أرى الفتيات الجميلات يختبئن مع سندويشات الشاورما في زوايا الحارات، تلحقهنّ القِططُ فقط، يتغلّبن على طعمة الثوم بباكيتات علكة تشيكلتس المقلّدة، يُقال لها في الشام اختصاراً شكلس!

في الحارات القديمة حيث يأخذُ الناس أصدقائهم من غير السوريين يقولون لهم هذه أقدم مدينة في التاريخ، ثُمّ يرمون بوجهها فضلاتهم، صحون بلاستيكيّة مُسرطنة، معالق بلاستيك سوداء، ورق لف للسندويش لا يصلُحُ للفّ شيء، أكياسُ نايلون بعدد خيباتنا.

تختلط هذه النفايات، تُنتج رائحة نتنٍ تجعل من نزار قباني أسطورةً كاذبة، تُحطّم إدعاءات قارورة العطر وتدفّق بردى وطيور الحمام التي رآها درويش تطير في في ثُنائيّات، فلا رائحة ياسمين، ولامن يحزنون أصلاً.

ماذا حدث لتلك البيوت، فصار هذا مطعماً لمُحدثي النعمة، وهذا بار للمنبوذين، وهذه قهوة للنصابين، وتلك حانةٌ لأصحاب الموعد الأول، وهذه حديقة تمّ تسويرها، هل خافوا من هروب الأشجار مثلاً؟

كانت الشقراواتُ الأجنبيات يُطعمن القطط الخجولة التي لاتتسلّلُ للبيوت، القطط اليوم باتت هجينة، هل ترون كيف صارت القطط وقحة جداً، غالباً ولدت في منتصف حزيران، فليس من المعقول ألا تكون ابنة هذا الصيف المُقرف، قطط بلاتربية، مثل أكثرنا!

في بحثه عن قدّاحة، يُجرّب ثلاثينيٌّ سؤال 5 بسطات ليُقرر شرائها، البسطات لم تعد للعاديين، صارت لأمراء محليين، تُحادثُ أحدهم وكأنّهُ حرّر القدس، يحتلّ نصف الشارع أحياناً، بقي أن يلبسو أوسمةً ليشتريها الهواةُ من أحفادهم.

المتسولون بالورود كبروا، المتسول لم يعد يبيعُك الورد، صار يوزّع نظراتهُ بينك وبين الآخرين، هو يشعرُ أنّهُ منسيّ، كما شعرت أنت، يوم جلست على الفراغ لتصل إلى بيتك في سيرفيس مُتهالك يُجبرك على سماع سارة، الزكريّا!

المدينةُ القديمة، لنُسمّيها المتناقضة، هُنا كان الناسُ يخلقون دهليزاً بعد باب المنزل، ولايُدخلون غريبٌ جنّتهم، باتت هذه البيوت صالات للعرض، فنادق للسيّاح، ملاهي ليليّة، مشارب وحانات تختلط فيها أصوات الموسيقى والأذان والترانيم، الجيّد أن أصوات القذائف صمتت منذ قتلَ الأبطال زعران علوش وشتّتوا شمل عصاباته.

في القيمريّة تتعجّب من 20 متجر يبيعُ بيتزا كالكاوتشوك بالقطعة، و10 محلات تبيع البوظة الرديئة على الصاج، يصنعونها بأصوات مؤذية، تشقّ طبلات الأذن، يحتلّون بعرباتهم الطريق الضيّق أصلاً، يحتلّون طريقك ليبيعوك كما يحتلُّ انفصاليون حقول نفطك ليبيعوك نفطك ويُجوّعوك.

السُكان صامتون، معظمُ أولادهم هاجروا، بقي المسنّون، يغلقون بقلق أبوابهم الخشبيّة باكراً، الضجيج والإزعاج سامحوا به مُرغمين ولم يعد لديهم القدرة على خوض جدلٍ مع متموّل جديد، فلكلّ متموّل أزلام ومسؤولون ونواب مُنتخبون.

لا أدري من أين يُحضرون هذا الكمّ الهائل من الحبر، ليطبعوا كلّ هذه الصور الخشبيّة والتذكارات، الحكومة نفسها عجزت عن تأمين الحبر لصحف تُبرّرُ فشلها منذ نصف قرن، يطبعون صوراً كثيرة لفيروز، على التوازي اخترعوا أحجاماً جديدة لليمون المُثلّج، لم نعد نشتريه لطعمهِ بل نشتريه للذاكرة، نتقوّى به على تذكّر الأيام الجميلة والحبيبة الأولى.

ماذا كانت تعني باب توما مثلاً؟ تعني كروسان بالجبنة (لاعلاقة لها بالكروسان الفرنسي طبعاً) وتعني كروسان شوكولا نتقاسمها أو قطعة غوڤر نضيف لها كرة من البوظة اذا وفّرنا مصروفنا ليومين، اليوم راتب تقاعدي لوزير سابق قد يُساوي 10 قطع من الغوڤر و 5 كروسانات، ولاشيء آخر.

أعتقدُ أنّ الله حاسب المدينة بكمّ الكذب الذي كذبهُ باعة الأنتيكا على السياح، بكمّ الحلفان والقسم لسائقي التكاسي الذين لديهم عمليات لأطفالهم في المشافي ويجمعون تكلفتها، بكمّ الغمزات المُتبادلة بين حويّصة سوق الحميديّة وأصحاب المحلات
ليبيعوا عربيّاً سلعةً بأضعاف ثمنها، يالله كم كذب السوريون!! وكم كان حسابهم عسيراً في السنوات الحقيرة الماضية.

تُعجبنا التفتيلة في السيارة، نضعُ أغنية الموسم نفتح نصف الشبابيك، يخرجُ أحدهم نصف يديه مع سيجارة، الآخرُ يقود السيارة ببُطء، يفرحون عندما تقطع فتاة الطريق عليهم، يبتسمون لها، تحرّشٌ عابر مُطبّعٌ معه. عندما سافر الشباب رأيتهم يُمارسون نفس التفتيلة في الحمرا والروشة والمنارة ببيروت وقيل لي أنّهم يفعلون ذلك في برلين وأربيل ويكتفون بالهرولة في مولات دُبي للحاق بأبواب الخروج، بأيديهم الفارغة إلا من العجز.

هناك أمرٌ مثير في المدينة القديمة أيضاً، ثمّة من اشترى الشوارع والأرصفة وصار يؤجرُك أمتاراً لركن سيارتك، أنا مازلتُ أتعجّبُ من وقاحة الڤاليه باركينغ، كيف يؤجرونَنا أرصفتنا وشوارعنا ونشكُرُهم ونكرمهم زيادة على هذه الأتاوة؟ أي بلطجة أقنعتنا بهذه المُمارسة؟

الملامُح كُلّها تدلّ على أنّ هذه المدينة القديمة في طريقها لتتحوّل إلى مكان سوقيّ بكُلّ ما تعنيه هذه الكلمة من سوء، رُبّما البعض ينتظرون أن تظهر الرداءة أكثر ليشتروا مدينة قديمة أخرى، يبيعونها من جديد.

وسيم السخلة

صيف 2023