هالدّني بتساع الكل <3 - Life can accommodate everyone

Category: سورية (Page 1 of 2)

ليس أدنى من اقالة الحكومة وحلّ البرلمان!

إنّ ما نحنُ ذاهبون إليه هي حالة الإضراب الصامت, ستُجرّب كل شريحة اتباع تكتيك معيّن يتماشى معها

سيمتنعُ بعض تجّار التجزئة عن قبول أصناف متعددة من البضاعة الجديدة لارتفاع أسعارها، سيُغلقُون بمواربة محالهم، ويُحاولون تخزين ما أمكن من مواد غذائيّة فيها لأيام أصعب قادمة.

موظفون سيتركون الوظيفة، سيتركونها بدون تبريرات صحيّة أو ظروف عائليّة، سيُغلقون هواتفهم في وجه إداراتهم العامّة والخاصة ويتركون لهم المرتّب الذي لم يعد يكفي لنصف طبخة ليوم واحد.

ستنتقل هذه الحالة بسرعة من الموظفين الصغار إلى الموظفين الكبار، ستقف عند حدّ معيّن لكنّهُ لايكفي للتشغيل، نعم هناك مصانع ودوائر ستفرُغ، مصانع وورشات بلا عُمال ورؤساء بلا مرؤوسين في دوائر اللاجدوى الحكوميّة.

أسواق الجملة ستُخفّضُ طلباتها اليوميّة من الكمّيات، مع الوقت سيذهبُ الناس باتجاه الأرياف للسكن وطلب المنتجات، سيكونون بالقرب من الفلاحين لشراء الخضروات والفاكهة، ستظهر أنماط جديدة من القوى والتحالفات المحليّة.

ستعودُ الحوالات لتتركز في السوق السوداء، تكثر المُشكلات المحليّة بأسباب مختلفة، ستتعطّل الجباية والحركة الماليّة، ستمتلئ المقاهي الشعبيّة القليلة جداً، يرتفع الدولار حتى يختفي من التداول، ستغلق محال الذهب وتبيع بالمواربة، ستبدأ بعض مظاهر التحرّش الطبقي تكسير مرايا سيارات، ثم واجهات مطاعم، وتتطوّر حتى تصل إلى كلّ ما لانتخيّله.

مهما كان هُناك من حلول ذكيّة فإنّها تحتاج لأسابيع، هذه الأسابيع غير مضمونة، مهما كانت الحلول يجب أن يُعطى الناس تنازلاً ما ليس أدنى من إقالة الحكومة وحلّ البرلمان.

إلى الآن الشارع منضبط، خلال أيام ستحكمهُ الشائعات تماماً..

وسيم السخلة 26-7-2023
— ‏‏دمشق‏‏

ملامِحُ رديئة، للمدينة القديمة

أرى الفتيات الجميلات يختبئن مع سندويشات الشاورما في زوايا الحارات، تلحقهنّ القِططُ فقط، يتغلّبن على طعمة الثوم بباكيتات علكة تشيكلتس المقلّدة، يُقال لها في الشام اختصاراً شكلس!

في الحارات القديمة حيث يأخذُ الناس أصدقائهم من غير السوريين يقولون لهم هذه أقدم مدينة في التاريخ، ثُمّ يرمون بوجهها فضلاتهم، صحون بلاستيكيّة مُسرطنة، معالق بلاستيك سوداء، ورق لف للسندويش لا يصلُحُ للفّ شيء، أكياسُ نايلون بعدد خيباتنا.

تختلط هذه النفايات، تُنتج رائحة نتنٍ تجعل من نزار قباني أسطورةً كاذبة، تُحطّم إدعاءات قارورة العطر وتدفّق بردى وطيور الحمام التي رآها درويش تطير في في ثُنائيّات، فلا رائحة ياسمين، ولامن يحزنون أصلاً.

ماذا حدث لتلك البيوت، فصار هذا مطعماً لمُحدثي النعمة، وهذا بار للمنبوذين، وهذه قهوة للنصابين، وتلك حانةٌ لأصحاب الموعد الأول، وهذه حديقة تمّ تسويرها، هل خافوا من هروب الأشجار مثلاً؟

كانت الشقراواتُ الأجنبيات يُطعمن القطط الخجولة التي لاتتسلّلُ للبيوت، القطط اليوم باتت هجينة، هل ترون كيف صارت القطط وقحة جداً، غالباً ولدت في منتصف حزيران، فليس من المعقول ألا تكون ابنة هذا الصيف المُقرف، قطط بلاتربية، مثل أكثرنا!

في بحثه عن قدّاحة، يُجرّب ثلاثينيٌّ سؤال 5 بسطات ليُقرر شرائها، البسطات لم تعد للعاديين، صارت لأمراء محليين، تُحادثُ أحدهم وكأنّهُ حرّر القدس، يحتلّ نصف الشارع أحياناً، بقي أن يلبسو أوسمةً ليشتريها الهواةُ من أحفادهم.

المتسولون بالورود كبروا، المتسول لم يعد يبيعُك الورد، صار يوزّع نظراتهُ بينك وبين الآخرين، هو يشعرُ أنّهُ منسيّ، كما شعرت أنت، يوم جلست على الفراغ لتصل إلى بيتك في سيرفيس مُتهالك يُجبرك على سماع سارة، الزكريّا!

المدينةُ القديمة، لنُسمّيها المتناقضة، هُنا كان الناسُ يخلقون دهليزاً بعد باب المنزل، ولايُدخلون غريبٌ جنّتهم، باتت هذه البيوت صالات للعرض، فنادق للسيّاح، ملاهي ليليّة، مشارب وحانات تختلط فيها أصوات الموسيقى والأذان والترانيم، الجيّد أن أصوات القذائف صمتت منذ قتلَ الأبطال زعران علوش وشتّتوا شمل عصاباته.

في القيمريّة تتعجّب من 20 متجر يبيعُ بيتزا كالكاوتشوك بالقطعة، و10 محلات تبيع البوظة الرديئة على الصاج، يصنعونها بأصوات مؤذية، تشقّ طبلات الأذن، يحتلّون بعرباتهم الطريق الضيّق أصلاً، يحتلّون طريقك ليبيعوك كما يحتلُّ انفصاليون حقول نفطك ليبيعوك نفطك ويُجوّعوك.

السُكان صامتون، معظمُ أولادهم هاجروا، بقي المسنّون، يغلقون بقلق أبوابهم الخشبيّة باكراً، الضجيج والإزعاج سامحوا به مُرغمين ولم يعد لديهم القدرة على خوض جدلٍ مع متموّل جديد، فلكلّ متموّل أزلام ومسؤولون ونواب مُنتخبون.

لا أدري من أين يُحضرون هذا الكمّ الهائل من الحبر، ليطبعوا كلّ هذه الصور الخشبيّة والتذكارات، الحكومة نفسها عجزت عن تأمين الحبر لصحف تُبرّرُ فشلها منذ نصف قرن، يطبعون صوراً كثيرة لفيروز، على التوازي اخترعوا أحجاماً جديدة لليمون المُثلّج، لم نعد نشتريه لطعمهِ بل نشتريه للذاكرة، نتقوّى به على تذكّر الأيام الجميلة والحبيبة الأولى.

ماذا كانت تعني باب توما مثلاً؟ تعني كروسان بالجبنة (لاعلاقة لها بالكروسان الفرنسي طبعاً) وتعني كروسان شوكولا نتقاسمها أو قطعة غوڤر نضيف لها كرة من البوظة اذا وفّرنا مصروفنا ليومين، اليوم راتب تقاعدي لوزير سابق قد يُساوي 10 قطع من الغوڤر و 5 كروسانات، ولاشيء آخر.

أعتقدُ أنّ الله حاسب المدينة بكمّ الكذب الذي كذبهُ باعة الأنتيكا على السياح، بكمّ الحلفان والقسم لسائقي التكاسي الذين لديهم عمليات لأطفالهم في المشافي ويجمعون تكلفتها، بكمّ الغمزات المُتبادلة بين حويّصة سوق الحميديّة وأصحاب المحلات
ليبيعوا عربيّاً سلعةً بأضعاف ثمنها، يالله كم كذب السوريون!! وكم كان حسابهم عسيراً في السنوات الحقيرة الماضية.

تُعجبنا التفتيلة في السيارة، نضعُ أغنية الموسم نفتح نصف الشبابيك، يخرجُ أحدهم نصف يديه مع سيجارة، الآخرُ يقود السيارة ببُطء، يفرحون عندما تقطع فتاة الطريق عليهم، يبتسمون لها، تحرّشٌ عابر مُطبّعٌ معه. عندما سافر الشباب رأيتهم يُمارسون نفس التفتيلة في الحمرا والروشة والمنارة ببيروت وقيل لي أنّهم يفعلون ذلك في برلين وأربيل ويكتفون بالهرولة في مولات دُبي للحاق بأبواب الخروج، بأيديهم الفارغة إلا من العجز.

هناك أمرٌ مثير في المدينة القديمة أيضاً، ثمّة من اشترى الشوارع والأرصفة وصار يؤجرُك أمتاراً لركن سيارتك، أنا مازلتُ أتعجّبُ من وقاحة الڤاليه باركينغ، كيف يؤجرونَنا أرصفتنا وشوارعنا ونشكُرُهم ونكرمهم زيادة على هذه الأتاوة؟ أي بلطجة أقنعتنا بهذه المُمارسة؟

الملامُح كُلّها تدلّ على أنّ هذه المدينة القديمة في طريقها لتتحوّل إلى مكان سوقيّ بكُلّ ما تعنيه هذه الكلمة من سوء، رُبّما البعض ينتظرون أن تظهر الرداءة أكثر ليشتروا مدينة قديمة أخرى، يبيعونها من جديد.

وسيم السخلة

صيف 2023

طعمُ أيّام الإمتحان هو نفسهُ منذ الصف الأول!

بطعم الميرميّة المغليّة.. مُرّ، كانت ماما تعدّ الميرميّة للمغص، لم يكن مغصاً، كان عادة النقّ قبل الإمتحان

يوم الإمتحان تسمع أسوأ صوت لمنبّه في العالم، مهما كانت الأغنية أو الموسيقى، رنّة منبّه الساعة صباح الامتحان واحدة، تُشبهُ الحلقة الأخيرة في مسلسل الانتظار، حقيرة

البرد الذي يأكل أطرافك (أنت الذي لاتعرفُ البرد) لاتعنيه درجات الحرارة، صوت فيروز الشتوي البعيد يبدو وكأنه حُزنٌ عليك، صوت فتح باب الصوبيا وأنت في أبعد غرفة عن الصالون يُشعرك أنها تحتاج 10 ساعات لتتوهّج، حتى القهوة المغليّة تشربها باردة، يطلُبك الحمّام 4 مرّات في ساعة!

تكون الشمس بيضاء صباح الامتحان، لا أشعة لها، فقط بياضٌ بارد متسلّل عبر الغيوم، تتمنّى لو أنّ يُعطوك 5 دقائق أخرى ولو كنت قد غفوت منذ دهر وعندما تستيقظ تكتشف أنه لم يكن هناك من غيوم بل كان مناماً

العصافير تُصدر أصواتاً غريبة، اصطكاكُ أسنانها مع بعضها وليس تغريداً، أشعرُ أن العصافير تنتظرُ قيامتي لتغفو من جديد

في صباح الامتحان تكتشفُ أنّ أقلامك الزرقاء جميعها سائلة لاتصلح لورقة الإمتحان، وأنّ ماحفظته لايُساوي سؤال شاهدّتهُ صدفةً فوق طاولتك

الناس في الطريق يتركُونك لمصيرك، لا أحد يُسلّم عليك، الحارة تبدو حيّاً آخر لاتعرفه، أطفال المدارس يتطلعون إليك كندّ، كيف يعرفون أنّ لديك امتحاناً مثلهم؟

في الحافلة لاأحد يتعاطى معك، وكأنهم يعرفون جميعاً أنك تخون الحياة اليوميّة وتقدم امتحاناً، تنظر للساعة كلّ دقيقة رغم أنّ الوقت مازال بعيداً، تتحرّك العقارب بسرعة الحلزون ولكنّ الساعة فجأة تصيرُ مكتملة

في باب الجامعة تنسى من أنت، أو تتذكّر أنك طالب وعليك البحث عن بطاقتك

في مدرّج الامتحان أنت متهم بلاسبب، يتطلّعُ إليك المراقبون وكأنك مجرمٌ محتمل.. في الحقيقة أنت لم تفعل شيء لكنهُ تقليدٌ يتوارثهُ المراقبون وربّما يتعلمونه بدقّة، بثّ الرّعُبْ!

*في الامتحان – لوحة لممدوح قشلان 1959

أنا وجدّي وصحف الصباح 🗞️

كان جدّي العزيز جداً يُرسلني كلّ صباح لأشتري له الصحف اليوميّة المحليّة، كانت القاعدة أن أشتري ٢/٣ من الصحف الحكوميّة لأنه يعرف سلفاً تكراراتها. كما أشتري له صحيفة الاقتصادية الأسبوعيّة ومجلة أبيض وأسود والكفاح والمحرر العربي وغيرها من الصحف التي كانت ترضى الدولة عن توزيعها محليّاً والتي انضمت لها الوطن السورية في 2006. كان ينظرُ بقرف إلى سالب وموجب الفضائحيّة.

أيضاً كان أحد السائقين على خط بيروت – دمشق يُهرّب لجدّي بعض أعداد الصحف الممنوع بيعها محليّاً منها النهار وأعداد من البيرق والحياة والشرق الأوسط والسفير أحياناً وصحف أخرى..

ومازلتُ أذكر يوم بدأت صحيفة الدومري كيف أرسلني جدّي لاشتري 4 أعداد اضافيّة ليوزعها على ضيوفه، فقد فاجأتهُ جرأتها وقال يومها: انشالله يكفو هيك. لاحقاً تمّ ايقاف أعداد من الجريدة وسحب ترخيصها كما أذكر..

حديث الجرائد هذا كان في آواخر التسعينات وبداية الألفيّة، ولم تكن سنوات مثاليّة بالطبع لكن كان فيها بعض الأمل بالمستقبل والمشاركة، ما كنتُ ألحظهُ أنني بعد أن آخذ حصّة جدّي من الصحف كان صاحب المحل يحزمُ الأعداد كمُرتجعات، فهو يعرف زبائن الجرائد وكانوا يتناقصون باستمرار، وهكذا صار يحزمُ كلّ يوم عدداً أكبر ليُرجعه إلى مؤسسة توزيع المطبوعات صباح اليوم التالي، كانت المؤسسة تتركُ الصحف الجديدة أمام المحل وتأخذ المرتجعة باكراً قبل أن يفتح، كانوا مُطمئنّين أنّهُ لا أحد يسرقُ الصحف، لا أحد يهتم إلا وقت التعزيل، كان الجيران والأقارب يسألوننا عن جرائد قديمة لمسح البللور ووضعها تحت الطعام.

مع صحف جدّي تعرّفت إلى الصحافة، كانت زاوية قوس قزح للراحل وليد معماري وزاوية عادل أبو شنب أول عهدي بالقراءة الصحفيّة، كما كنتُ أنظر باحترام لتحقيقات جريدة الثورة في السنوات الأولى للألفيّة حيث كانت تحمل جرأة تسبقُ بها باقي الصحف المحليّة وكان كل أسبوع على الأقل هناك تحقيق استقصائي ضخم يُحرّك مياهاً راكدة.

على عكس ما يراهُ الناس عن تلك الحقبة -العقد الأخير قبل الحرب- كنتُ أشاهد صعوداً وهبوطاً في الصحافة المحليّة وليس صعوداً فقط، كانت بهدوء تتخلّى الصحافة عن أدوارها لصالح أخبار المسؤولين والمواد غير المُجديّة، حتى مرّة مرحلة كان التحقيق الصحفي فيها غائباً..

كُل هذه الذكريات أثارتها فيي هذه الصورة التي وضعتها غلافاً ل مدونة الشأن العام – سورية، كيف كان السوريون مشغولون بالمجال العام وكيف هُمُ اليوم مشغولون بالمجال الخاص، أحبُّ أن أُسهم في إعادة الإعتبار للشأن العام في سورية.

وسيم السخلة / دمشق

عشرُ حقائب سوريّة

نستخدم تطبيقات مجانيّة لكنها تتطوّر كلّ لحظة،ونحن مكاننا، أقصدها حرفيّاً هذه المرّة لا مجازيّاً

أنا في دمشق، صديقي في كندا، يعيشُ في مدينة يصعُب عليه لفظ اسمها.. صديقة عتيقة تنتظرُ الشمس منذُ عدّة أيام في السويد.. تنتظرها بملل

شقيقتي في بريطانيا تكتشفُ الطبيعة من جديد، صديقٌ ينتظر المترو في دبي، يأتي بسرعة، لاوقت للانتظار.. آخر يتشاجرُ مع ڤان رقم 4 في بيروت..

أحدهم صار بعيداً جداً يقضي يومهُ في تعليم الأميركيين مكان سورية في الخريطة.. ويشرحُ لهم ما حصل في الحرب فيخوض حرباً جديدة مع العالم الآخر

ونحنُ صغار كنّا نرى خريطة العالم ومركزها سورية، لكنّ الخرائط المدرسيّة مُضلّلة ركزنا فيها على سورية وبلاد الشام والوطن العربي، كلّماً كانت تتسع الخريطة مزيداً من الدول كانت تصغر سورية، وتصغُرُ كثيراً

عندما سافرنا وارتحلنا اكتشفنا أن لكلّ بلد خرائطُه، وبالكاد تظهر منطقتنا كلّها وليس سورية فحسب، بالكاد يمكنك أن تشرح للناس قضايانا العادلة وغير العادلة، عاداتنا الأصيلة والمسروقة، تاريخنا المُصدّق والمزور، غاباتنا المشمسة والمحروقة، أرشيفُ انتصارات هزائمنا، لون الرماد فوق المدن، في جدران المؤسسات الحكوميّة، في كوريدور مدرستي الإبتدائية، على شُبّاك تابوت للنقل العام، كان أخضراً وأزرقاً وأحمراً وفي سنوات الرخاء والمصائب كان أبيضاً..

ونحنُ هُنا، يقلق الأصدقاءُ في تركيا، يتمنّون لو أنه لدينا انتخابات ثم يقلعون عن الفكرة بسرعة، يخوضون حرباً في روسيا، يخسرون أرزاقهم في مصر، يتسوّلون أموالهم المسروقة من بنوك لبنان، يتعلمون الألمانيّة للسنة العاشرة، ويعدّون أنواع الطيور في أستراليا فيكتشفون أن التنوع في بلادهم كذبة، أقصد التنوع الحيواني بالطبع

صار همُّ الناس مركباً، بلادٌ جديدة يحملون همومها، اليمين واليسار، القوانين والقرارات، نخنُ خارجون من بلاد لاتسألنا ولا نسألها، نُحبّها ولا تهتمُ لأمرنا.. من أين جائتنا هموم الديموقراطيّة والحريات وأحزاب الخضر!

يحملُ كلّ سوري عشر حقائب كبيرة، حقيبةٌ للمؤسسات الحكوميّة، يحمل فيها ألف صورة لهويته وتسعمائة اخراج قيد وتسعين تأجيلاً وثلاث موافقات سفر، ودفتراً لخدمة العلم ودفتراً لسيارة والده، ودفتراً للعائلة، ودفتر النهاري مجلداً بالأحمر لأنه كتب عليه حلمهُ في المدرسة ودفتر الليلي مجلداً باللون الكحلي حيث صلحت لهُ المعلّمة الجميلة وظيفة الفرنسي ودفتراً للرسم رسم فيه بيتاً بسقف قرميدي رآه في أفلام مُترجمة، ودفتراً للموسيقى بقي فارغاً لسنوات، ودفتراً للدّين انتزعهُ من بقاليّة الحارة بعد ما باع خاتم أمّه وسدّد الدين قبل الرحيل ودفتراً لقسائم المازوت المُباعة، ودفتراً أثرياً لقسائم التموين، ودفتراً للقاحات التي أقحموها في حلقنا ذات مرّة في المدرسة والمستوصف.. ودفتراً فارغاً ليكتب خطته الفاشلة

في حقيبة أخرى نحملُ بهارات لم نستخدمها، كركم، وفلفل حلو وفلفل حار وفلفل متوسط بينهما، ونعنع يابس وجوزتين طيب وأوراق غار ووكمون مطحون وكمون حب وكربونة وسمّاق وعشر مكعبات ماجي، أعرف صديقاً استخدم من كُلّ هذا مكعبات الماجي فقط، وعندما عاد (عاد ظلّهُ) وزّع البهارات على من بقي هُناك وهم بدورهم جعلوها في الرفّ الأخير ينقلونها من حلم لآخر.. فإنذارات الحريق لاتحتمل هذه الروائح

الحقيبة الثالثة مخصصة للملابس الداخليّة البيضاء، معظمها اشترتها الأم السورية لأولادها وزوجها من سوق الحميديّة بقياسين، الأول قياسه الحالي والثاني بنمرة أكبر، لم تدري الأم أن هذه الأحجام ستنتهي وسيمتنع أولادها عن تناول السكر أشهراً لخفض أوزانهم، سيتحول شكل الجسم مع شكل الحياة الجديدة، أجسادٌ لاتُشبهنا، كثيرة الرشاقة تحملُ خفّة الرحيل المستمر.

حقيبة السوري الرابعة مخصصة للمناسبات، طقمٌ رسميّ نلبسه مرّة في عرس أصدقائنا، نتحايل مع خياط عربي لنصيف إليه زرّاً جديداً مع كُلّ مناسبة، نضيّق الخصر، نوسّع الجيوب لتتسع لباور بانك، بوط كبير يُشبه الحرب، نحملهُ لأيام المطر، نتوقع دوماً أننا سنستخدمهُ فنبدو به كجنديّ سوڤيتيّ يتجول في مطعم أميركي للوجبات السريعة، نتخلصُ منه حالاً، ثم نضعه في البلكون، نتراجع، نقول سيلزمنا عندنا نذهب للتخييم وهناك نرى الأصدقاء الجدد يلبسون خفّافات خفيفة فنخلعهُ من جديد ونحفظهُ لأنه يذكرنا بالفتوّة، من أفتى بها أصلاً حتى صرنا جنوداً لكلّ هذه الهزائم؟

في الحقيبة الخامسة نحملُ أدوات للعناية الذاتية، بودرة خوفاً من “السماط” وعشر عُلبٍ من حبوب الإلتهاب المحظورة بدون وصفة (خارج بلدنا طبعا) وابر ديكلون قاتلة، وكريماً وطنيّاً لترطيب البشرة يجعلها قاسيةً جيّدة، ونكاشات أسنان نحملها ولاندري معها أنّ أيام المناسف واللحم على الطريقة القديمة ستنتهي بعد أن نعبر نقطة المصنع على الحدود اللبنانية، نحملُ ظروف سيتامول وطني، نعرف أن وجع الرأس سيأتي سيأتي، نجرّب عشر مشاطات للشعر ونختارُ أسوأها حُبّاً بالتغيير، نُحبّ التغيير للأسوأ على طريقة حكوماتنا.

في الحقيبة السادسة نحمل عشر أحلام وألف خيبة وستين تحدّي أُجبرنا عليه منذ طلب منّا استاذ العسكريّة في المدرسة أن نُسمع الحيّ كلّه شعارات الصباح والنشيد الوطني، في حذه الحقيبة شيءٌ واحد محسوس، سجادة صلاة جديدة أخرجتها أمّ من صندوق السرير حفظتها عقدين على الأقل بعد عودة أحدهم من الحج، سجادة ستبقى جديدة دوماً على الأغلب.. لأن اتجاه القُبلة يتغيّر في الخارج

في الحقيبة السابعة نحملُ الحقيبة الثامنة لأننا نخشى أن يكون سوق الخجا غير موجود خارج سورية، وأن نُضطرّ لحمل الهدايا في أكياس نايلون، نعدُ الناس قبل السفر بالهدايا، سأُحضر لك هذا الشيء وتلك الهديّة وكأننا سنعود ونحن نقود باخرتنا.. وفي الحقيقة إن عُدنا فالعودةُ على ظهر شاحنة أو وقوفاً في بولمان.

في الحقيبة التاسعة نحمل كلّ السُتَر، هذا جاكيت للشتاء القارس صحيح أنّهُ مضروب من هُنا لكنّ الوالدة وضعت لهُ رقعةً عليها وردتين، وهذا جاكيت خفيف للربيع سحّابهُ معطّل لكن لاضرورة لزرّه، وهذه كنزة صوفيّة تخلق حساسيّة وتجعلك مدفأة وتلبس تحتها 5 كنزات ولاتلبسها أبداً.. وهذه طاقيّة للشمس لتحمي مقدمة الرأس وتكون بمثابة بطاقة تعريفيّة لك أنك عامل وأن شعار الشركة على الطاقيّة لأنها غرض دعائي وليس لأنك صاحب الشركة، أن لاتملكُ حتى نفسك.

الحقيبة العاشرة لاتعرف ماذا بها، هي التي تركتها في المطار مُكرهاً تحت طائلة فوات الرحلة عليك، وهي نفسها التي سرقها راكب آخر في البولمان عندما نزل وأنت تبكي وترسل ستيكرات القلوب في واتساب، وعلى الأغلب هي الحقيبة التي تضعُ فيها قلبك الذي يضمّ حبيباتك منذ المدرسة وحتى آخر مرّة أحببت فيها بصدق وفارقتها أمام دار الأوبرا.. هذه الحقيبة لا تُسافر معك، انها تُسرق منك وتبقى هُنا للأبد، واذا عُدّت فلن تجدها ولن تجدك.

وسيم السخلة

دمشق 2023

المدينة تختفي كحبيبة، ونحنُ نعيشُ خيالها

أبدأ بتدوين هذا الحديث من مقهى عتيق في وسط دمشق، مقهى الكمال الصيفي، من النافذة الكبيرة هُنا أستطيع رؤية خطوط سكة الترامواي التي أوقف العمل بها قبل نصف قرن. إلى جانب المقهى سينما الكندي التي افتتحت مطلع القرن الماضي وتعلن عن حفلتين لعروض سينمائية يوميّاً لكنها في الحقيقة فارغة يوميّاً، حتى أنّ الباحثين عن مكان مظلم لا تستقبلهم، فالمسؤول عنها يعرفهم من وجوههم، كما قال لي مرّة.

*كُنت قادراً على استخدام الصور لكل جملة من الآتي، لكنني أفضل ترك تصور ذلك لخيالكم، فأنتم أيضاً أهل وسكان المدينة وتعرفونها، كما أفترض، وإن كان هذا الحديث عن دمشق فإنه ينسحب على مختلف المدن في سورية حسب ما اختبرت.

تغيّرت المدينة، تضيقُ يوميّاً المدينة التي نتخيّلها، فتعالوا نُلاحظ معاً ما حدث ويحدث.. قد تكون التكملة ترفاً فإذا شعرتم بذلك توقفوا عن القراءة، قد تكون مُملّة..

لقد ضاقت الأرصفة وصارت عالية!

جربوا المشي اليوم في المدينة، كم تستطيعون الاستمرار؟ هل ما زال التجول مُمكناً؟ لقد ضيّقوا الأرصفة القديمة التي كانت تُناسب تجول أربعة أصدقاء إلى جانب بعضهم، اليوم كُل الأرصفة الحديثة لا يستطيع فيها رجل وزوجته أن يتجاورا في المشي، على أحدهما أن يسبق الآخر..

لقد قطّعت أوصال الأرصفة وصارت جزراً ولم تعد مساراً متصلاً، أيضاً نقلوا الأشجار لوسط الرصيف فصار لزاماً النزول إلى الشارع والصعود منه مع كل شجرة، ولم يكتفوا بذلك، بل قلّموا الأشجار جيداً ويواظبون على ذلك أكثر من تنظيف المصارف المطرية، وبعد أن يقلموها يختفي الظلّ تماماً ويصيرُ المشيُ في هذه الأرصفة المليئة بالحفريات مرهقاً في الصيف، مستحيلاً في الشتاء.

 كانت الأرصفة تعلو الشارع بارتفاع موحد، اليوم لكل رصيف معاييره، وبات التنقل من الرصيف إلى الشارع يحتاج انتباهاً أكثر خصوصاً إن كنت تسير مع أطفالك، بالمناسبة اذا كان ابنك رضيعاً وقررت التنزه معه أو الذهاب إلى موعد ووضعته في عربته قد يكون هناك خطورة، العربة لا مسار لها فالرصيف ترتفع وتهبط بلاطاته الشاحبة (التي كانت ملونة) ـ حكماً ستهتز العربة بشكل مزعج، لا تستهِن بذكريات الصغار عن هذه اللحظات، فانا أتذكر كيف كان بعض الأطفال يرموننا بالحجار ونحن داخل القطار ذاهبين إلى عين الفيجة.

أيضاً تختفي الحواف من الأرصفة، لقد تمّ تحطيمها أو بناء جدار محلّها أو وضع الحديد الشائك عليها بحيث لم تعد الاستراحة ممكنة وأكثر شعور يتملّكك أنه عليك المشي بسرعة ولا يمكنك التمهّلُ أبداً، رغم أن الاستمتاع في المدينة جزءٌ منهُ مشي فيها..

بالمناسبة، كُل هذا هو عمّا بقي، فالأرصفة تختفي يوميّاً، إن لم يأكلها الرصيف فتأكلها السيارات التي تعتبر الرصيف كراجاً لها، ولا تتوقف الوقاحة بتجاوز بعض الرصيف، بل بأخذه بكامله لصالح السيارات في كثير من الشوارع، أيضاً بعض الناس يسرقون أطاريف الأرصفة وأحجارها!

ليست السيارات فقط، أيضاً البسطات المكررة، وكراتين البسكويت وبرادات الكولا والأكشاك التي تتجاوز المساحة المرخصة لها بعشر أضعاف.. جرّبوا محاولة المشي من جسر الرئيس إلى البرامكة مثلاً، اذا استطعتم المشي بدون تحرّش أو تعثّر أو مشكلة، فأنتم مُباركين.

يكفي الحديث عن الأرصفة، تعالوا نحكي عن الحدائق، مادامت المدينة قد توسعت كثيراً، فلماذا بقيت الحدائق محدودة؟ ولماذا بقيت على المخططات في المناطق الجديدة؟ وما الذي تغير في الحدائق القديمة؟

أبواب الحدائق الكبيرة التقليدية مغلقة دوماً، ستجد فقط بابا صغيراً فتح إلى جانب الباب الأصلي، الباب لا يرحب فيك تجد عليه لوحة عليها تعليمات تشبه التعليمات الامتحانية في جامعاتنا..

ممنوع إدخال الكرات! ممنوع إدخال الحيوانات الأليفة! ممنون المشي على العشب! ممنوع إدخال الطعام والشراب! ممنوع إدخال الدراجات! ممنوع قطف الزهور، وممنوعات أخرى.. المسموح فقط هو الدخول والجلوس في كرسي غير مريح أبداً، يبدو أنّهُ تمّ تصميمه ليكون غير مريح!

كانت الحدائق في الماضي تضمّ طاولات حجريّة حولها مقاعد أو قعدات نصف مدوّرة، وفي أسوأ الأحوال كانت توضع الكراسي العريضة الخضراء إلى جانب بعضها، فكان من المُمكن أن تأتي عائلة او عائلتين للاستمتاع في الحديقة العامة. اليوم كراسي أقل لا تتقابل ولا تتجاور كأنها منافي فردية، أسوار عالية للحدائق وهذا لا يعني بالطبع أنها آمنة..

كُل هذا عما بقي من حدائق أصلاً، بعض الحدائق احتلّت المطاعم والنوادي أجزاء واسعة منها كحديقة تشرين وبعضها تمّ نبشهُ لأجل كراجات طابقيّة، وبعضها تغيّر للأبد. بعض الحدائق باتت موصومة بأنها بؤر غير أخلاقية، بالتالي بعد أن كانت الحدائق للجميع صار الجميع يهرب منها، وبات نادراً أن تواعد صديقك في الحديقة أو تأخذ أطفالك للتنزه فيها فأنت لا تحب بالطبع أن يُشاهد أطفالك شاب وفتاة يقبلون بعضهم، (نعم نحنُ نقبل ذلك فقط على الانترنت لكننا نُحاولُ تجاهله عموماً فيهرب العُشاق إلى دور السينما والحدائق، هرباً من محيطهم).

بالمناسبة، حتى مناهل مياه الفيجة النظيفة الجميلة التي المخصصة للشرب في الحدائق باتت محدودة جداً، أو معطّلة، بالمقابل فإن أي حديقة ستجد على بابها كشكاً يبيع المياه المعبأة بضعفي تسعيرتها.. حتى أنها تحمل نفس اسم النبع الذي يسقي كُلّ المدينة.. مياه الفيجة.

لقد تغيّرت الأماكن الدينية أيضاً، المساجد صارت للصلاة والدروس المحدودة فقط، كانت المساجد منارات مفتوحة دوماً، اليوم تفتح وتغلق قبل وبعد دقائق من الصلوات، وكذلك الكنائس. أيضاً التكايا وسبق الخيل (أرض المعرض القديم) التي أوقفت لترحب بالعابرين صارت مطارح للاستثمار وأسواقاً تقليدية وبازارات وهياكل فارغة.

وأين المقاهي الشعبية، إنها تختفي لتتكاثر المقاهي الجديدة، المكلفة!

كانت المقاهي متنفس الناس للقاء والتجمّع والحديث والتسلية وتداول الأخبار وتأسيس الجمعيات والتفكير المشترك والسرد القصصي، وكانت دوماً رخيصة وأسعارها مقبولة لأي شخص ولو كان عاطلاً عن العمل، ولم يكن فيها تمايز طبقي كبير، فهي في نهاية المطاف طاولات خشبية وكراسي من الخيزران وكان يمكن أن يتواجد في جلسة واحد أكثر من عشرة شخص يضمون طاولاتهم إلى بعضها بدون اذن فهذا ما كان عادياً وهم قادرين على سماع بعضهم البعض وليسوا مضطرين لدفع ضرائب أو دفع مبالغ زيادة على مشاريبهم وأراجيلهم.

اليوم باتت المقاهي الجديدة بطاولات أعرض تجعل سماع الشخصين المتقابلين مشوشاً أحياناً، وأكبر طاولة يمكنها أن تتسع 6 أشخاص وهم حكماً لا يستطيعون سماع بعضهم بشكل جيد، فالكراسي لم تعد ضيقة، بل بات لها أطراف وأحياناً تكون الكراسي عبارة عن كنبات عريضة لا يمكن معها أن يجلس أكثر من 4 أشخاص لمائدة واحدة.

صارت المياه في المقاهي مدفوعة بعد أن كانت أباريق مجانيّة، وصارت اجبارية (لا يحدث هذا في الدول الأخرى بالمناسبة)، كما صارت هناك حدود دنيا أحياناً وصار زبون الطعام مقدماً على زبون الشراب، وفي مناسبات معينة صار الاحتفال بميلاد صديق تلحقه تكاليف خدمة وفي بعض المناسبات تجد تسالي رمضان الإجباريّة، انا لا أعرف شعباً مجبراً على التسلية مثلنا!

يطول الحديث عن تحولات المدينة، الساحات الكبيرة عديمة الفائدة، التصاميم والمشاريع التي صرفنا عليها لسنوات طويلة وفشلت كساحة العباسيين، الشوارع التي اشترت نصفها شركات خاصة وصارت مصفّات مدفوعة ووصلت إلى جوار المنازل، المنشآت الرياضية التي تحولت أجزاء منها لمحال بيع السندويش والدجاج، أنفاق المشاة المظلمة منذ تمّ إنشائها، التصاميم الغبية في فصل الشوارع كما في منّصف شارع الثورة، ألوان الأضواء المتنافرة (إن تمّ تشغيلها)، روافد الأنهار التي صارت مكبّات زبالة، أدراج الجسور التي صارت ملك المتسولين وباعة الدخان، النهر الذي ما عاد نهراً وصار ساقية لشهرين في السنة، وعشرات التحولات الأخرى.

مع الأسف في زحمة صعوبات الحياة تُباع المدينة برضا سكانها ومشتروها هم أيضاً سكانها بالمناسبة، أهمل الناس حقوقهم في المدينة، وظنّوا أن بيع المساحات العامة أو التحايل في بيعها شرط لازم لتطوّرها، ففي الوقت الذي تشكل المساحات العامة فيه أهم مميزات المدن تجدنا نتخلّى عنها ونضيّقها يوماً بعد آخر.

في المدن القديمة والتاريخية يفتخر الناس بالأنهار التي تقطعها والحدائق والساحات والشواطئ وباحات الأماكن الدينية الواسعة، أما نحن فباتت المجمعات التجارية والمقاهي الغربية والمباني البشعة الزجاجية التي لا تشبه المدينة هي ما يدلّ الناسُ عليها ويعتقدون أنها الأفضل.

سندرك عندما نستريح أن الرجوع إلى الوراء صار مستحيلاً والمدينة باتت مجرّد فوضى لا تشبهنا، وهذا قد يُفسر اتجاهنا في مواقع التواصل الاجتماعي لمشاركة صور المدينة في تاريخها الحديث الأنيق، هذه المشاهد يُمكننا استعادتها وليس البكاء عليها فقط.

وسيم السخلة

دمشق 2023

ما اُسميه فجوراً طبقيّاً

هذه التدوينة ليست إدانة لنا جميعاً لأننا نمارسُ هذا الفجور بقصد أو بدون، لكنها محاولة للانتباه فالقادم كبير وقاسي.

يُرسل لي صديقي صورةً من داخل النادي الرياضي الذي احتلّ جزءاً من حديقة تشرين العامّة، ويغمزُ لي هازئاً “مازالت مساحة عامة، انظر إلى الناس يقتربون كثيراً من سور النادي”.

صديقي العزيز لم يُدرك حقيقةً جليّة، أن الذي يقترب من السور هو النادي، فهو الغريب المُشاد في مساحة عامّة كانت كُلها مخصصة للناس، قبل سنوات اقتُطع جزء واسع منها لصالح مجمّع يضمُّ مطاعم وصالة رياضيّة وبار على سطح مكشوف يُطلُّ على المدينة.

قبل 5 سنوات كتبتُ تدوينة أحاول فيها هزّ الوعي الجمعي الذي تجاهل احتلال حديقته الكُبرى في العاصمة من قبل رأس المال متواطئاً مع الجهات الرسميّة!

أعدّتُ البحث وقتها خلال الشهور التي تلت التدوينة فلم أجد إلا مقالاً يتيماً أشار إلى تدوينتي نفسها، وهكذا نسي أو تناسى آلاف الصحافيين والمستصحفين أيضاً وجامعي الإعجابات الوهميّة، والناشطين والحقوقيين والناس أنفسهم، هذا الإعتداء..

لا أودّ هُنا شرح الطبقات وإلا لكنتُ بدأت بتعريف وتأصيل مفاهيمي، لكنها مُحاولة للتذكير بمظاهر وصفها صديق آخر قبل أيام في حديث مشترك ب”الإباحيّة الطبقيّة” التي تنتشر من حولنا اليوم في سورية أكثر من أيّ وقت مضى.

على الرغم من أنّ الظروف الاقتصاديّة التي تعيشها الدولة والناس هي الأقسى على الإطلاق، على الأقل خلال القرن الماضي الذي شهد ولادة الدولة الوطنية في سورية، فإن الفارق الطبقي اليوم أكثر حدّة من أيّ وقت مضى أيضاً.. على الأقل كما يبدو لي.

نعم في كلّ البلاد الناس طبقات اقتصاديّة واجتماعيّة متعددة، تضيق وتتسع تبعاً لتقسيم الثروة وشكل السلطات وعلاقاتها والقوانين وتنفيذها، كما تؤثر الثروات وحدود الملكيات وعوامل أُخرى لست بوارد تصنيفها وترتيبها.

الجديد والوقح اليوم هو “الفجور الطبقي”، الذي بات وجهاً أساسيّاً من وجوه سورية، وهو المُلاحظة الأبرز لأيّ زائر من الخارج، اسأل أيّ أحد تعرفه يزور سورية سيقول لك أن هناك تناقض كبير، هناك سورية المُتعبة الضعيفة الفقيرة وهناك سورية الأخرى، ومع الوقت يا للأسف تحوّل هذا الفجور ليكون المُحرّك الأكبر لاقتصاد البلد وتكريس الفروقات الطبقيّة وانشطار الطبقات يوميّاً.

 في الزمن الماضي -وأتركُ لكلّ قارئ تخيُّل نقطة نهايته- كانت المطاعم في سورية تنفتحُ إلى داخلها، فكانت الستائر الكتيمة تغطّي الواجهات، وكانت الطاولات لا تمتدّ إلى الخارج، فيبقى الرصيفُ رصيفاً وتبقى مسألة الاستمتاع بوجبة مُكلفة أمر شخصي وعائلي وليس موضوعاً للمشاركة والتقييم، اليوم فإن النوافذ المفتوحة والطاولات العريضة التي تحتلُّ الأرصفة والتي تجاور الشوارع التي تحتلها مصفّات المطاعم هي سمة المطاعم وميزتها الكبرى، وبات الممشى للناس ما تتركهُ الطاولات بينها من فراغات، بالمناسبة لقد أجّرت البلديات الأرصفة بطريقة رسميّة وبشروط كتبت على الأوراق فقط.

كان السوريون في زمن مضى أكثر حشمة في التباهي، فكانوا يسافرون إلى أي دولة ويعودون من أسفارهم ببعض ألبومات الصور المطبوعة حيث يُشاهدها المقربون وهم بالعشرات على الأكثر، أما اليوم فالحصول على فيزا أو تجديد جواز السفر أو عبور الحدود أو الانتظار في بوابة عاديّة في مطار بيروت والسفر بالطائرة ووجهة الطائرة وبوابة الفندق وتفاصيل البلاد الأخرى تستلزم الكثير من الصور والفيديوهات والحالات، وكُلّما زادت نجوم الأماكن حظيت بكمٍّ أكبر من الصور والتعليقات، بالمناسبة اليوم جمهور ومشاهدي ووصول هذه الصور بالآلاف لكن المتفاعلين معها بالعشرات، وكأنهُ صمتٌ طبقي بانتظار فرصة للصراخ.

في الماضي حمل الناس أكياس القُماش ليس لأجل البيئة والمناخ، بل كانوا يضعون فيها مُشترياتهم من الفاكهة والغذاء لكي لا تلفت الأنظار فهم لم يحرموا أنفسهم من التمتع بحشمة، وكانت الأشياء مُتقاربة ولا مجال كثير فيها للتفاخر، مثلاً كانت مُنتزهات الربوة وعين الفيجة في متناول الجميع تقريباً ولو لمرّة في الشهر، وكان سقفُ التفاخر أخذ علبة المحارم ووضعها على تابلوه السيارة، والمفارقة أنّ الجميع تقريباً كان قادراً على ذاك ومن الطبيعي أن يكون سائقو التكاسي والسرافيس وموظفي الحكومة من القادرين، أما اليوم فوجبة للعائلة في مطعم عادي لخمس أشخاص تعني 5 رواتب لموظف من الفئة الأولى..

في الماضي أيضاً، ولمّا كانت الأعمال أكثر استقراراً فقد ألحق أصحاب الأعمال استغلالهم لموظفيهم وعمالهم بجانبهم الأبوي الخيري، فكان العامل لديهم يطمئنُّ إلى عيديّة في العيد، وتكاليف عرس بسيط، ودعم للأولاد في المدارس، وكسوة شتويّة تُقدّم إليه كأموال زكاة رغم أنّ مجموع هذا قد لا يُلامس الحد الأدنى الإنساني للأجر!

لكن كانت معظم الأطراف راضية، اليوم فغياب الاستقرار يجعل من العلاقة بين أصحاب الأعمال وعمالهم نديّة جداً، كيف لا وراتبهم يفقد قيمته يوميّاً، ولهذا تضخّمت جداً السرقات وقلّة الأمانة، وأنا أقول لكم أنّ البعض يُمارس السرقة من عمله مُطمئنّاً وراضياً لأنه يعتقد أنّ حقه مسلوب، وكذلك علاقة صاحب العمل بالمؤسسات الرسمية وكذلك علاقتها بموظفيها وكذلك علاقة المُراجعين مع الموظفين الذين باتت الرشوة طريقهم الوحيد للحياة الكريمة أمام أطفالهم.

شكّل المُقتدرون في الماضي الجمعيات الخيريّة وباتت وصيّتهم لأولادهم لأنهم كانوا يُدركون بشكل جيد أنّ جُزءاً من هذا الإفقار الذي يتعرّض له الناس هم مُسببوه، وكانوا يحمون أنفسهم وأموالهم من انفجار طبقي يُنتقم فيه من ذواتهم، وكانت هذه الجمعيات تطبيقاً للزكاة وتحصيناً للمجتمع وأيضاً كان الجميع تقريباً راضين.

مع كُلّ الانقسام الطبقي كانت المدينة مُتاحة، فالأسواق الشعبية كانت ما تزال كذلك، والحدائق كبيرة وأنيقة وواسعة، والمهرجانات الشعبية من الزهور وحتى الفنون والمسرح كانت مجانيّة وللجميع، وكان الناس لا يشعرون بأنّ عليهم تغيير ملابسهم بحسب الشارع الدي يقطعونه، وكانوا لا يستحون أن يصطحبوا عائلاتهم للحدائق المجانيّة وألعاب الأطفال فيها، فكان للجميع ممارسات متقاربة وكانت الطبقات معدودة ومعروفة فيما هي اليوم كثيرة، كثيرة جداً ومتداخلة.

أعادت المواقع الإجتماعيّة مسألة الطبقات إلى الواجهة، فبعد أن أنجز الكثيرون نقاشاتهم الجادّة وتأكدوا من فشل الثورات واجهاضها من خلالهم أصلاً توجهوا نحو استخدام هذه المواقع للتمايز الاجتماعي، فباتت محاولاتهم الفاشلة لكسر الطبقات ممكنة، وبات الذهاب إلى أحد المطاعم فرصة لالتقاط الصور وجدولتها على مدار أشهر وهو أكثر أولوية من الحصول على وجبة جيدة أو لقاء الأصحاب أو العشاء مع العائلة.

اليوم يُمكنك ببعض الصور أن تعيد تعريف نفسك وطبقتك، فصورة لك من احدى المدن أو أحد الفنادق كفيل برسم صورتك بالنسبة للآخرين، كذلك ساعة تلبسها شرط أن تكون متقنة التقليد أو باب سيارة لمديرك في العمل أو صديقك الغني.

الذي حدث بالفعل هو انشطار الطبقات، في مراحل ماضية كان الناس يبذلون جهداً كبيراً للولوج إلى طبقة جديدة، فيما حدث اليوم انشطار سريع جعل من بعض أفراد نفس الطبقة ضمن طبقة أخرى مفترضة وقد تتحول إلى حقيقيّة، أتحدث هُنا عن استثمار الجسد وأحياناً بعض السماجة فقط في التحول إلى نجم في المواقع الاجتماعية يُحصّل من المال بفيديو قصير ما تحصّله عائلة كاملة تعمل في التجارة أو تمتهن الطبّ والهندسة! إنه انشطار فقد حدث في وقت سريع جداً وبلا مقدمات طويلة، وبقي هذا النجم وعلى الأغلب هي نجمة يعيش في منزل أهله لكنه منشطر تماماً عن طبقته وحيّه ومجتمعه.

جزء كبير من الانفجارات السورية الاجتماعيّة بدءاً من 2011 لم تكن لأبعاد سياسيّة، كانت تعبيرات طبقيّة ولو حاول الكثيرون إلغاء هذا الجانب، بعض الأرياف ثأر شبابها من أصحاب المعامل الذين كانوا يشغلونهم كعبيد، فعادوا إليها حرقاً وتحطيماً ولو لبسوا لبوس الدين أو البحث عن الحريات وغيرها من دعاوى العقد الماضي. وكما كان استثمار الآلاف وتحويلهم لمتطرفين سهلاً سلسلاً من خلال ليرات بسيطة بات اليوم أكثر سهولة من خلال قروش فقط!

خُلقت خلال السنوات الماضية طبقات جديدة، وبعيداً عن تسميات الناس لها بأمراء الحرب (كان لدينا طبقات ظهرت كأمراء سلام بالمناسبة) فإن هذه الطبقات باتت بحاجة لمطارح للمتع والترفيه، والفضاءات السابقة باتت قديمة ومهملة وغير مُلبّية للرغبات المُحدثة، فانتشرت أماكن جديدة للسهر وللرياضة والطعام الصحي والحفلات الشاطئيّة واستلزمت هذه المُتع مزيداً من العُمال بأجور زهيدة ومزيداً من الخدمات المحليّة بأثمان بخسة وهو ما جعل استثمار فقر الطبقة الأدنى فرصة مرّة جديدة للعمل بأجر منخفض والتشغيل الكبير وفق مبدأ الفرص القليلة أمام العرض الكبير للراغبين بالعمل.

ما اودّ قوله أن الشهور القادمة ستحمل أحداثاً هنا وهناك يمكن تصنيفها ضمن تحرّشات طبقيّة، ستكون لأسباب مباشرة متعددة لكنّ أسبابها العميقة هي أسباب طبقيّة بالمطلق، وستكبر هذه التحرشات وتنتشر وهي قد تؤخر قليلاً الانفجار الاجتماعي الكبير القادم حكماً، في هذا الانفجار إن لم نُحسن التدبير والعمل من الآن سنكون جميعاً مجرّد شظايا..

وسيم السخلة – ربيع 2023

دير مار موسى، سورية التي قد لا نعرفها!

الشمس عندما تدخل إلى الكنيسة في الدير

خلال الأيام الماضية اختبرت تجربة مختلفة عما نعيشهُ في حياتنا اليوميّة كسوريين، وفي سورية. تجربة متكاملة من الهدوء والتأمل والروحانيّة، أقول متكاملة لأنه هذه الصفات اكتملت بغنى هذه التجربة بالمحبّة!

بدأت الفكرة من اختيار مكان لتوديع صديقنا المهاجر إلى جانب آخر من الأرض، إلى الولايات المتحدة سيهاجر صديق لطالما قضينا معاً ساعات طويلة من حوارات في أيام الحرب وأيام السلم وأيام القسوة التي نحاول عيشها اليوم، ستتوقف ربّما هذه الحوارات العميقة والتي كنّا ننطلق فيها لمكان مختلف عن تلك الحوارات التي نخوضها يوميّاً، لقد قررنا أن نودّع هذه اللحظات في مكان ليس له مثيل في سورية، إنه دير مار موسى الحبشي في القلمون وسط سورية.

في الأوتوستراد الدولي بين حمص ودمشق تقع مدينة النبك التي تتبع إدارياَ لمحافظة ريف دمشق، دخلنا هذه المدينة الجميلة الأنيقة وخرجنا شرقها نحو البادية.. بدأت سورية الأخرى تظهر إلينا نحن أبناء المدن، صحراء، بادية، شول، عراء، تراب، لا أحد.. سمّها ما شئت، بدأت كلّ شيء يختفي فقط شعاع الشمس الآتي من الشرق، نسيرُ نحوه في مرتفعات ومنخفضات، منطقة قاحلة تماماً، أعتقد أنّ الليل يسكنها وحده، تنقطع فيها شبكة الاتصال، والانترنت، لا عواميد كهرباء ولا شارات طرقية، هناك بعض الطيور البريّة لكنها غير مرئيّة، فيما عدا ذلك مضينا عدّة كيلو مترات في العراء التام.

أراض واسعة، تتراوح ألوانها من السمرة وحتى السواد بفعل الظلال، طريق اسفلتي تشّقهُ الحفر أحياناً وتغير اتجاهه بعض الصخور الكبيرة، ويستمرّ هذا الطريق نحو العراق حسبما قدرنا، لكنّ انعطافة نحو اليمين تأخذك نحو جبلين، يُشير لي صديقي بأن: هل شاهدت الدير مقصدنا؟ أجيبه ب لا، فيقول لي: تماماً هذا ما أرادوه في البداية دير يختفي بين الصخور بشكل متقن، بني كبرج دفاعي روماني يعود للقرن الثاني الميلادي، وهو دير سرياني يتبع جماعة دير مار موسى الحبشي الرهبانيّة بحسب طقس الكنيسة السريانية الكاثوليكية. (هذا ليس مقالاً عن تاريخ دير مار موسى يمكنك إيجاد عشرات المقالات التفصيلية عن الدير وتاريخه وأبنيته في الانترنت)

نصل إلى بداية الدير، يُحيّنا جندي من الجيش، نسأله عن ركن السيارة ونحن نتمنّى أن ندخل بها بعض الأمتار، فالشمس حارقةً جداً، يشير لنا نحو الباب ويسألنا وضع الأغراض في سلّة حديديّة مربوطة بالأحبال إلى الدير(قاطرة معلّقة، تيليفريك)، الأغراض تصعد فيها، أما نحنُ فعلينا الصعود في درب حجري ومن ثمّ درجات.

مئات الدرجات المرهقة، تحت الشمس الحارقة، مئات الدرجات تقضيها في حالة من الدهشة، كيف يعيشون هنا!

عند الوصول يستقبلك المشهد الذي صعدّته، إنها لذّة الوصول بعد التعب، تحت قماش من الخيش تستريح على قواطع حجريّة وخشبيّة قبل الدخول للدير، باب الدير باب صغير لايتجاوز ارتفاعه نصف طولك، ومنه لباب مشابه، أبواب حديديّة قديمة أعدّت بعناية كمدخل للدير.

وصلنا في وقت الإفطار، استقبلتنا الجماعة التي تعيش في هذا الدير بالمياه الباردة، عفواً قبل المياه كانت الابتسامة، وكأنهم اعتادوا هذا الموقف، فأتقنوه.

من اللحظة الأولى سنشعرُ أنه مكاننا، استلمنا الغرف البسيطة، تعرّفنا إلى أماكن الخدمات، وفهمنا أين سنعيش الساعات القادمة، الكهرباء متوفرة دوماً، المياه الباردة والمغاور في الجبال والفسحات والمكتبة التي كلّ ما فتحت فيها باباً أخذك إلى مكتبة أخرى، لقد بُنيت هذه الغرف في الصخر، وعلى الصخر ولهذا ليس لها منطق هندسي نعرفه، بل حسبما أتاح تشكيل الصخور بنيت هذه الغرف والمساحات.

في الكنيسة التي تتوجه نحو الشرق حالة أخرى، مدّ عربي بسيط، شموع في كلّ مكان، أيقونات كتبت على الجدران يعود بعضها إلى ألف سنة مضت، صلات لثلاث مرّات باليوم، صلوات رقيقة جميلة دافئة، أنت غير مجبر عليها، لكنّك ستحبّ ذلك.

اثر كلّ صلاة: كلام جميل، وعبر للحياة وحوار ممكن، وتأمل طويل.. ساعة صمت مسائيّة يمتنع فيها كلّ الدير عن الكلام، لكنك تشعر فيها بأنّك تحكي كثيراً والسماء تسمعك، طاقة كبيرة يركزها التأمل أمام عينيك، وفيك.

المشاعر بالدير هي مشاعر البيت، ما إن تدخل حتى تصبح جزءاً من المكان، تتحرّك فيه بسهولة، القواعد بديهيّة ومحدودة، الكل موجود ليساعد الكل، يمكنك التأمل، الصلاة، الكتابة، العزف أو الاستمتاع بالموسيقى، التفكير والنوم والتخطيط والقراءة، هناك غرف هادئة ومعزولة تماماً للقراءة، ومكتبة غنيّة بآلاف الكتب المتنوعة.

وجبات الطعام بسيطة وغنيّة وصحيّة ولذيذة، تُصنع كأنها في المنزل، يمكنك أن تساعد فيها أيضاً، الدير أنيق ونظيف ومرتب وعليك أن تساعد في ذلك أيضاً، الرهبان لطفااااء جداً يجيبونك عن كلّ شيء مهما كان صغيراً أو كبيراً عنهم وعن ما يعرفونه.

الأماكن كثيرة، متاحة، وعلى الجبل الآخر الدير الحديث أو المكان المجهز بالغرف والقاعات وهو الأحدث نسبياً وفيه غرف للمنامة وقاعة متوسطة للمؤتمرات وقد غلب عليه الطابع القروي، حتى أنّ مداخل الأبواب والشبابيك قد تمّ احضارها من بيوت تقليدية قديمة ربّما حلّت محلها الأبنية الحديثة.

بين الجبلين أو بين القمتين جسر حديدي وتحته وادي يمتلأ بالمياه وقت السيل أحياناً، في الخلف حاولوا بناء سدّ للمياه فغمر الوحل السد وظهرت أرض جديدة زرعت بالزيتون، حاولوا زراعة عشرات الأنواع المثمرة وقد كانوا يربون الحيوانات لكنهم توقفوا مؤقتاً..

لقد عانى هذا المكان من الإهمال خلال ستينيّات وسبعينيّات القرن الماضي، وأي زائر سيلاحظ تشوّه الوجوه في الأيقونات التاريخيّة المكتوبة على الجدران، حتى بدأت في الثمانينيّات جهود من الراهب اليسوعي باولو دالوليو الإيطالي لإعادة الألق للمكان وحوله إلى منارة ومركز لحوار الأديان وأجرى فيه كثير من الحوارات الدينية الإسلاميّة والمسيحيّة، وصار الدير مقصداً للآلاف على مدار عدّة عقود يرغبون بعيش التجربة لأيام أو يقيمون عزلتهم او تدريباتهم أو خلواتهم وصلواتهم وحواراتهم في الدير ومطارحه.

اليوم يعيش في الدير عدّة رهبان وراهبات اختاروا البقاء هنا ويتابع أغلبهم دراساته الدينيّة في إيطاليا وغيرها، ويرتبط الدير بأديرة أخرى، وعندما زرنا الدير كان هناك بعض المقيمين من الإيطاليين الذين جاؤوا لاختبار هذه التجربة كما جاء المئات قبلهم من مختلف دول العالم.

الدير ليس مكاناً للاصطياف أو التسلية بل هو مكان للتأمل والعزلة، وهو متاح لأي كان مهما كان انتماءه الديني أو الطائفي، لا أجور إقامة وإنما تبرعات تضعها في صندوق عتيق بحسب قدرتك، للوصول إلى الدير عليك التوجه لبلدة النبك في ريف دمشق، ويمكن الوصول إليها من دمشق من كراجات العباسيين بواسطة الميكرو سيرفيس (2000 ليرة سورية) ومن النبك عليك إيجاد سيارة أجرة نحو الدير.

لأن الكثيرين يسألونني كيف، فإن الاتصال واخبار الجماعة الرهبانيّة بأنكم قادمون هي الطريقة الأنسب، لايوجد تغطية موبايل في الدير وعليكم الاتصال على الرقم الأرضي: 0117877199

هذا الدير هو جزء من سورية التي قد لا نعرفها، أشجّع كلّ المهتمّين بشدّة على زيارته واختبار هذه التجربة!

وسيم السخلة
صيف 2022

الحريّة الافتراضية ورُهاب وسائل التواصل الاجتماعي

هل خلقت وسائل التواصل فرص متساوية مريحة للتعبير؟

تبدو الاجابة البسيطة على هذا السؤال نعم، يمكن لأي شخص اليوم أينما كان أن يُنشأ حساباً وصفحات ومجموعات متعلّقة ويبث محتوى غير محدود. لكنّ إعادة التفكير في السؤال تضع مجموعة من الاعتبارات قد تجعل الإجابة مختلفة!

 

وهم الحضور المستمر

يفترض الكثيرون أنّ وسائل التواصل هي البديل الكامل للصحافة والاعلام والنشر، وهم يعتقدون بالفعل انهم مرئيّون للملايين، لكنّ الحقيقة أنّ هذا مجرّد وهم، فالمحتوى في هذه الوسائل يختفي تدريجيّاً نظراً للكمّ الهائل وقد تتراجع النتائج عن فكرتك لتسبقها ملايين النتائج عن كلمات متشابهة، وقد تختفي منصات بكاملها وتذهب فيها كل تجارب المشتركين بلا رجعة مثل موقع مكتوب، لابدّ أنّ الأوائل في الانترنت العربي كانوا يعرفونه جيداً.

 

المحتوى الاحترافي مدفوع!

في الماضي كان الناس يستكتبون الصحافيين والكتّاب حول تجارتهم ومصانعهم وحتّى أفكارهم ورغم غياب الكليّات والمعاهد الصحافيّة أو ندرتها فقد كان الإنتاج أكثر وضوحاً ومباشرة وبساطة، ولكم أن تراجعوا أرشيف أيّ صحيفة من مئات الصحف التي كانت تصدر في بلادنا في الخمسينات مثلاً لتتبيّنوا مواداً صحافيّة بسيطة تُشبه الناس أكثر ولا تكاليف فيها.

اليوم كُل شخص بات صحافيّ نفسه، فنجدُ أصحابنا وهم يحاولون شرح أفكارهم العلميّة مثلاً بصعوبة، أو نجدُ السياسيين يصرّحون تصريحات مضحكة وكذلك الأكاديميون يكتبون فيتفاعل معهم الآخرون بالضحك ونجد رجال الدين يحكون قصصاً ويردّون ويتناحرون دون وضوح في الأفكار وفي عالم من الفوضى، بعض هؤلاء فقط أدرك أنّ الكتابة والصحافة هي حرفة وبدأوا بالاعتماد على بعض من يُساندهم وهنا وقعنا في طامّة جديدة..

انتشرت وكالات التسويق الاحترافيّة لوسائل التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة، وهذه الوكالات (أو الأشخاص) مهمّتها زيادة الوصول والإعجاب والأرقام، فهي ليست وكالات إعلاميّة ومعظم من يعمل بها درس التسويق القادر على جذب المتابعين والتأثير فيهم ولكن ليس تحريكهم ايجابيّاً، على العكس هذه الطرق الاحترافيّة التي يعمل ضمنها المسوقون تشجّع على الكسل الفكري وتدفع الناس لأخذ مواقف وإعادة أخذها في وقت كانت هذه المواقف تحتاج وقتا مناسباً للتشكل في مدارس ومكتبات ومع آلاف الصفحات، فما أسهل اليوم أن تجد صديقك وقد أصبح يساريّاً فجأة أو جارك وقد اتخذ أقصى اليمين في قضيّة شائكة يعرف خبراً عنها أو قرأ عنها منشوراً مع صورة ضاحكة!

 

جمهورك يسأل عن لون عينيك!

لقد كان الصحافيون وهم من أكثر الفئات تأثيراً نادري الظهور، فلا تظهر صورهم إلا قليلاً وكان هناك مقالات تحرّك الآلاف دون أن يعرفوا عن كاتبها أكثر من اسمه، وربّما حاولت بعض الصحف وضع صور صغيرة لكتّاب الرأي إلى جانب عامودهم الصحفي لكنّ ذلك كان يحصل بعد عشرات السنين التي قضاها هؤلاء يكتبون آرائهم، لقد كانت الآراء مقبولة من المُخضرمين فقط وعلى الصحافيّين الجدد تجميع الأخبار والركض لحضور الأحداث على حسابهم الشخصي وكم كان الحصول على معلومة أو ملاحظة تفصيل ما أمر مُرهق ومُكلف!

اليوم لا يمكنك كثيراً ان تكون وهميّاً، إن حضورك مهم جداً وقد تحصل على آلاف المتابعين من وراء صورك الشخصيّة فقط أو لون عينيك، في المقابل يمكن أن تبقى تحاول أن تؤثر وتكتب لعشرات السنين دون أن يزيد عدد متابعيك عن العشرات فقط لأنّك غير مصنّف في سلّم المعايير الجماليّة التي هي معايير مفروضة بحكم العادة وهي متغيّرة من زمن لآخر، إنّ شكلك ولونك والماركات التي تلبسها أو تدعي لبسها قد يجعلك موثوقاً تماماً وقائد رأي لآلاف المتابعين في كلّ مكان.

 

لا أحد يُدقق وراءك

الجهل يُلغي الحريّة، لأنّ الحريّة تقوم على المعرفة، في وسائل التواصل الاجتماعي نتعرّض يوميّاً لمئات بل آلاف المعلومات والمواقف والأحكام والنظريات ونتائج الدراسات ولا يملك أحد الوقت والقدرة للتدقيق في كلّ ما يتعرّض له من معلومات، وربّما أعدنا مشاركة كثير من المعلومات المغلوطة دون قصد فباتت موثوقة للآخرين، وفي أكثر الأحيان يغلب تأثير الأخبار والمعلومات المضللة والمنقوصة لأنها تشعل الغرائز والاتجاهات (كونها مدروسة) ما يُشكّل لدينا مواقف تلقائيّة من بعض القضايا عن دون قصد، وما أكثر القضايا اليوميّة التي أصبحت عامّة، وبالتالي هنا فحرية وصول المعلومات هي حريّة وهميّة في كثير من الأحيان لأنها قابلة كثيراً للتلاعب.

 

تجميع المتشابهين

على الرغم من أنها فكرة طيّبة أن وسائل التواصل تساعد الناس على تجميع بعضهم في مجموعات أو ضمن صفحات معيّنة لكنّ هذا يزيد من تكتل المجموعات والأفراد حول أفكارها ويولّد تلقائيّاً جدران فاصلة بحسب الاتجاهات من قضيّة معيّنة، ويبدو هذا أمر طبيعي لكنّ الأمور لاتقف هنا، بل مع كلّ موقف تربح عدّة تصنيفات لن تستطيع أن تخرج منها مهما حاولت، فالناس يصنفون بعضهم في مجموعات غير قابلة للتفكيك، مثلاً اذا كنت تدعم البيئة والنباتات فلا بدّ أنّك تدعم قضايا المثلية الجنسية وهكذا، يرفض الناس التعامل مع الأفراد بأفكار محددة بل يطمئنون إلى تصنيفهم.

 

أنت مُهدّد دوماً

في لحظة ما قد تتحوّل لأضحوكة، قد ينشر لك أحدهم صورة قديمة في المدرسة، قد تجري مقابلة عرضيّة في الشارع وقد تشارك منشوراً خاصاً أو صورة شخصيّة تتحول فجأة لتكون مادّة للتنمّر والاستهزاء، وكثيراً ما تكون الأسباب معدومة وغالباً السبب الأساسي هو قلّة التربية لدى البعض التي تجعل من أيّ محاولة تنمّر محاولة ناجحة لتجميع الاعجابات والوصول أكثر، وهذه اللحظة التي قد تتحوّل فيها إلى حديث العامّة هي ذات اللحظة التي يجد كلّ شخص على الكوكب نفسه معنيّ بالتعليق عليها، واذا حاولت الهروب من هذه المواقع سيجدونك في الطرق وسيحاولون إعادة الكرّة لأنّك في لحظة ما كنت مادّة خصبة لقلّة أدب البعض وسذاجتهم.

 

عليك أن تدفع لتصل

في بداية انتشار وسائل التواصل الاجتماعي كانت منشوراتنا تصل بشكل كامل تقريباً لمتابعينا، ومع الوقت قلّلت كثير من الشركات نسب الوصول تدريجيّاً بغية حثّ المشتركين على الدفع مقابل وصول منشوراتهم مع مميّزات تفضيليّة لاختيار القطاع الجغرافي والجنس والعمر والاهتمام وغيرها، اذاً اليوم لا تستطيع الوصول بصفحة مهما كان محتواها إلا لنسب محدودة جداً جداً من متابعيك أصلاً دون أن تدفع ولا تنسى هُنا أنّ كثير من الشعوب اليوم معاقبة فلا تسطيع الاستفادة من هذه الخدمات ولو خصصت جزءاً من أموالها للوصول لجمهورها الذي تفاعل معها أصلاً، أي أنّ هذه المواقع رغم أن لك جمهور يتابعك تعود لتأخير ظهورك أمامه حتى دفع الأموال.

 

أنت مُحاصر بالتريندز!

في التحوّل لشخصيّة نشطة على وسائل التواصل أنت مطالب بأن يكون لك آراء في كل شيء يحدث في هذا العالم، وفي كل شيء لم يحدث بعد أيضاً، أنت مجبر، الجمهور ينتظر، لايهم رأيك بالفعل حيث سيقف البعض معك والبعض ضدك المهم أن تشارك موقفاً، ولن يتمّ أخذ موقفك بشكل شخصي، بل سيُسحب موقفك على المكان الذي تعمل فيه أو تنشط فيه أو على الديانة التي تعتنقها وربّما على البلدة التي ولدت فيها، لن تنجو!

 

فرصتك محدودة

أغلب الناس لاتضغط “عرض المزيد” وبالتالي لديك بعض الحروف المحدودة وربّما جملة أو جملتين، ولايتعلّق الأمر باحترافيّة كتابة هذه الجملتين لجذب المتابعين بل هي سهولة التجاوز ومزاج الجمهور، في أيام الصحافة الورقية كان يبقى الموضوع أمامك وقد تعيد قراءة الصحيفة والمجلّة عدّة مرات انت وأفراد أسرتك أو زملائك في العمل وقد تتناقشون حول نفس المادة الإعلامية، أما على وسائل التواصل فأنت معرّض لمواد ومنشورات مختلفة عن تلك التي يتعرض لها ابنك أو صديقك أو حتى زوجتك وبالتالي سيكون النقاش غير فعال ولو كان عن نفس الموضوع كون كل منشور يقدم بطريقة الجهة التي تصدره وليست القصة حول مضمونه فقط، هناك سياسات تحرير تجعل من ضعف خصوبة طائر اللقلق مسألة متعلقة بحزب سياسي ما.

 

عليك منافسة التفاهة

نعم في وسائل التواصل تنافس منشورات حول إطلالة الفنانين أو قياس شورتاتهم مقالات عن الاحتباس الحراري أو زلزال أو كارثة أو حرب كاملة، ليس هنالك من تصنيف أو ترتيب، قد تستيقظ يوماً وتجد الناس متضامنين مع الحرائق في غابات بلد لايعرفونه وقد تجد أخباراً حول كوارث طبيعية خطيرة في بلدهم لايعرفون عنها شيئاً، في بعض الدول قد تتابع مئات الأخبار حول تغريدات أحد السياسيين والتي قد يعود ليقول أن ابنه كتبها حين كان يلعب بالهاتف في الصباح، إنه عالم كامل من تعميم التفاهة وينسحب هذا على بعض الكتب والمنتجات التي يتمّ الترويج المدفوع لها والتي قد يشتريها الملايين دون أن يكونوا قادرين على كتابة تقييم حقيقي لها لأنّ الموجة السائدة المدفوعة تعارض ذلك!

 

مواقف لم تختارها

اذا كنت شخصاُ عادياً أو معروفاً على السواء فالمتابعين وغير المتابعين لايتقبلون منك حريّتك ف التعليق او عدم التعليق، وقد يتمّ زجّ حساباتك في مسائل شائكة تجعلك مضطرّاً للتبرير أو الحديث عنها، وقد يتمّ اختيار صورة قديمة لك وأنت تلبس ألوان مختلفة لتجد الأخبار تقول أنّك تروج للمثليّة الجنسية وقبل أن يسألك الناس عن موقفك وأنت حرّ فيه مهما كان ستجد آلاف الشتائم وبعض الدعم وكثير من التكفير وربّما التهديدات في حال كنت تعيش في بيئة محافظة في بلادنا وحتى في البلدان الأوروبية هذه الأيام.

 

هناك حدود لكونك مناصراً لقضايا محددة

ولو كان هذا مفاجئاً لكن هناك حريّة وهميّة في بعض القضايا الأساسيّة، مسألة دعم الحقوق وفلسطين مثلاً قد تكون انتهاك لمعايير المجتمعات في وسائل التواصل الاجتماعي، وقد يخطر لك أنّ هذا فقط يحدث تجاهنا لكنه يحدث تجاه كلّ الشعوب التي لديها قضايا ولكننا اصطدمنا بهذه التهم على شكل انتهاكات وكم من حسابات جادّة وصفحات كبيرة أغلقت في هذه التهم، وجاء النزاع الروسي الاوكراني فجأة ليجعل من طرف ما مع كلّ حساباته وصفحاته العامة موضع شكّ وتقييد واتهام.

 

خصوصيّتك مهددة دوماً

حماية الحسابات تبدو أكثر الأشياء التي تهتم لها الشركات التي تدير وسائل التواصل الاجتماعي، لكنّ الحقيقة أنّ الحسابات الموثّقة يدفع مقابلها البعض سواء من خلال الشركات الوسيطة أو بطرق أخرى، ولو كانت الشركات جادّة في حماية الخصوصية لجعلت مسألة التوثيق متاحة لجميع المشتركين، في أي وقت من الأوقات قد تجد رسائلك الشخصيّة منشورة وخاضع أنت للابتزاز حولها وكذلك المعلومات التي تتبادلها عبر الحسابات أو حتى الروابط التي يتمّ ارسالها من خلالك للآلاف لاختراق حساباتهم، نعم هناك توعية رقميّة تقلل جداً فرص حصول هذا ولكن من حوالي ملياري مستخدم لفيسبوك كم مستخدم لديه هذا الوعي الرقمي؟

 

فجأة قد تُصبح مُداناً

انتشرت في السنوات الأخيرة بعض القضايا التقدميّة التي تحمّس لها كثير من ناشطي المجتمع المدني والسياسي حول العالم، وبالطبع وجدت هذه القضايا مناصرين وعانى منها ضحايا في بلداننا فأخذ الكثيرون تدريبات وحاولوا تطوير أفكارهم حول قضايا محددة وأخذوا ينشطون فيها في مجتمعاتهم، ولاريب أنّ بعض الأمور كان يعاقب عليها القانون قبل عقود أصبحت اليوم حقوقاً، المشكلة هنا أن كثير من المستخدمين وقد يكونوا من الأكاديميين ومن أصحاب التغيير في العقود الماضية فاتهم قطار هذه القضايا ولم يتعرضوا لتجارب أو خبرات لتطوير مهاراتهم فوجدوا أنفسهم فجأة مُدانين ببعض القضايا التي تخصّ الحقوق والكراهية ليسوا لأنهم كذلك يعتقدون بل لأنهم لم يلاحقوا ماحصل في السنوات الأخيرة، فجأة وجد هؤلاء أنفسهم موضع اتهام وإدانة وربّما عملت مجموعات كاملة على التبليغ عن حساباتهم ومنشوراتهم. بالطبلع هذا لاينفي الجانب الإيجابي لتشكل مجموعات ضغط لصالح حقوق كثير من الفئات وإنهاء الانتهاكات بكل أنواعها تجاه هذه المجموعات.

 

أنت مراقَب وتحت الأنظار

الحكومات تتابع الناشطين، هذا لاينسحب على بلدان العالم الثالث بل على كلّ الدول، نعم أنت مراقب دوماً وهناك بعض الموضوعات لايُسمح بالخوض فيها تماماً، فالسلطات الدينية بالمرصاد وحتى العائلة وكم يتجنّب الكثير من الناس التعبير عن آرائهم قلقاً من وجود أفراد عائلاتهم في قائمة الأصدقاء ولو كانوا في دول بعيدة، أيضاً فإن حالات استدعاء الناشطين والتحقيق معهم ورفع القضايا عليهم باتت مسائل متكررة جداً في مختلف البلدان، وغالباً ما يفضل البعض إلغاء التعبير عن موقف أو سلوك عندما يعرفون أنّ التكلفة ليست قليلة وتشمل دعاوى ومحامين ووقت ولو كانوا على حق.

 

حرّاس المعبد الافتراضي

كما في كلّ مجتمع مجموعة من الشخصيات التي تسيطر على الفنون والأكاديميا والرياضة مثلاً فكذلك وسائل التواصل، لكل مجتمع او موضوع مجموعة من “حراس المعبد” الذين يتولون السيطرة على الأخبار ولو لم نلاحظ ذلك ويتولون التعليق عليها وتوجيه دفتها في الاتجاه المناسب لهم، وهؤلاء في الغالب لا يعملون لحسابهم بل لحساب أطراف ومشغلين محليين أو عالميين وهنا ليس تعميماً لنظريّة المؤامرة لكنّ هذا يحصل باسم التأثير والقضايا وكثيراً ما نجد هؤلاء “حرّاس المعبد الافتراضي” مكرّمين من منظمات دولية أو سفارات أو حكومات نظراً لجهودهم في الترويج لقضايا معرفة وأخرى غير معروفة.

 

كلّ هذه الاعتبار تعيد السؤال للبداية، هل هناك حريّة وفرص متساوية للتعبير في وسائل التواصل الاجتماعي؟ وهل هذه الاعتبارات تساعد على فهم معاناة الآلاف من رُهاب وسائل التواصل الاجتماعي فيكتفون بالإطلاع ويخافون من المشاركة أو دعم قضيّة أو التعبير عن آرائهم؟

نحن بحاجة لإعادة التفكير في هذه الاعتبارات ولو على المستويات المحليّة لكي لايفقد الإعلام الجديد دوره في الأخذ والرد بين الأطراف وكونه باتجاهين ولا يعود كما كان الاعلام التقليدي اتجاه واحد موجه بشكل كامل.

 

وسيم السخلة

دمشق – أيار ٢٠٢٢

الناعم هويّتنا في سورية، وغربتنا خارجها

عندما تقرر أكل الناعم، أنت تلقائياً تُقبلُ على رحلة مجهولة النهاية، فيها شيئ مؤكد وحيد، أنها سعيدة

تخيّل وأن تمسك شيئاً تعرفُ أنه سينكسر، سيملئ أصابع يديك بالدبس، وسوف لن تعرف أن تقسّمه كما تفعل مع الخبز أو مع الكعك، فقوّة وهشاشة الأجزاء في رغيف الناعم غير متساوية، بالتالي فأنت عندما تقسمه لنصفين قد يقسمُ نفسه لعشرة أجزاء، واذا قررّت أن تأخذ كسرة صغيرة قد تجد ثلث رغيف بين يديك.

العشوائيّة التي يشكلها الناعم في ارتفاعه وانخفاضه كأنها صحراء لحقتها عاصفة بالأمس، أما سيول دبس العنب أو دبس التين، أو دبس الخروب، فعلى اختلاف ألوانها وكثافتها تجري كأنهار وسيول، وقد تشكّل بعض التجمعات القاتمة، وأنت تأكل الناعم قد تجد واحة من الدبس، فإذا وصلتها وجدّتها واحة بالفعل وليس وهماً كما يحدث في الصحراء.

الناعم مرتبط بالجماعة، في ذات الوقت هو مأكول فرديّ، ولا أدلّ على ذلك إلا فكرة أكله رغم الشبع، حيث يسعى كلّ فرد لاقتطاع حصّته وعدم التأجيل، لأنهُ يعرفُ مسبقاً أن فرداً آخر من العائلة سيقضي على حصته ولن تفيده أي معاهدات سابقة تسري على باقي الحلويات أو الفواكه، أو حتى تلك العادات الإجتماعية، سيأكلون رغيفك ولو كنت أنت الأب.

ليس للناعم قياس واحد، ولا لون واحد، ولا سعر واحد، كما أنه ليس له ارتفاع معيّن وبالتالي فقد اخترعوا علباً للفلافل حتّى، ولكنهم عاجزون عن اختراع علبة للناعم، ليس للناعم تاريخُ صلاحية لأنه لايبيت أصلاً، فلا بسطة ناعم إلا وتنفّق ماعندها قبل الفطور، ولا منزل يبقى فيه الناعم أبعد من أذان العشاء، الناعم بعد الفطور سلعة مفقودة لاتجدها في الأسواق ويخبّئها الناس أمام زوارهم، ويبقون قلقين من أن يتسلل أحد أولادهم للمطبخ فيرى الناعم فوق رؤوس الفرن، غير قابل للاختباء في خزانة أو براد.

الدبس فوق الناعم هو لوحة تشكيليّة، يستحيلُ أن تعاد مرّتين، كما أنّ لكلّ بسطة طريقتها في وضع الدبس، فمنهم من يدوّر الشوكة الخشبيّة الكبيرة ومنهم من يأتي ويذهب بها بشكل متوازي، ومنهم من يقاطع الخطوط كشبكة ومنهم من اخترع طرقاً سريّة أخرى بحيث يقنع الشاري أن الرغيف ممتلئ وأن زيادة الكميّة تزيد المرار وتُذهِبُ العقل.

القرمشة في نهش الناعم مسموحة، لاتشبه أي قرمشة أخرى، انها قرمشة ذات صوت منخفض، ناعم، يتضائل تدريجيّاً حتى يختفي ويختفي معه همّ صاحبه وتذمّره، فتجد الجميع بعد أكل الناعم لايفكرون في شيء، بل تتشكّل أماهم شلالات بألوان العسل وتنبسط أمامهم سهول صحراويّة مذهّبة رائعة لايشعرون فيها إلا باللذة وينسون معها عذابات الصيام.

هناك اعتقاد قديم أنّ الناعم كان تحليةٌ للنخبة من رجال الامبراطوريات العظيمة، وهو الذي مكنهم من المحافظة على قوتهم وذكائهم وهو سببُ انتصاراتهم في المعارك وغرف النوم، وهو سبب الخصوبة والحياة والمستقبل والمتعة الأصليّة، جرّب تشارك هذه الكذبة مع أحد يأكل الناعم، لن يناقشك بالطبع لأنه أرضى غروره للتو ببعض الناعم.

أما المغتربون، فهم لايشتاقون في الحقيقة إلى الناعم، بل يشتهونه، ولايشتاقون إلى تصبّغ أصابعهم بالدبس فقط بل يبكون لأجل ذلك، لم تعوضهم كلّ المحاولات الفرنسيّة والبلجيكيّة في انتاج حلويات اللذة، كما لم تعوضهم الأوروبيات عن بنات البلد، فتجد أخواتهم وأمهاتهم يقضون قبل الظهر في مجموعات الفيسبوك النسائية وبعد الفطور يذهبون للتراويح لمعاينة الفتيات فيعدن إلى الواتساب لوصف العروسات المتوقعة لأبنائهم.

هكذا هو الشرق، ناعم في رمضان

وسيم السخلة، رمضان 2022

« Older posts

© 2024 Waseem Al Sakhleh

Theme by Anders NorenUp ↑