نستخدم تطبيقات مجانيّة لكنها تتطوّر كلّ لحظة،ونحن مكاننا، أقصدها حرفيّاً هذه المرّة لا مجازيّاً

أنا في دمشق، صديقي في كندا، يعيشُ في مدينة يصعُب عليه لفظ اسمها.. صديقة عتيقة تنتظرُ الشمس منذُ عدّة أيام في السويد.. تنتظرها بملل

شقيقتي في بريطانيا تكتشفُ الطبيعة من جديد، صديقٌ ينتظر المترو في دبي، يأتي بسرعة، لاوقت للانتظار.. آخر يتشاجرُ مع ڤان رقم 4 في بيروت..

أحدهم صار بعيداً جداً يقضي يومهُ في تعليم الأميركيين مكان سورية في الخريطة.. ويشرحُ لهم ما حصل في الحرب فيخوض حرباً جديدة مع العالم الآخر

ونحنُ صغار كنّا نرى خريطة العالم ومركزها سورية، لكنّ الخرائط المدرسيّة مُضلّلة ركزنا فيها على سورية وبلاد الشام والوطن العربي، كلّماً كانت تتسع الخريطة مزيداً من الدول كانت تصغر سورية، وتصغُرُ كثيراً

عندما سافرنا وارتحلنا اكتشفنا أن لكلّ بلد خرائطُه، وبالكاد تظهر منطقتنا كلّها وليس سورية فحسب، بالكاد يمكنك أن تشرح للناس قضايانا العادلة وغير العادلة، عاداتنا الأصيلة والمسروقة، تاريخنا المُصدّق والمزور، غاباتنا المشمسة والمحروقة، أرشيفُ انتصارات هزائمنا، لون الرماد فوق المدن، في جدران المؤسسات الحكوميّة، في كوريدور مدرستي الإبتدائية، على شُبّاك تابوت للنقل العام، كان أخضراً وأزرقاً وأحمراً وفي سنوات الرخاء والمصائب كان أبيضاً..

ونحنُ هُنا، يقلق الأصدقاءُ في تركيا، يتمنّون لو أنه لدينا انتخابات ثم يقلعون عن الفكرة بسرعة، يخوضون حرباً في روسيا، يخسرون أرزاقهم في مصر، يتسوّلون أموالهم المسروقة من بنوك لبنان، يتعلمون الألمانيّة للسنة العاشرة، ويعدّون أنواع الطيور في أستراليا فيكتشفون أن التنوع في بلادهم كذبة، أقصد التنوع الحيواني بالطبع

صار همُّ الناس مركباً، بلادٌ جديدة يحملون همومها، اليمين واليسار، القوانين والقرارات، نخنُ خارجون من بلاد لاتسألنا ولا نسألها، نُحبّها ولا تهتمُ لأمرنا.. من أين جائتنا هموم الديموقراطيّة والحريات وأحزاب الخضر!

يحملُ كلّ سوري عشر حقائب كبيرة، حقيبةٌ للمؤسسات الحكوميّة، يحمل فيها ألف صورة لهويته وتسعمائة اخراج قيد وتسعين تأجيلاً وثلاث موافقات سفر، ودفتراً لخدمة العلم ودفتراً لسيارة والده، ودفتراً للعائلة، ودفتر النهاري مجلداً بالأحمر لأنه كتب عليه حلمهُ في المدرسة ودفتر الليلي مجلداً باللون الكحلي حيث صلحت لهُ المعلّمة الجميلة وظيفة الفرنسي ودفتراً للرسم رسم فيه بيتاً بسقف قرميدي رآه في أفلام مُترجمة، ودفتراً للموسيقى بقي فارغاً لسنوات، ودفتراً للدّين انتزعهُ من بقاليّة الحارة بعد ما باع خاتم أمّه وسدّد الدين قبل الرحيل ودفتراً لقسائم المازوت المُباعة، ودفتراً أثرياً لقسائم التموين، ودفتراً للقاحات التي أقحموها في حلقنا ذات مرّة في المدرسة والمستوصف.. ودفتراً فارغاً ليكتب خطته الفاشلة

في حقيبة أخرى نحملُ بهارات لم نستخدمها، كركم، وفلفل حلو وفلفل حار وفلفل متوسط بينهما، ونعنع يابس وجوزتين طيب وأوراق غار ووكمون مطحون وكمون حب وكربونة وسمّاق وعشر مكعبات ماجي، أعرف صديقاً استخدم من كُلّ هذا مكعبات الماجي فقط، وعندما عاد (عاد ظلّهُ) وزّع البهارات على من بقي هُناك وهم بدورهم جعلوها في الرفّ الأخير ينقلونها من حلم لآخر.. فإنذارات الحريق لاتحتمل هذه الروائح

الحقيبة الثالثة مخصصة للملابس الداخليّة البيضاء، معظمها اشترتها الأم السورية لأولادها وزوجها من سوق الحميديّة بقياسين، الأول قياسه الحالي والثاني بنمرة أكبر، لم تدري الأم أن هذه الأحجام ستنتهي وسيمتنع أولادها عن تناول السكر أشهراً لخفض أوزانهم، سيتحول شكل الجسم مع شكل الحياة الجديدة، أجسادٌ لاتُشبهنا، كثيرة الرشاقة تحملُ خفّة الرحيل المستمر.

حقيبة السوري الرابعة مخصصة للمناسبات، طقمٌ رسميّ نلبسه مرّة في عرس أصدقائنا، نتحايل مع خياط عربي لنصيف إليه زرّاً جديداً مع كُلّ مناسبة، نضيّق الخصر، نوسّع الجيوب لتتسع لباور بانك، بوط كبير يُشبه الحرب، نحملهُ لأيام المطر، نتوقع دوماً أننا سنستخدمهُ فنبدو به كجنديّ سوڤيتيّ يتجول في مطعم أميركي للوجبات السريعة، نتخلصُ منه حالاً، ثم نضعه في البلكون، نتراجع، نقول سيلزمنا عندنا نذهب للتخييم وهناك نرى الأصدقاء الجدد يلبسون خفّافات خفيفة فنخلعهُ من جديد ونحفظهُ لأنه يذكرنا بالفتوّة، من أفتى بها أصلاً حتى صرنا جنوداً لكلّ هذه الهزائم؟

في الحقيبة الخامسة نحملُ أدوات للعناية الذاتية، بودرة خوفاً من “السماط” وعشر عُلبٍ من حبوب الإلتهاب المحظورة بدون وصفة (خارج بلدنا طبعا) وابر ديكلون قاتلة، وكريماً وطنيّاً لترطيب البشرة يجعلها قاسيةً جيّدة، ونكاشات أسنان نحملها ولاندري معها أنّ أيام المناسف واللحم على الطريقة القديمة ستنتهي بعد أن نعبر نقطة المصنع على الحدود اللبنانية، نحملُ ظروف سيتامول وطني، نعرف أن وجع الرأس سيأتي سيأتي، نجرّب عشر مشاطات للشعر ونختارُ أسوأها حُبّاً بالتغيير، نُحبّ التغيير للأسوأ على طريقة حكوماتنا.

في الحقيبة السادسة نحمل عشر أحلام وألف خيبة وستين تحدّي أُجبرنا عليه منذ طلب منّا استاذ العسكريّة في المدرسة أن نُسمع الحيّ كلّه شعارات الصباح والنشيد الوطني، في حذه الحقيبة شيءٌ واحد محسوس، سجادة صلاة جديدة أخرجتها أمّ من صندوق السرير حفظتها عقدين على الأقل بعد عودة أحدهم من الحج، سجادة ستبقى جديدة دوماً على الأغلب.. لأن اتجاه القُبلة يتغيّر في الخارج

في الحقيبة السابعة نحملُ الحقيبة الثامنة لأننا نخشى أن يكون سوق الخجا غير موجود خارج سورية، وأن نُضطرّ لحمل الهدايا في أكياس نايلون، نعدُ الناس قبل السفر بالهدايا، سأُحضر لك هذا الشيء وتلك الهديّة وكأننا سنعود ونحن نقود باخرتنا.. وفي الحقيقة إن عُدنا فالعودةُ على ظهر شاحنة أو وقوفاً في بولمان.

في الحقيبة التاسعة نحمل كلّ السُتَر، هذا جاكيت للشتاء القارس صحيح أنّهُ مضروب من هُنا لكنّ الوالدة وضعت لهُ رقعةً عليها وردتين، وهذا جاكيت خفيف للربيع سحّابهُ معطّل لكن لاضرورة لزرّه، وهذه كنزة صوفيّة تخلق حساسيّة وتجعلك مدفأة وتلبس تحتها 5 كنزات ولاتلبسها أبداً.. وهذه طاقيّة للشمس لتحمي مقدمة الرأس وتكون بمثابة بطاقة تعريفيّة لك أنك عامل وأن شعار الشركة على الطاقيّة لأنها غرض دعائي وليس لأنك صاحب الشركة، أن لاتملكُ حتى نفسك.

الحقيبة العاشرة لاتعرف ماذا بها، هي التي تركتها في المطار مُكرهاً تحت طائلة فوات الرحلة عليك، وهي نفسها التي سرقها راكب آخر في البولمان عندما نزل وأنت تبكي وترسل ستيكرات القلوب في واتساب، وعلى الأغلب هي الحقيبة التي تضعُ فيها قلبك الذي يضمّ حبيباتك منذ المدرسة وحتى آخر مرّة أحببت فيها بصدق وفارقتها أمام دار الأوبرا.. هذه الحقيبة لا تُسافر معك، انها تُسرق منك وتبقى هُنا للأبد، واذا عُدّت فلن تجدها ولن تجدك.

وسيم السخلة

دمشق 2023