أنا وجدّي فائق السخلة في شاليهات مجمع المنارة السياحي بداية الألفيّة

لم نكن نفرّقُ كثيراً في صغرنا طرطوس عن اللاذقية، إنّهُ البحر بالنسبة لنا.

الرحلة الصيفيّة إلى البحر لم تكن بهذه السهولة، كان الأمرُ يتطلّب أياماً كثيرة من التجهيز. حصول أبي على إجازة من عمله، ثم إيجاد حجز لفيلا في رأس البسيط حيث شاليهات إتحاد نقابات العمال، فقد كان أبي عاملاً وبطل إنتاج في سنوات سابقة.

في بعض الأحيان كانت لنا فرص أخرى، تعرّفنا على مجمّع المنارة السياحي في طرطوس، وكان الإيجار فيه غالياً نسبيّاً لكن علاقات جدّي الذي كنّا نعيشُ معهُ ويعيشُ معنا كانت غالباً ما تأتي لنا بخصم كبير أو حتى أيّام مجانيّة. مجمع المنارة كان أجمل ما شاهدتُهُ في سورية وقتها، شاليهات من طابقين على الأكثر يكسوها الحجر الأبيض تتوزّع بينها شجيرات التويا والورود الحمراء مع أطاريف ملوّنة لتبدو مدينة صغيرة مثاليّة، فيما بعد تم صبّ الشمينتو على الشاطئ الرملي الجميل ليغدو مرسى للسفن وينتهي المجمع بالنسبة إلينا.

كُنا نصيّفُ أيضاً في أمّ الطيور، كانت تناسب العائلات المحافظة كما تحرص أسرتي، وأذكر حلماً رأيتهُ قبل زيارتها بأنها مليئة بالطيور وما تزال صورة الحلم هذا ترافقني عند أي حديث عن هذا الشاطئ. المهم وقتها لم أجد في أم الطيور ولا طيراً واحداً حتى!

كان يذهب بابا بسيارتنا الكولت المتواضعة من شركة ميتسوبيشي إلى الكهربائي والميكانيكي والمغسل، صيانة عامة، تغيير البوجيهات، وغالباً كانت الفرصة السنوية لتغيير الإطارات بأريع إطارات جدد من نوع بريدجستون أو لاسّا كما أذكُر، ليس هذا فقط بل كنّا نثبّتُ قفصاً في أعلى السيارة لنضع عليه حقائب الثياب وبرادة المياه والبهارات وقطرميزات المكدوس والزيتون واللبنة المدعبلة وغيرها، بالإضافة إلى غاز صغير وضوء يشحنُ على الكهرباء (بيل كبير) لونُه خمري ذو لون أبيض جائنا كهدية من الخليج كما معظم عائلات سورية وقتها.

كان أبي غالباً ما يقلق على طريق السفر، على الرغم من أنني قطعتُ آلاف الكيلومترات في السنوات الأخيرة براً وبحراً وجواً ولكنني نادراً ما شعرتُ بقلق، ربّما لأنهُ كان لطريق السفر رهبتهُ، لم يكن لدينا خط خليوي وقتها، كان لدينا جهاز موبايل من ماركة نوكيا 4310 جائنا كهدية من دبي ولكننا لم نتمكن من شراء خط موبايل ب50 ألف سوري حوالي ألف دولار في وقتها!

في مرّات كثيرة كانت رحلات البحر تعني أن عدّة سيارات من العائلة تتسابق إلى اللاذقية، سيارة عمي زياد الكولت أيضاً مثلاً، في هذه الطلعات العائلية كنا نحنُ أولاد العائلة الصغار نقضي طريقاً من ثماني ساعات تقريباً في صندوق السيارة الذي كانت يُشبه سيارات الستيشن، كانت هذه المساحة حوالي نصف متر ولكنها كانت واسعة في مخيلتنا وكأنها البحر.

البحر كان مجرّد شغف، ورحلة الصيف هذه لم تكن الأيام التي نقضيها على الشاطئ بل كانت الوعود بالبحر منذ فترة الإمتحانات وحتى بعد العودة بأيام حيثُ كنتُ أساعد بابا بفكّ القفص، كان القفصُ فضيّاً في قاعدته قضبان حمراء، وغالباً ما كُنّا نحصلُ على الحبال التي ربطنا فيها الحقائب لنعيد استخدامها كمراجيح على أغصان الأشجار في بستان جدّي الآخر الصيفي بعين الفيجة في الريف الدمشقي.

جدّي كان رفيق كلّ شيء. لنقل أنّ الحياة كُلّها كانت راحة جدّي وأدويته وعكازهُ الذي يعلوهُ نسرٌ نحاسي.

علينا قبل كلّ شيء تجهيز طاولة جدّي، مذياعٌ صغير يعمل دوماً وأركيلتهُ الصفراء والفضيّة مع معسل التفاحتين، كما كان في كثير من الأحيان وعند زيارة أخيه اللبناني أبو خضر يستعين بأركيلة التنباك الثقيلة، جرّبتها مرّة في غفلة منهُ وأصبت بالغثيان تماماً..

كان جدّي كلّ شي، هو يقرر شكل الحياة، ماذا سنأكل وماذا علينا أن نأكل، كيف سنأكل السمك مقلياً أو مشويّاً، لم أكن نباتيّاً بعد أعتقد أنّ جدّي لم يكن يدرك أنني توقفت عن آكل اللحمة في آخر سنين حياته، لو أدرك لحجب عنّي المصروف اليومي 25 ليرة سورية ذاتُ طرف مذهّب.

في البحر كان ثاني ما نقوم به شراء دواليب البحر المطاطيّة والفواشات، كنتُ أحظى بدولاب أزرق على شكل سمكة كما كانت مروة أختي تحظى بآخر لونهُ زهر (لم أكن قد تعرضّت لدورات في الأدوار الجنديّة وقتها لا أنا ولا عائلتي بالطبع، ولا كلّ سورية غالباً)

أخذنا درساً في المدرسة عن أوغاريت واقترحتُ على بابا زيارتها، ذهبنا إلى أوغاريت فلم نجد المدينة كما درسنا عنها، 5 طبقات من الحضارات المتراكمة، وجدنا تلّة جبليّة فيها بعض الحفر وجرن ماء كبير وباب أوغاريت الذي يشبه الرقم ٨ باقي المدينة نمت فيها الأعشاب وتناثرت القمامة ولولا عربتي تذكارات قرب الباب لما عرف أحد أنّ أبجديّة البشريّة الأولى ربّما كانت هُنا.

كان الطريقُ قلقاً وجميلاً، تتقاربُ سيارات العائلة الكبيرة نلوّح لأولاد وبنات العم من الشبابيك، نغرقُ في الضحك بدون سبب، نلاوق بعضنا ونقوم بحركات بهلوانيّة لأننا فرحون فقط، نريدُ أن نلاقي البحر.

اليوم أراقبُ البحر، أرى صورة جدّي وضحكات العائلة وما كنّا نحمله من أدوات للقضاء على الناموس في شاليهات متواضعة كان الفرح فيها يساوي كلّ ما نلتهُ من رفاهيّة حتّى اليوم وفي كلّ الدول التي زرتها.

وسيم السخلة – اللاذقيّة – خريف 2020