميع صامت، وحدهم سائقو التكاسي يحللون الأزمات، وحدهم يحدثونك عن كيف سترجع الأموال، وحدهم يشرحون لك مسألة الشريحة الالكترونية التي سيزرعونها في أجسادنا فور اكتشاف اللقاح، وحدهم من يحدثونك عن كذب اختبار الكورونا، وعن الدكاترة الأميركيين الذين ركبو معهم وقالوا لهم أن الفيروس مؤامرة، وحدهم من يقتنعون أن أقاربهم الذين يموتون بالكورونا لم يموتو بالكورونا بل تم قلتهم بالوهم..

صباح ذلك اليوم

استيقظتُ كسلاً فأنا بحاجة للذهاب للمكتب حيث كنت أتدرب مع منظمة وعليّ بعض المهام التي انجزها من كومبيوتر المكتب، دخلت إلى المكتب مع سندويشة لبنة بالمكدوس اعتدّتُ تناولها من محل يُلاصق باب بلدية بيروت، تجاوزت الحاجز الأمني نحو ساحة النجمة، حيّيتُ عبد الله حارس البناء سألته عن السودان وأجابني بكلام لم أفهمه،

أنا في البناء الأنيق الأبيض المميز والذي يعلوه أسد حجريّ طائر وسط ساحة النجمة ببيروت حيث استخدم سابقاً كسفارة للايطاليين ومكاتب لشركة روتانا وغيرها.. في المطبخ أعددتُ الشاي، لا أحد سوى مدير المنظمة، أغلقت خلفي باب المكتب، شغلتُ التكييف ووضعت على الشاشة الأخرى مسلسل شارع شيكاغو.. وبدأت العمل..

للصراحة فإن تناول المكدوس في هذا الجو الحارق ضرب من الجنون، لكنّ إضافة اللبنة إليه (على الأغلب هو اختراع يُسجل لصالح محلات الفاكهاني في بيروت) جعل من المكدوس واللبنة والخضروات مع كأس من الشاي الأحمر لذّة معقولة وسط يوم صيفي حارق..

كان هاتفي يمتلئ بالإشعارات من مجموعات الواتساب الإخبارية اللبنانية، والتي تنقل كل شيء عن أي شيء، لقد عرّفتني هذه المجموعات التي مازلت عاجزاً عن مغادرتها على كل شيء يخص لبنان، بت أعرف كيف يصرح السياسيون، كيف يردون على تغريدات بعضهم، ماهي الكلمات التي يستخدمونها، “ليُبنى على الشيء مقتضاه” كما يقول مكتب رئيس مجلس النواب مثلاً.

جعل المكيّف القوي المكتب الزجاجي جنّة وسط جحيم الطقس، هذه الجنّة كنتُ أتفاوض في زمن مضى مع وليد على درجة برودتها، سافر وليد وترك لي المكيف والجنّة بحالها، اختار جنته الجديدة في تركيا.

كانت الساعة قد تجاوزت السادسة، وكنتُ لا أخرج  من المكتب إلا في المساء في أيام صيفيّة كهذه، كنتُ أشاهد سلاف فواخرجي وعباس النوري في مسلسل شارع شيكاغو، وادقق ملفاً أعمل عليه،

فجأة، اهتزّ البناء، كأنه ثمّة من امسكه من قواعده على طريقة أفلام الكرتون، خلال نصف ثانية كان عليّ الاختيار بين أن أتطلع نحو اليمين لأشاهد ما يحدث من الشرفة أو أتطلع نحو اليسار باتجاه باب المكتب الزجاجي.. اخترت اليسار.. كما أفعل دوماً

لو أنّي اخترت اليمين لتهشّم وجهي للأبد، هكذا ببساطة أقولها.. دوى الانفجار خُلع باب الشرفة الخشبي مع البللور المزدوج، في ثواني كنت قد طرت عدّة أمتار وهويت فوق نفسي، ارتد الانفجار، وقعت قطع من السقف المستعار صار الباب الخشبي وبلورته المزدوجة السمكية المحطمة تغطي ظهري وكان تحت جسدي الباب الزجاجي الذي صار حبيبات زجاجية جارحة..

هكذا فجأة تحولت من طالب ماستر يحب المدينة ويفرح فيها إلى طبقة بشرية بين الزجاج ومازال يتساقط فوقها السقف المستعار، الكتب، الكراسي، فجأة تصبح طبقة منسيّة، أنت الذي نجوت من آلاف قذائف متطرف اسمه زعران علوش كان يمطر فيها العاصمة دمشق تتحول هنا إلى جسد بشري بين طبقات الركام.

احتاج عقلي عدّة ثواني لربط الصوت بالانفجار، تلقى عقلي الفكرة أولاً، أين أنا، ثم سمعت الصوت من جديد، اذا لقد انفجرت المدينة، لوهلة أحسست أنني في وثائقي حرب لبنان الذي أعدته الجزيرة في التسعينات وحضرناه وحفظنا موسيقته في منزلنا بدمشق، أول ما فكرت فيه هو العائلة، بابا لم يكن يتصل بي كلّ يوم كما يفعل أصدقائي، لكنه كان لاينام قبل أن يراجع آخر ظهور لي على واتساب ليتأكد أنني نمتُ، نعم هذه الأشياء التي تكتشفها صدفة، كان أبي يراجع ظهوري على واتساب أكثر مما فعلت أي صبية كنت أستلطفها وتستلطفني.

تحركت قليلاً فرأيت دماءاً في ساعديّ وركبتيّ، بحثتُ عن الموبايل، كان أبي يشغّل قناة الجديد كل ساعة منذ بدأت المظاهرات قبل أقل من سنة في لبنان، كان يتابع قطع الطرقات ويشكل خريطة بيروت في ذهنه من جديد، هل تمرّ من جسر الرينغ في العودة للمنزل؟ لماذا تقطع من امام مصرف لبنان هناك مظاهرة عصر اليوم هناك، هل صحيح أن المواجهات تحدث بقرب المكتب من حولك، الله يرضى عليك خلينا بعاد..

وجدت الموبايل على بعد أمتار، كنتُ ما أزال ممدداً على الأرض، كانت الحرب قد اشتعلت في الخارج، هذه الحرب هي حرب أجهزة الإنذار، أنا في منطقة مغلقة منذ سنوات أمام العامة إلا لضرورات، منطقة فيها مجلس النواب ومكاتب المنظمات الدولية وبعض السفارات، وكل أبنيتها ذات طراز كولونيالي محدّث، ولكل بناء صفارة إنذار مدوّية إن لم يكن لكل مكتب، في الخارج حرب صفارات الإنذار ومن حولي الركام والغبار، وصلت للموبايل، فتحت تطبيق الواتساب فوجدتُ الانترنت يعمل وكانت هذه المفاجأة جيدة، لقد حسبت أن كلّ شيء انتهى وتدمر كلّ شيء لكن الانترنت يعمل جيد! فتحت المحادثة مع بابا، كنت أود أن أقول له أنني بخير قبل أن تورد قناة لبنانية خبراً يقول هز انفجار ضخم بيروت، أو الحرب بدأت من جديد في بيروت، حاولت تهدأة صوتي أرسلت له تسجيلاً قلت فيه: بابا صار انفجار وأنا منيح بعيد عنو، بس حبيت طمنك، بحاكيك بعدين

الحقيقة أنني لم أكن أعرف ما حدث بعد، والحقيقة أنني كنت أنزف بعض الدماء ولستُ “منيحاً” كما قلت، لكنني تخيلت العائلة التي كنت لم أراها  منذ 5 أشهر تتسمّر أمام تلفاز أو موبايل لتراقب ما يحدث في بيروت.

بدأت أدرك ما حولي، تذكرت أن المدير في غرفة أخرى، زحفتُ نحوه وجدته بخير، شاهد الدماء قلت له خدوش، بدأنا بفحص بعضنا البعض، نفتش عن جروح أو ضربات، استعدنا الوعي لدقيقة، قلت له أكيد هو تفجير في مجلس النواب الذي يبعد عننا أمتاراً، ذهبت إلى الشرفة، وجدت المجلس غير متفجر لكن شبابيكه محطمة، قلت له أكيد هو تفجير في شارع المصارف حيث يبعد عنا عشرات الأمتار، قال لي انفجار في المرفأ، قلت له مستحيل، الانفجار أقرب بكثير، تداعينا للخروج، تذكرتُ أوراقي الرسميّة وكومبيوتري المحمول الثاني الذي كنت أتركه بالمكتب، قال لي علينا المغادرة، كنتُ متأكداً اننا لن نعود إلى المكتب قريباً، لملمتُ أوراقي وحملت الكومبيوتر المحمول القديم، لا أدري كيف فجأة تحول حجم أوراقي إلى طنّ..

 نزلت من المكتب والدماء تسيل من قدميّ، ومن يديّ كنتُ اجفف الدم عن كفي اليسار بوضعه في جيب الشورت الخمري الذي ألبسه، كانت من نفس لون الدم، المصعد كان متعطلاً أصلاً وبالتالي لم نحتاج لتلك النصيحة التي نجدها ملصقة داخله دوماً عن عدم استخدامه في حالات الحريق والطوارئ.

نزلنا الدرج فسمعنا صوت الصريخ من مكتب بالطابق الأول، كل كل شخص يطمئن على عائلته، ثمّة أشخاص لم يردوا أبداً بعدها.. كانوا عدّة صبايا بخير مثلنا، تابعنا النزول.. بين المكتب والمكتب والحاجز الأمني حوالي 40 متر.. مشيتها ببطء..

كنتُ لأول مرة أشاهد مدينة تتحطم، نحن سكان العاصمة دمشق مرّت الحرب بقربنا، لم تخترقنا كما حصل في باقي المناطق، مشيتُ مذهولاً، هذا الجمال الذي كنتُ أتأمله كلّ صباح ومساء يحترق ويتكسر، هذا الوسط الذي أحفظ تاريخه وتحوّله وأحتفظ بصوره القديمة يُعاد تحطيمه.. لم يكن هذا الشعور منطلقاً من نظرة طبقيّة، أنا لم أحزن على وسط المدينة لأنه الجميل والمرتب، لكن كان ذلك أول ما شاهدته.. كانت صفارات الإنذار مستمرّة، بل كانت تزيد هلعاً كل لحظة، كان الناس يصرخون، كان يوم القيامة كما حدثونا عنه في الجامع عندما كنا صغار.. لكل شخص همّ ما، شيء يبحث عنه، رقم يحاول الاتصال به..

تجاوزت الحاجز الأمني، لأول مرّة أشاهد الخوف في عيون العسكر، ماذا يفعلون بالبنادق الأميركية التي يحملونها؟ ماذا تفعل عندما تتفجّر المدينة؟

وقفت أمام بلدية بيروت، كانت المحلات قد تحطمت واجهاتها والبضاعة فيها ارتدت للخارج، محلات الساعات والمجوهرات والأجهزة والعطور صارت خرائب، والبضاعة على الأرصفة، السيارات تتحرك بطريقة جنونية، منها من يضرب بالجدران الاسمنتيّة، أصوات صريخ، دماء، اسعاف، إنذارات، حاولت إيقاف أي سيارة أو تاكسي أو أي شيء، لا أحد..

تحادثت مع شباب بيت شام، كانوا بخير وقد اجتمعوا في المنزل مع بعض الأصدقاء، مشيت باتجاه شارع الحمرا من وسط بيروت، أحاول إيقاف أي سيارة، لم يتوقف أحد.. ما أحمله بلغ وزنه طن في تلك اللحظة، على الرغم من أنه لابتوب وأوراق لكنني أحسست أنني أحمل المدينة بين يديّ.. أنهكتُ جلست على الرصيف، مسحت الدماء، مشيت، تعبتُ، جلستُ أمام مشفى كليمنصو.. شاهدت المئات على نقالات الإسعاف مازالوا في الطريق، المشفى ممتلئ.. الناس يجنّون..

اتصلت بمحمد دياب شريك بيت شام، قلت له أن يلاقي لي لم أعد أستطع المشي، نزل والتقينا، حمل الأغراض عني.. كنا نتطلع ونحن غرقي بدموع لم تنزل من عيوننا.. كان دياب يشاركني حبّ المدينة المتخيّل، دياب كان مغرماً ببيروت ولو لم يكن على طريقتي، لكنّ بيروت المتخيّلة كانت تجمعنا، بيروت واليسار والصحافة والنشر ودرويش وو

في المنزل اجتمعنا، كان محمد عسراوي قد جرح قليلاً، وكان يطببهُ صديقنا وسام، الجميع في حالة ذهول.. المنزل لم يتأثير كثيراً فقط بعض الأشياء تحركت، بدأ الانترنت بالتعطل، أعدت الاتصال بالعائلة، صورت لهم أنني بخير.. جلسات في صالون المنزل الكبير في بناء جعفر آغا هذا المنزل الذي استأجرناه كبيراً لنوسع أنشطة بيت شام فإذا الكورونا تستمرّ، الكهرباء مقطوعة، دياب يوزع عليها المياه لنشرب.. كلّ منا بدأ يطمئن على أصدقائه.. كان من الصعب الاطمئنان على مدينة.. تخيل أن تعرف المدينة، لقد كنّا نعرف المدينة.. الجامعة، المجموعات، رابطة الأصدقاء، النادي السوري، مجموعات الدورات، مجموعات العرب الذين قضينا برامج معاً في الجامعات، اكثر من 50 مجموعة نسأل فيها بعضنا، هل نجوت؟

ما أبشع هذا السؤال في مدينة تحترق، في مدينة متفجّرة، هل نجوت؟ مالذي ينجو فينا بالضبط بعد حادث كهذا؟ كيف نعود كما كنّا؟ كيف نبقى؟ كيف نرد على هذا الكم من الرسائل عبر وسائل التواصل، كيف أشرح للجميع اننا لم نكن بخير حين كتبت منشوراً من كلمة واحدة لأطمئن الأصدقاء والمعارف، بخير!

اتصل صديقنا محمد دياب، وهو النسخة اللبنانيّة من نفس الاسم في بيت شام، قال لنا أن هناك تحذيرات من انتشار المواد الكيميائيّة في الجو وعلينا الخروج من بيروت، سيأخذنا بسيارته إلى صيدا حيث منزل لعائلته، فشلنا في شرح الأمر له، لن نخرج، لن يخرج مليون شخص، حاول معناً كثيراً، أعتقد يومها أننا كنا فاقدي القدرة على الكلام والتفكير، كنا نشعر فقط بالأسف، ننظر في عيون بعض، نحنُ الذين عشنا زمناً ذهبياً في بيروت شاهدناها كيف أفلست وشاهدنا الناس فيها كيف اختفت ضحكاتهم وشاهدنا تُصاب بالكورونا وشاهدناها تنفجر يومها..

في ذلك المساء كنا نتابع الأخبار، على الأصح كنا نتابع أرقام المفقودين والضحايا، أحسسنا للمرّة الأولى بالأسف، هل تعرف شعور الأسف على مدينة؟ والمدينة هنا هي الناس والمكان والزمن والنحنُ.

في اليوم التالي جمعت بعض الزجاج لأخلّد الذكرى، لكن عدّتُ وتخلصت من أغلبها فقط جرحت يدي مرّة أخرى.. حصلت على صحف اليوم التالي، حيث كانت الحياة قد تغيرت تماماً.. بالنسبة لي على الأقل..

وسيم السخلة

دير مار موسى، سورية التي قد لا نعرفها!

الشمس عندما تدخل إلى الكنيسة في الدير

خلال الأيام الماضية اختبرت تجربة مختلفة عما نعيشهُ في حياتنا اليوميّة كسوريين، وفي سورية. تجربة متكاملة من الهدوء والتأمل والروحانيّة، أقول متكاملة لأنه هذه الصفات اكتملت بغنى هذه التجربة بالمحبّة!

بدأت الفكرة من اختيار مكان لتوديع صديقنا المهاجر إلى جانب آخر من الأرض، إلى الولايات المتحدة سيهاجر صديق لطالما قضينا معاً ساعات طويلة من حوارات في أيام الحرب وأيام السلم وأيام القسوة التي نحاول عيشها اليوم، ستتوقف ربّما هذه الحوارات العميقة والتي كنّا ننطلق فيها لمكان مختلف عن تلك الحوارات التي نخوضها يوميّاً، لقد قررنا أن نودّع هذه اللحظات في مكان ليس له مثيل في سورية، إنه دير مار موسى الحبشي في القلمون وسط سورية.

في الأوتوستراد الدولي بين حمص ودمشق تقع مدينة النبك التي تتبع إدارياَ لمحافظة ريف دمشق، دخلنا هذه المدينة الجميلة الأنيقة وخرجنا شرقها نحو البادية.. بدأت سورية الأخرى تظهر إلينا نحن أبناء المدن، صحراء، بادية، شول، عراء، تراب، لا أحد.. سمّها ما شئت، بدأت كلّ شيء يختفي فقط شعاع الشمس الآتي من الشرق، نسيرُ نحوه في مرتفعات ومنخفضات، منطقة قاحلة تماماً، أعتقد أنّ الليل يسكنها وحده، تنقطع فيها شبكة الاتصال، والانترنت، لا عواميد كهرباء ولا شارات طرقية، هناك بعض الطيور البريّة لكنها غير مرئيّة، فيما عدا ذلك مضينا عدّة كيلو مترات في العراء التام.

أراض واسعة، تتراوح ألوانها من السمرة وحتى السواد بفعل الظلال، طريق اسفلتي تشّقهُ الحفر أحياناً وتغير اتجاهه بعض الصخور الكبيرة، ويستمرّ هذا الطريق نحو العراق حسبما قدرنا، لكنّ انعطافة نحو اليمين تأخذك نحو جبلين، يُشير لي صديقي بأن: هل شاهدت الدير مقصدنا؟ أجيبه ب لا، فيقول لي: تماماً هذا ما أرادوه في البداية دير يختفي بين الصخور بشكل متقن، بني كبرج دفاعي روماني يعود للقرن الثاني الميلادي، وهو دير سرياني يتبع جماعة دير مار موسى الحبشي الرهبانيّة بحسب طقس الكنيسة السريانية الكاثوليكية. (هذا ليس مقالاً عن تاريخ دير مار موسى يمكنك إيجاد عشرات المقالات التفصيلية عن الدير وتاريخه وأبنيته في الانترنت)

نصل إلى بداية الدير، يُحيّنا جندي من الجيش، نسأله عن ركن السيارة ونحن نتمنّى أن ندخل بها بعض الأمتار، فالشمس حارقةً جداً، يشير لنا نحو الباب ويسألنا وضع الأغراض في سلّة حديديّة مربوطة بالأحبال إلى الدير(قاطرة معلّقة، تيليفريك)، الأغراض تصعد فيها، أما نحنُ فعلينا الصعود في درب حجري ومن ثمّ درجات.

مئات الدرجات المرهقة، تحت الشمس الحارقة، مئات الدرجات تقضيها في حالة من الدهشة، كيف يعيشون هنا!

عند الوصول يستقبلك المشهد الذي صعدّته، إنها لذّة الوصول بعد التعب، تحت قماش من الخيش تستريح على قواطع حجريّة وخشبيّة قبل الدخول للدير، باب الدير باب صغير لايتجاوز ارتفاعه نصف طولك، ومنه لباب مشابه، أبواب حديديّة قديمة أعدّت بعناية كمدخل للدير.

وصلنا في وقت الإفطار، استقبلتنا الجماعة التي تعيش في هذا الدير بالمياه الباردة، عفواً قبل المياه كانت الابتسامة، وكأنهم اعتادوا هذا الموقف، فأتقنوه.

من اللحظة الأولى سنشعرُ أنه مكاننا، استلمنا الغرف البسيطة، تعرّفنا إلى أماكن الخدمات، وفهمنا أين سنعيش الساعات القادمة، الكهرباء متوفرة دوماً، المياه الباردة والمغاور في الجبال والفسحات والمكتبة التي كلّ ما فتحت فيها باباً أخذك إلى مكتبة أخرى، لقد بُنيت هذه الغرف في الصخر، وعلى الصخر ولهذا ليس لها منطق هندسي نعرفه، بل حسبما أتاح تشكيل الصخور بنيت هذه الغرف والمساحات.

في الكنيسة التي تتوجه نحو الشرق حالة أخرى، مدّ عربي بسيط، شموع في كلّ مكان، أيقونات كتبت على الجدران يعود بعضها إلى ألف سنة مضت، صلات لثلاث مرّات باليوم، صلوات رقيقة جميلة دافئة، أنت غير مجبر عليها، لكنّك ستحبّ ذلك.

اثر كلّ صلاة: كلام جميل، وعبر للحياة وحوار ممكن، وتأمل طويل.. ساعة صمت مسائيّة يمتنع فيها كلّ الدير عن الكلام، لكنك تشعر فيها بأنّك تحكي كثيراً والسماء تسمعك، طاقة كبيرة يركزها التأمل أمام عينيك، وفيك.

المشاعر بالدير هي مشاعر البيت، ما إن تدخل حتى تصبح جزءاً من المكان، تتحرّك فيه بسهولة، القواعد بديهيّة ومحدودة، الكل موجود ليساعد الكل، يمكنك التأمل، الصلاة، الكتابة، العزف أو الاستمتاع بالموسيقى، التفكير والنوم والتخطيط والقراءة، هناك غرف هادئة ومعزولة تماماً للقراءة، ومكتبة غنيّة بآلاف الكتب المتنوعة.

وجبات الطعام بسيطة وغنيّة وصحيّة ولذيذة، تُصنع كأنها في المنزل، يمكنك أن تساعد فيها أيضاً، الدير أنيق ونظيف ومرتب وعليك أن تساعد في ذلك أيضاً، الرهبان لطفااااء جداً يجيبونك عن كلّ شيء مهما كان صغيراً أو كبيراً عنهم وعن ما يعرفونه.

الأماكن كثيرة، متاحة، وعلى الجبل الآخر الدير الحديث أو المكان المجهز بالغرف والقاعات وهو الأحدث نسبياً وفيه غرف للمنامة وقاعة متوسطة للمؤتمرات وقد غلب عليه الطابع القروي، حتى أنّ مداخل الأبواب والشبابيك قد تمّ احضارها من بيوت تقليدية قديمة ربّما حلّت محلها الأبنية الحديثة.

بين الجبلين أو بين القمتين جسر حديدي وتحته وادي يمتلأ بالمياه وقت السيل أحياناً، في الخلف حاولوا بناء سدّ للمياه فغمر الوحل السد وظهرت أرض جديدة زرعت بالزيتون، حاولوا زراعة عشرات الأنواع المثمرة وقد كانوا يربون الحيوانات لكنهم توقفوا مؤقتاً..

لقد عانى هذا المكان من الإهمال خلال ستينيّات وسبعينيّات القرن الماضي، وأي زائر سيلاحظ تشوّه الوجوه في الأيقونات التاريخيّة المكتوبة على الجدران، حتى بدأت في الثمانينيّات جهود من الراهب اليسوعي باولو دالوليو الإيطالي لإعادة الألق للمكان وحوله إلى منارة ومركز لحوار الأديان وأجرى فيه كثير من الحوارات الدينية الإسلاميّة والمسيحيّة، وصار الدير مقصداً للآلاف على مدار عدّة عقود يرغبون بعيش التجربة لأيام أو يقيمون عزلتهم او تدريباتهم أو خلواتهم وصلواتهم وحواراتهم في الدير ومطارحه.

اليوم يعيش في الدير عدّة رهبان وراهبات اختاروا البقاء هنا ويتابع أغلبهم دراساته الدينيّة في إيطاليا وغيرها، ويرتبط الدير بأديرة أخرى، وعندما زرنا الدير كان هناك بعض المقيمين من الإيطاليين الذين جاؤوا لاختبار هذه التجربة كما جاء المئات قبلهم من مختلف دول العالم.

الدير ليس مكاناً للاصطياف أو التسلية بل هو مكان للتأمل والعزلة، وهو متاح لأي كان مهما كان انتماءه الديني أو الطائفي، لا أجور إقامة وإنما تبرعات تضعها في صندوق عتيق بحسب قدرتك، للوصول إلى الدير عليك التوجه لبلدة النبك في ريف دمشق، ويمكن الوصول إليها من دمشق من كراجات العباسيين بواسطة الميكرو سيرفيس (2000 ليرة سورية) ومن النبك عليك إيجاد سيارة أجرة نحو الدير.

لأن الكثيرين يسألونني كيف، فإن الاتصال واخبار الجماعة الرهبانيّة بأنكم قادمون هي الطريقة الأنسب، لايوجد تغطية موبايل في الدير وعليكم الاتصال على الرقم الأرضي: 0117877199

هذا الدير هو جزء من سورية التي قد لا نعرفها، أشجّع كلّ المهتمّين بشدّة على زيارته واختبار هذه التجربة!

وسيم السخلة
صيف 2022

« Older posts

© 2024 Waseem Al Sakhleh

Theme by Anders NorenUp ↑