هالدّني بتساع الكل <3 - Life can accommodate everyone

دير مار موسى، سورية التي قد لا نعرفها!

الشمس عندما تدخل إلى الكنيسة في الدير

خلال الأيام الماضية اختبرت تجربة مختلفة عما نعيشهُ في حياتنا اليوميّة كسوريين، وفي سورية. تجربة متكاملة من الهدوء والتأمل والروحانيّة، أقول متكاملة لأنه هذه الصفات اكتملت بغنى هذه التجربة بالمحبّة!

بدأت الفكرة من اختيار مكان لتوديع صديقنا المهاجر إلى جانب آخر من الأرض، إلى الولايات المتحدة سيهاجر صديق لطالما قضينا معاً ساعات طويلة من حوارات في أيام الحرب وأيام السلم وأيام القسوة التي نحاول عيشها اليوم، ستتوقف ربّما هذه الحوارات العميقة والتي كنّا ننطلق فيها لمكان مختلف عن تلك الحوارات التي نخوضها يوميّاً، لقد قررنا أن نودّع هذه اللحظات في مكان ليس له مثيل في سورية، إنه دير مار موسى الحبشي في القلمون وسط سورية.

في الأوتوستراد الدولي بين حمص ودمشق تقع مدينة النبك التي تتبع إدارياَ لمحافظة ريف دمشق، دخلنا هذه المدينة الجميلة الأنيقة وخرجنا شرقها نحو البادية.. بدأت سورية الأخرى تظهر إلينا نحن أبناء المدن، صحراء، بادية، شول، عراء، تراب، لا أحد.. سمّها ما شئت، بدأت كلّ شيء يختفي فقط شعاع الشمس الآتي من الشرق، نسيرُ نحوه في مرتفعات ومنخفضات، منطقة قاحلة تماماً، أعتقد أنّ الليل يسكنها وحده، تنقطع فيها شبكة الاتصال، والانترنت، لا عواميد كهرباء ولا شارات طرقية، هناك بعض الطيور البريّة لكنها غير مرئيّة، فيما عدا ذلك مضينا عدّة كيلو مترات في العراء التام.

أراض واسعة، تتراوح ألوانها من السمرة وحتى السواد بفعل الظلال، طريق اسفلتي تشّقهُ الحفر أحياناً وتغير اتجاهه بعض الصخور الكبيرة، ويستمرّ هذا الطريق نحو العراق حسبما قدرنا، لكنّ انعطافة نحو اليمين تأخذك نحو جبلين، يُشير لي صديقي بأن: هل شاهدت الدير مقصدنا؟ أجيبه ب لا، فيقول لي: تماماً هذا ما أرادوه في البداية دير يختفي بين الصخور بشكل متقن، بني كبرج دفاعي روماني يعود للقرن الثاني الميلادي، وهو دير سرياني يتبع جماعة دير مار موسى الحبشي الرهبانيّة بحسب طقس الكنيسة السريانية الكاثوليكية. (هذا ليس مقالاً عن تاريخ دير مار موسى يمكنك إيجاد عشرات المقالات التفصيلية عن الدير وتاريخه وأبنيته في الانترنت)

نصل إلى بداية الدير، يُحيّنا جندي من الجيش، نسأله عن ركن السيارة ونحن نتمنّى أن ندخل بها بعض الأمتار، فالشمس حارقةً جداً، يشير لنا نحو الباب ويسألنا وضع الأغراض في سلّة حديديّة مربوطة بالأحبال إلى الدير(قاطرة معلّقة، تيليفريك)، الأغراض تصعد فيها، أما نحنُ فعلينا الصعود في درب حجري ومن ثمّ درجات.

مئات الدرجات المرهقة، تحت الشمس الحارقة، مئات الدرجات تقضيها في حالة من الدهشة، كيف يعيشون هنا!

عند الوصول يستقبلك المشهد الذي صعدّته، إنها لذّة الوصول بعد التعب، تحت قماش من الخيش تستريح على قواطع حجريّة وخشبيّة قبل الدخول للدير، باب الدير باب صغير لايتجاوز ارتفاعه نصف طولك، ومنه لباب مشابه، أبواب حديديّة قديمة أعدّت بعناية كمدخل للدير.

وصلنا في وقت الإفطار، استقبلتنا الجماعة التي تعيش في هذا الدير بالمياه الباردة، عفواً قبل المياه كانت الابتسامة، وكأنهم اعتادوا هذا الموقف، فأتقنوه.

من اللحظة الأولى سنشعرُ أنه مكاننا، استلمنا الغرف البسيطة، تعرّفنا إلى أماكن الخدمات، وفهمنا أين سنعيش الساعات القادمة، الكهرباء متوفرة دوماً، المياه الباردة والمغاور في الجبال والفسحات والمكتبة التي كلّ ما فتحت فيها باباً أخذك إلى مكتبة أخرى، لقد بُنيت هذه الغرف في الصخر، وعلى الصخر ولهذا ليس لها منطق هندسي نعرفه، بل حسبما أتاح تشكيل الصخور بنيت هذه الغرف والمساحات.

في الكنيسة التي تتوجه نحو الشرق حالة أخرى، مدّ عربي بسيط، شموع في كلّ مكان، أيقونات كتبت على الجدران يعود بعضها إلى ألف سنة مضت، صلات لثلاث مرّات باليوم، صلوات رقيقة جميلة دافئة، أنت غير مجبر عليها، لكنّك ستحبّ ذلك.

اثر كلّ صلاة: كلام جميل، وعبر للحياة وحوار ممكن، وتأمل طويل.. ساعة صمت مسائيّة يمتنع فيها كلّ الدير عن الكلام، لكنك تشعر فيها بأنّك تحكي كثيراً والسماء تسمعك، طاقة كبيرة يركزها التأمل أمام عينيك، وفيك.

المشاعر بالدير هي مشاعر البيت، ما إن تدخل حتى تصبح جزءاً من المكان، تتحرّك فيه بسهولة، القواعد بديهيّة ومحدودة، الكل موجود ليساعد الكل، يمكنك التأمل، الصلاة، الكتابة، العزف أو الاستمتاع بالموسيقى، التفكير والنوم والتخطيط والقراءة، هناك غرف هادئة ومعزولة تماماً للقراءة، ومكتبة غنيّة بآلاف الكتب المتنوعة.

وجبات الطعام بسيطة وغنيّة وصحيّة ولذيذة، تُصنع كأنها في المنزل، يمكنك أن تساعد فيها أيضاً، الدير أنيق ونظيف ومرتب وعليك أن تساعد في ذلك أيضاً، الرهبان لطفااااء جداً يجيبونك عن كلّ شيء مهما كان صغيراً أو كبيراً عنهم وعن ما يعرفونه.

الأماكن كثيرة، متاحة، وعلى الجبل الآخر الدير الحديث أو المكان المجهز بالغرف والقاعات وهو الأحدث نسبياً وفيه غرف للمنامة وقاعة متوسطة للمؤتمرات وقد غلب عليه الطابع القروي، حتى أنّ مداخل الأبواب والشبابيك قد تمّ احضارها من بيوت تقليدية قديمة ربّما حلّت محلها الأبنية الحديثة.

بين الجبلين أو بين القمتين جسر حديدي وتحته وادي يمتلأ بالمياه وقت السيل أحياناً، في الخلف حاولوا بناء سدّ للمياه فغمر الوحل السد وظهرت أرض جديدة زرعت بالزيتون، حاولوا زراعة عشرات الأنواع المثمرة وقد كانوا يربون الحيوانات لكنهم توقفوا مؤقتاً..

لقد عانى هذا المكان من الإهمال خلال ستينيّات وسبعينيّات القرن الماضي، وأي زائر سيلاحظ تشوّه الوجوه في الأيقونات التاريخيّة المكتوبة على الجدران، حتى بدأت في الثمانينيّات جهود من الراهب اليسوعي باولو دالوليو الإيطالي لإعادة الألق للمكان وحوله إلى منارة ومركز لحوار الأديان وأجرى فيه كثير من الحوارات الدينية الإسلاميّة والمسيحيّة، وصار الدير مقصداً للآلاف على مدار عدّة عقود يرغبون بعيش التجربة لأيام أو يقيمون عزلتهم او تدريباتهم أو خلواتهم وصلواتهم وحواراتهم في الدير ومطارحه.

اليوم يعيش في الدير عدّة رهبان وراهبات اختاروا البقاء هنا ويتابع أغلبهم دراساته الدينيّة في إيطاليا وغيرها، ويرتبط الدير بأديرة أخرى، وعندما زرنا الدير كان هناك بعض المقيمين من الإيطاليين الذين جاؤوا لاختبار هذه التجربة كما جاء المئات قبلهم من مختلف دول العالم.

الدير ليس مكاناً للاصطياف أو التسلية بل هو مكان للتأمل والعزلة، وهو متاح لأي كان مهما كان انتماءه الديني أو الطائفي، لا أجور إقامة وإنما تبرعات تضعها في صندوق عتيق بحسب قدرتك، للوصول إلى الدير عليك التوجه لبلدة النبك في ريف دمشق، ويمكن الوصول إليها من دمشق من كراجات العباسيين بواسطة الميكرو سيرفيس (2000 ليرة سورية) ومن النبك عليك إيجاد سيارة أجرة نحو الدير.

لأن الكثيرين يسألونني كيف، فإن الاتصال واخبار الجماعة الرهبانيّة بأنكم قادمون هي الطريقة الأنسب، لايوجد تغطية موبايل في الدير وعليكم الاتصال على الرقم الأرضي: 0117877199

هذا الدير هو جزء من سورية التي قد لا نعرفها، أشجّع كلّ المهتمّين بشدّة على زيارته واختبار هذه التجربة!

وسيم السخلة
صيف 2022

1 Comment

  1. Bushra Al-Nukta

    شكرًا لمشاركة تجربتك ولإضائتك على سُورية هناك!

    تجربة روحية غنية بالفعل؛ أهنئك عليها فأرواحنا بأمس الحاجة إليها في هذا الزمن لإعادة التواصل مع أنفسنا وإعادة توجيه بوصلتنا الداخلية والتجرد من كافة اكسسوارات الحياة الحديثة التي نادرًا ما تغني الروح والعقل.

    نمط حياة ليس بالسهل ولكن بساطته مُغرية.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

© 2024 Waseem Al Sakhleh

Theme by Anders NorenUp ↑