هالدّني بتساع الكل <3 - Life can accommodate everyone

Author: waseemz (Page 3 of 4)

10 ملامح سلبيّة رافقت المجتمع المدني السوري في العقد الماضي!

نما (ربّما نشأ من جديد) المجتمع المدني خلال العقد الماضي بشكل كبير في سورية، وبعيداً عن جدليّة التسمية فإننا نعني هُنا مختلف الكيانات المجتمعيّة والمبادرات والفرق والجمعيات والمؤسسات المرخصة وغير المرخصة في مختلف الجغرافيات داخل وحول سورية.

بالطبع كان للمجتمع المدني أدوار كبيرة وهامّة جداً لتحسين حياة السوريين خلال العقد المأزوم والمعقّد، نودّ هُنا تدوين بعض الملامح السلبيّة علّها تكون دروساً مستفادة للعمل المدني السوري في قادم الأيّام

الوكالات الحصريّة

تعتقد بعض المجموعات أنّ موضوعات وقضايا معيّنة واحتياجات أساسيّة العمل عليها حكر لها، ولايجوز دخول لاعبين جدد لسدّ الإحتياجات أوالعمل في هذا المجال، إلا من خلال الانضمام لهذه المجموعات أو العمل بإدارتها، من منطلق سخيف بأنهم من عملوا أولاً على ذلك وربّما لسنوات متعددة.

مع السوق منسوق

لايتوقف أفراد ومجموعات عن ركوب الأمواج المدنيّة الجديدة، التي تجتذب التمويل والاهتمام، بالطبع لايعني هذا تقييد حريّة الناشطين في الإنخراط بقضايا جديدة ولكنّهُ دعوة لأخذ القضايا بجديّة أكثر والتخصص لإغناء القضايا والأهداف، ودعوة لتجاوز السطحيّة المعرفيّة المفرطة هذه الأيام بين ناشطين كُثُر. (لاتناقض مع النقطة السابقة، إنّهُ خيط رفيع يجب إدراكه.

ديكتاتوريّة القُدامى، كهنة العمل المجتمعي

يلعب بعض الأشخاص أدوار الكهنة الذين لايتغيّرون (شباب وكهول على حدّ سواء!) وهم يُسيطرون على جمعيات ومؤسسات كبيرة ويديرون أصغر التفاصيل فيها لصالحهم ووفق أهوائهم ولمصالح عائلاتهم وربّما مؤسساتهم التجاريّة، إنّهم يلعبون بالإنتخابات كما يلاعب الأطفال مكعّباتهم، يدّعون قيماً ويتجاوزونها، إنّها تُعجب المانحين الذين أصبح موظفوهم شركاءاً لهم أحياناً!

دكّانة الحجّي

هذا النمط من الأعمال قد يشمل الأعمال العائليّة والمقصود به هُنا التحكّم وإدارة العمل بطرق قديمة تقليديّة، ربّما النوايا خيّرة وصادقة إلا أنّ هذه الطريقة بالعمل تعتمد الولاء المطلق وتبدد الموارد ويحكمها الفردانيّة والشخصيّة والكلمة الواحد التي لايجب نقاشها لصاحب العمل/المؤسسة الكبير، إنها نموذج موازي للورشات الصناعيّة التي تبقى محلّها ولاتتطوّر بمرور الزمن وتنتهي بغياب أصحابها.

فزعة يا جماعة

تعمل كثير من المجموعات وفق مبدأ الحاجة الملحّة والإستجابة السريعة، وهذا مميّز مهم وأساسي إلا أنّ حالة المفاجأة المستمرّة والإندهاش المصطنع في ظروف متكررة تتحوّل إلى حالة لتضييع الموارد وغياب الشفافيّة والأرقام بحجّة الإستجابة، كما أنها تشمل فرص للتلاعب وتبييض الأموال وتلميع الشخصيات.

تمييع القضايا

يلجأ كثير من الناشطين للعمل في قضايا لايعتنقونها بالفعل، لأنهم ببساطة يحتاجون للعمل والأجور والإستمرار، هذا الأمر يجعل كثير من العاملين في القضايا لايعرفون عنها الكثير بل وتبدو تفسيراتهم متناقضة على الرغم من عملهم وفق نفس النماذج والأهداف إلا أنّ التنفيذ وفهم العمليات يكون مختلف تماماً ما يجعل النتائج متضاربة.

بعضها ليس إلّا مؤسسات حزبيّة!

من المفهوم انتماء ناشطين مدنيين لأحزاب سياسيّة هذا حق طبيعي، لكنّ انتماء كيانات مدنيّة تدعي الإستقلاليّة هو أمرٌ مريب، وقد نجدُ جمعيات ومؤسسات مدنيّة هي حزبيّة تعمل مع مستفيدي الحزب السياسي وعائلاتهم، بالتالي فهذه الجمعية تتموّل حزبيّاً وتروّج لأهداف الحزب/الحركة في أيّ منصات مدنيّة قد تناقش قضايا إنسانيّة.

نعمل مع جماعتنا فقط

للأسف درجت أعداد كبيرة من الجمعيات على العمل مع طوائف معينة أو في مناطق محددة، ليس من باب تقسيم العمل وإنما تقسيم الجماعات على أسس الانتماء السياسي والعرقي والطائفي والمناطقي في ضرب واضح لمبدأ العمل لأجل الإنسان الذي من المُفترض أن يكون بديهيّاً.

شغل بازاري

يُعرف الشغل أو المنتج البازاري بأنّهُ المشغول بلا اتقان وهو دوماً قابل للعطب وغير مفيد، يمتنع عنهُ الناس ولايُقدم عليه الحرفيين المعروفين، هذا في الأسواق التجاريّة، كذلك في المجتمع المدني السوري كثير من الخدمات المقدمة هي خدمات غير مفيدة ورديئة وقد تسبب مشكلات أعتقد من تلك التي تُحاول حلّها، ينسحب هذا على ما يُقدّم معنويّاً (بعض الدعم النفسي مثلاً) وفي المُقدَّمات العينيّة للمحتاجين!

نحنا غير انتو

تمتنع كثير من الجهات عن الإنضمام لشبكات أو مجموعات لتعزيز الوصول وزيادة الجدوى، فنجد مشاريع متطابقة مع نفس المستفيدين والسبب الإمتناع عن التنسيق والعمل المشترك خوفاً من انجذاب المانحين نحو جهة على حساب أخرى أو لغياب الثقة من أساسها، وربّما قلقاً من الشفافيّة والتغيير والجيل الشاب.

هذه الملامح ليست كُل شيء، هناك عشرات الملامح الإيجابيّة التي نفتخر بها ونعمل على تعميمها وتعظيم أثرها

وسيم السخلة

13/06/2021

لماذا أدرس العلاقات الإسلاميّة – المسيحيّة؟

منشور من صفحة عامة بتاريخ 30/04/2021

بينما أستلمُ بريداً من دكتورتي المشرفة في رسالة الماستر رأيتُ هذا المنشور على فيسبوك، دفعني الفضول بالطبع لأراجع التعليقات وأجد أنّ المئات منها يتناول معتقدات المسيحيين عن قصد أو جهل أو تسلية!

لقد أعادني هذا إلى السؤال الذي يُطرح عليّ يوميّاً ممّن أقابلهم، لماذا اتجهت لهذا التخصص بعد العلوم السياسيّة والإعلام؟

لقد عشنا لسنوات طويلة معاً، لكننا لانعرفُ بعضنا البعض، لانعرف عن معتقدات بعضنا فلا نحترمها، نجهل طقوس الآخر فنستهزئ بها..

فكّرتُ قبل سنوات أنّ التطرّف هو المُنتج الأوّل للجهل، للأسف كلّ ما تعلمناه أبقانا مجهولين بالنسبة لبعضنا البعض، دوماً ادّعينا أنّ الحديث في الطوائف والمعتقدات هو حديث منبوذ ويُفرّق، ولكن ماذا الآن؟ هل نحن مجتمعون بالفعل؟

يكفيكم نظرة واحد إلى التعليقات في منشور بصفحة عامة لتعرفوا كم أننا نحتاج قبل أن نتحاور ونتجاور ونبني ونتعاطف، نحتاجُ أن نعرف، أن نعرف أنفسنا أولاً والآخر أيّاً كان..

أدركُ أنّ جهودي سواء فيما ساعدتُ به من حوارات أو شاركتُ به أو أطلقتهُ مثل بيانو (لقاءات إسلاميّة مسيحيّة) هي جهود متواضعة جداً وربّما غير منظورة أمام ما يُفرّقنا كلّ يوم، إنّ رسالة الماستر التي أعدّها حول صورة الآخر في المناهج التربويّة السوريّة هي محاولة علميّة لوضع هذا الأمر على الطاولة بعد قرن سوريّ كامل لم ننجز فيه مواطنة تجمعنا، فمتى تكثرُ المحاولات وتُنتجُ تغييراً طالما انتظرناه نحن الحالمون بسورية أفضل؟

وسيم السخلة

01/05/2021 بيروت

أسوأ ما يُمكن ملاحظته!

لم تكن في المنازل السابقة التي سكنتُها في بيروت غرف كثيرة كانت أغلبها بيوت طلابيّة أو فنيّة، لكن في منازل الأصدقاء والمنزل الحالي الذي نسكنهُ هناك غرفة صغيرة جداً تكاد لاتتسع لشيء ملحقة بالمطبخ، مغلقة ووضعت فيها كراكيب.

مع الوقت تعرّفت أكثر لأحوال العاملات المنزليّات القادمات من دول آسيويّة للخدمة في المنازل، يعشن في ظروف صعبة وغير إنسانيّة في كثير من الأحيان. إنّ هذه الغرف الصغيرة اذاً مخصصة لهنّ، وهذا ليس جديداً فتصميمها واضح في أبنية تعود لنصف قرن مضى.

المفاجئ ماعرفته أنّ القانون الحالي للبناء في لبنان 2004 يكرّس هذا التفاوت ويُساوي في المادة 11 منه بين الحمّامات وغرف المونة وغرف الخدم والممرات، مثلاً لايشترط في هذه الغرف ما يشترطه في غرف السكن من حيث وجوب وجود نافذة تدخل النور والهواء.

اذاً القانون يعترف بأنّ غرف الخدم ليست انسانيّة وهي تبدو كسجن انفرادي يتمّ لحظه في مساحة مهملة عند تصميم البناء ككل، أي أنّك تشتري أو تستأجر منزلاً مع شروط مسبقة غير بشريّة لاستقدام عاملة منزليّة!

هذا مثال واضح عن تكريس العنصريّة في القانون، إرضاءاً لمصالح تجار البناء والمطورين العقاريين.

نبني وطناً والآخر ليس خصمنا

*نُشر هذا المقال إلى جانب بعض المقالات المُختارة في كتيّب تم انتاجه في ختام المدرسة الصيفية 2020 حول المواطنة والحركات الإجتماعية والتي أقامتها جامعة القديس يوسف في بيروت، يمكن الإطلاع عليه من الرابط: اضغط هُنا

هل تُعيدُ الثورات إنتاج ما انتفضت عليه أحياناً من إقصاء للآخر وتفرّد بالقرار و شموليّة في التفكير وصهر للاتجاهات؟

هذا هو أكثر ما يشغلني الآن وأنا أرى ما يحدث من حولنا في الشرق، لأنني أتفهم الغضب الذي يدفع الملايين للتحرّك في كلّ مكان، وأعيش المعاناة التي يثورون عليها في كل ساعة فإنني أدرك أيضاً كيف يضمرُ فينا الإحساس بالآخر المختلف ونبدو كسيل جارف جماعي يريدُ خلاصاً سريعاً، وهذا السيلُ الذي هو نحنُ نؤمن جميعاً أنّهُ يحتوينا جميعاً ولكننا نغفل حقيقتهُ.

والحقيقة تبدو قاسية كما هي في كلّ مرّة، ليس الجميع متفقين على كلّ شيء، وهذه الحقيقة تحملُ إنسانيّتنا نحن البشر المختلفون، قد لانتفق على الثورة وقد نتفق عليها ونختلف في الوسيلة ونختلف في التوقيت، وقد لا يكون توصيفنا واحداً ولا هدفنا واحداً ولو تلاقينا في الشارع كلّ يوم ولو رفعنا لافتات ترضينا جميعاً..

المواطنون والمواطنات في كلّ مكان متنوعون في طرق اهتمامهم ومشاركتهم في المجال العام، منهم من يفضّل الأحزاب السياسية لذا فالقول أنّ زمنها انتهى هو محضُ وهم، منهم من يفضل الركون لمرجعية دينية أو طائفية ومهما ادّعينا  العلمانيّة فإنّها لم تنجز حتى الآن في الشرق، ومازال فهمها مشوهاً، وبكلّ أسف قد لا ننجزها في العقود القليلة القادمة.

هناك من يستخدمون الساحات الحرّة تماماً، وآخرون لديهم مصالح اقتصادية وبعضهم اتجاهات ثقافية، وهناك أجيال كبيرة وأجيال شابّة، مقيمون ومغتربون، من يخاف ومن يقلق، من الناس حولنا من هو منتفع ومن هو مُدان ومن هو متورّط، أن نقول أننا جميعنا ثائرون، هذا افتراض تكذّبه اليوميات التي نعيشها.

الأحداث الكبرى بتاريخ الأوطان لاتُحسمُ بأيام ولحظات ثوريّة فقط ولو بدت هكذا أحياناً ونحنُ نقرأ مقتطفاً تاريخيّاً، إنما النضال لأجل التغيير والتحرر قد يمتد عقوداً حتى تبدو عملية التغيير وقد أنجزت بالفعل وصارت في الضمير الجمعي للمواطنين والمواطنات، قبل أن تكون في حناجرهم فقط، لم يعد يكفي أن نقرر التغيير وأن نغضب بل هو الوقت الأنسب للتحرّك قبل أن نسقط جميعاً ومعاً، في معارك الأوطان لاتربح طائفة أو مجموعة وإنما نخسر وطناً أو نبنيه لنا جميعاً، بالمناسبة هذا ينطبق على كُل وطن في شرقنا الجميل.

هناك نظريات مختلفة في عمليات التغيير وآلياته، لا أودّ مراجعتها في هذا المقال البسيط بل أسعى للقول أنّ الثورة لاتكون ثورة إذا كنّا نراها فقط في الساحات وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، هي ثورة في المكان وفي كلّ مكان، ثورة في عقولنا لتحريرها من رواسب فكرية، وهي ثورة في العائلة الأبويّة وثورة في العمل الذي ينتهك الحقوق وفي الجامعة التي لاتحترم العقول وثورة على كلّ ماهو ظالم وكلّ ما هو اقصائي وشمولي، الثورة فعلٌ ضميريّ أولاً ولو بدا هذا الشعارُ مثالياً جداً، لنغيّر ما حولنا يجب أن نغيّر ما بداخلنا.

لكي نبني أوطاناً نرضاها علينا أن نفهم الآخر المختلف، الذي لا يشاركنا اللحظة ولكنه يشاركنا المعاناة، لربما كان ضحيّة ما نحاربهُ نحن فبدا أنه جزءٌ منه، علينا أن ندرك أننا مسؤولون عن انخراطه معنا وليس النظر إليه كخصم وطرف الآخر، كيف نختلف على الوطن معهُ؟ إنّ واجباً على كلّ ثائر في أي سياق أن يأخذ بيد الآخرين وخاصة إذا كانوا من نفس البيئة التي ينتمي إليها و يتشاركون معه المواطنة والحقوق والواجبات، صناعة الأوطان العادلة لا تقوم بها فئة دون أخرى ولا حركة اجتماعية واحدة، بل هو مدّ الأيادي بين الجميع لخلق واقع ومستقبل جديد، الأجيال القادمة ترتّبُ علينا مسؤوليات أخلاقية فيها تنازلات وفيها تضحيات يجب أن تأخذنا نحو إرادة جمعيّة نعمل فيها معاً ونرتّب المستقبل سوياً.

ما أراهُ وأسمعهُ اليوم وكلّ يوم يجعلني أكثر قلقاً على وحدة البلد أولاً في ظل بعض الطروحات الإنفصالية، ويقلقني أكثر على استقلال البلد ونحن نرى الارتماء والاستقواء في الأجندات الإقليمية والدولية، كما أننا نخاف جميعاً من اشتعال حرب أهلية كان الناس يتغنّون منذ أشهر أنهم قد دفنوها إلى الأبد عندما نزلو معاً. التغيير في بلد وظروف معقدّة يحتاج لتعاطي استثنائي، هناك فرص متعددة، بدءاً من الانتخابات البلدية والنيابية مثلاً، كيف ينظم المنتفضون أنفسهم لهذه الاستحقاقات القادمة؟ هل تُترك الساحات مرّة أخرى للأحزاب والجماعات الدينية المنظمة والتي تحترف هذه الآلية الديموقراطية لدرجة أننا جميعاً نشعر أنها ليست في أيدينا ولا فائدة مرجوّة منها؟

إنّ النهج الإقصائي الذي بدأ يظهر في خطابات بعض من نصبّبوا أنفسهم متحدثين باسم الثورة أيضاً يهدم ولا يبني، كيف نكذّب الناس الذين نزلوا في كلّ مكان والذين كانت مطالبهم واضحة وجليّة وباتت تُختصر الثورة وأهلها ببعض حسابات وسائل التواصل الإجتماعي ممن لديها قدرة على تمويل ودعم وصول المنشورات؟ هل باتت مجموعة من محترفي استخدام وسائل التواصل الاجتماعي هي الثورة؟ التي تقسّم وتُقصي وتسيء وتتفاوض لدرجة أنّ الخطاب الإقصائي بين بعض القوى المدنية بات أسوأ من خطابات السلطة وهي تأكُل بعضها.

كان قدرُ الحراكات الشعبيّة دوماً أن تحميل وزر الانهيارات، ويتم تحميلها مسؤوليّة الهشاشة الإجتماعية وهذه الخطابات التقسيمية أحياناً والإتهاميّة مرّات كثيرة، ولهذا على الثورة أن تنقذ نفسها، ولابدّ من التحضير للاستحقاقات القادمة، إن الركون لتأثير وسائل الإعلام ووسائل التواصل الإجتماعي على الناخبين هو رهانٌ غير محسوم في بلاد تحكمها الطوائف، فلا يجب نسيان أنّ الأحزاب السياسية التقليدية لديها أجهزتها ومؤسساتها الطائفيّة\ الحزبية\ المناطقيّة ولا يمكن تجاهل حجمها وأدوارها بل يجب السعي يجديّة هذه المرّة لتكون الانتخابات فرصة الثورة فتزيح بها بالقانون والدستور ما أزاحته الساحات من خوف وقلق بين الناس، لم يعد هناك رفاهيّة للانتظار، هذا زمنُ الحرائق، كلّ شيء حولنا يحترق فلنعمل معاً لأنّ الحريق يمتد، وهذا قدر جيلنا انها معركة الهويّة الوطنية الجامعة والتي لم تُنجز سابقاً فهل ننجزها اليوم في أوطاننا؟

 

وسيم أكرم السخلة \ بيروت 2020

غلاف الكتاب الصادر عن المدرسة الصيفية

 

حقوق الانسان .. ذكريات الخيبات الأولى

 

في الصورة تبدو مدرستي وقد تحولت لمركز ايواء

اليوم يصادف اليوم العالمي لحقوق الانسان تعيدني هذه الذكرى عشر سنين للوراء ..

كانت مدرستي للتعليم الأساسي تتبع لوكالة الغوث الدولية – اونروا وقامت ادارة المدرسة وقتها بتشكيل لجنة حقوق الانسان في المدرسة وهي مؤلفة من عدة أساتذة وطلاب مختارين

لم أوفر جهدا وقتها في البحث عن حقوق الانسان وماذا تعني ومنصبي الجديد

في المكتبة والتي كانت سوفيتية بالمطلق في منزلنا مطعمة ببعض المؤلفات الدينية
قرأت كثيرا وقرأت أكثر عن صراعات هذه الحقوق مع الأديان والايدولوجيات

عدت للمدرسة متحمسا .. في أول اجتماع للجنة طرحت مسألة العصي التي يستخدمها الأساتذة لضبط الطلاب ، اقترب مني المدير وقال لي : خلينا نأجلا للاجتماع الجاي هاد بدنا نكتب فيه محضر ..

استمر الاجتماع بالحديث عن بديهيات وأمور غير ذات قيمة

وكان الاجتماع الأخير .. بعدها حاولت كثيرا طلب عقد الاجتماع وكانت الحجج مختلفة

وفي انتخابات البرلمان الطلابي حصدت أصوات الطلاب على مستوى الصف وعلى مستوى البرلمانيين أيضا فانتخبت أمينا عاما للبرلمان

وفي الجلسة الأولى اقترحت تفعيل لجنة حقوق الانسان في المدرسة وكانت الجلسة تصور عبر الفيديو فوقف المدير معترضا وطلب اعادة بدء الجلسة لأنه “لايجوز أن يظهر ذلك في الفيديو الذي سيرسل للاونروا”

يومها كان الفاصل بأن أعرف حقيقة تطبيقنا نحن الشعوب المشرقية لهذه الأمور .. نعم لدينا برلمان بلا عمل برلماني ولدينا دستور بلا تطبيق وقوانين مهترئة بلا تعليمات واضحة ..

حقوق الانسان ليست شرعة حقوق الانسان المؤلفة من 5 وثائق فقط بل هي التراكم الحضاري والتاريخي الذي يشكلنا ويشكل مستقبلنا

وسيم السخلة – شتاء 2016

المدينة التي تمنّت السلامة لكل الناس، سلامتك يا حلب

لايمكنك أن تُقابل أحداً من حلب إلا وسيتمنّى لك في بداية ونهاية حديثه السلامة، ميت السلامة خيّو/أخوي والوجوه الحلبيّة حامية ودافئة وكلامهم عن المدينة والحرب يُشعرك أنك بحاجة لضمّ المدينة وأهلها، ببساطة هذه المدينة تمّ تخريبها، والحياة هُناك ثمّة من حاول تعطيلها لكنّ الهمّة الحلبيّة تتجاوز ذلك مع كلّ إشراقة صباح يتوجه فيه الحلبيون إلى ورشهم لإعادة تصنيع حياتنا، حلب هي مصنع سورية. في بعض المشاهدات أحاول إجمال المدينة كما لمستها هذه المرّة

على أمل أن يعبر السوريون نحو خلاصهم

1. الطريق إلى حلب أصبح أقصر مما نعتقد

في السنوات الماضية التي زرتُ فيها حلب كان الطريق مرهقاً جدّاً وطويلاً جدّاً، أما في هذه المرّة ومنذ إعادة تشغيل الطريق الدولي نحوها كاملاً أصبح آمناً وأصبح سهلاً بلا مطبات وبساعات أقل وعبر رحلات منتظمة للبولمان يمكننا مثلاً الذهاب من دمشق إلى حلب ذهاب أو عودة بمبلغ 4500 ل.س (للقرّاء من خارج سورية المبلغ يعادل أقل من 2$ في وقت كتابة هذه التدوينة) والسفر في كرسي مريح وعبر شركات متعددة، والمفاجأة الألطف أن تشغيل القطار مع دمشق سينطلق خلال أيام!

دَرب حلبْ

2. إلى “ورشة” لو سمحت

شريكي الأساسي في حلب هو أنطون مقديس، تعرّفت إليه منذ سنوات في دمشق وجمعتنا مشاريع وأحلام أجزم أننا لو أردنا تحقيقها سنحتاج قرناً جديداً على الأقل، وصلتُ ليلاً ودعاني أنطون لمقر ورشته الفنيّة والثقافية وسمّاها “ورشة” دخلت إلى المكان الذي فاجأني بديكوره البسيط والمبتكر، طاولة تتوسط الصالة على طريقة الورشات تحيط بها الكاميرات واللابتوبات والكتب، بالإضافة لبعض الأدوات القديمة التراثيّة، اسمعتُ إلى المجموعة التي تحضّر حلقة جديدة من برنامج “بلا معنى” ودارت نقاشاتنا المعقدة الطويلة المؤجّلة منذ سنة على الأقل. استطاع أنطون خلق أجواء لإنتاج ثقافي يشبه المدينة ولعلّ قصته المطبوعة “مغامرات جوري” باكورة مهمّة من هذا النتاج إلى جانب مجتمع سماور وبرامج ورشة الأخرى.

العدد الأول من مغامرات جوري، يمكن طلبه من “ورشة”

3. خيو هي مفتاح البيت، صرت جاري

رغم أنّ الوقت كان قد تأخّر إلا أنّ والدة أنطون ريما وهي صديقتي أيضاً كانت ما تزال تنتظرنا، تأكدت أنّ لديّ ما أحتاج للنوم في المنزل المجاور الذي سأقطنه خلال تواجدي في حلب، وكان لابدّ من بانوراما للحياة في حلب قبل وخلال الحرب على ضوء الشموع ومع رائحة دخان أنطون (الكريهة) حمرا طويلة. هذه العائلة رفضت الرحيل رغم إمكانيّته، ريما تتنفّس حلب كما عائلتها.

الأسواق التقليدية والحلويات الشعبية

4. باركود للمراسلات في ديوان وزارة التربية

في الصباح توجهت إلى مديريّة التربية لإتمام أوراقي الرسميّة التي تمكنني من حضور صفوف مدرسيّة كجزء من أدوات رسالة الماستر الخاصة بي، اللطيف أن مديرية حلب هي الوحيدة بين المديريات التي زرتها و يتضمن ديوانها المركزي باركود تمّ إلصاقه على الكتاب، وبالتالي تخلّصوا هناك بالفعل من سجلات الصادر والوارد وأصبح كل هذا ملف إلكتروني في صالة تبتسم لك الموظفات فيها بتهذيب على طريقة شركات الإتصالات المتقدمة.

مبنى للمعارف من أيام العثمانيين يتم ترميمه في محيط قلعة حلب علم،أدب

5. مساحة عمل رائعة في حلب!

أتابع إنجازات الأصدقاء وأعمالهم وكلّي ثقة بأهميّة ما يقومون به، ولكنني وبصدق لم أتصوّر أنهم تحدّوا ظروف كثيرة ليبدأوا مساحة عمل أنيقة في المدينة لاتفرق كثيراً في أهميتها عن مساحات العمل في المدن التي زرتها خارج سورية، إلا أنّ ما يميّزها أيضاً أسعارها المعقولة والكراسي المريحة، الانترنت كان ممتازاً والكهرباء لاتنقطع، كما أنها مساحة للقاء أصدقاء وزملاء عمل جمعهم انقطاع الكهرباء وربما إحدى صالات الإجتماعات المتاحة. المثير أيضاً أنّ الصورة التي وضعتها من الخان وجد فيها بعض الأصدقاء المسافرين واجهات مكاتبهم السابقة أو بيوتهم في نفس الحارة تماماً، هذه حلب في كلّ جزء منها يتشارك الكثيرون الذكريات والحاضر والمستقبل. زوروا صفحة الخان على فيسبوك

الخان من جديد على الطريقة الحلبية

6. سهرة البربارة الدافئة

في ليلة البربارة كنّا على موعد مع سهرة دافئة في بيت أنطون، حيث دعت العائلة أصدقاء أولادهم وتحلّقنا حول الشيمونيه لتناول المأكولات اللذيذة التي صنعتها والدة أنطون، وكوني نباتيّاً فلم يكن من الصعب إيجاد أطباق تناسبني رغم حفلة الشواء على الأسطوح، السليقة كحلوى تقليدية تصنع في هذا اليوم المبارك كانت حاضرة أيضاً ورغم انقطاع الكهرباء التي جاءت أخيراً فقد جعلت حرارة العيد وابتسامات الأصدقاء من تلك الليلة ليلة مميزة وحنونة.

السليقة، حلوى البربارة التقليدية

7. معلّمة وطنيّة تتحدى ظرف ال60 طالب في الصف

لم يخطر لي على بال أن تكون المدارس التي قصدتها تضمّ أكثر من 60 طالب في كلّ صف مدرسي، لقد كانت مفاجأة غير سارّة رغم مرور سنوات على استعادة المدينة ووجوب إصلاح المدارس المتضررة. الجميل أنّ مدرّسة مادة تربية وطنيّة فاجأتني بأنها تعلّم دروسها وفق طرق تعلّم حديثة كاستخدام مجموعات العمل والبطاقات الملونة، وبشخصيتها الجميلة تستطيع ضبط صف يضم هذا العدد الكبير، اذاً هذه معلّمة تحدّت ظرفاً صعباً وتستطيع من خلال ساعاتها في المدرسة تحقيق ما نحلم به جميعاً من صفوف غير تقليدية تعتمد العمل الجماعي.

صف دراسي في حلب ومعلّمة رائعة

8. عند مطعم أبو آغوب وحنّا كعدة في مقهى الشباب

ربّما أكثر ما يميّز حلب حتى اليوم قدرتها على الصمود، والصمود هنا ليس ذلك المستخدم في الأخبار بل هو صمود الحوانيت والمشارب والمقاهي والمحلات الشعبيّة في وجه نمط الحياة الحديث والفخم والذي بدأت معه دمشق تفقد هويّتها، في حلب ما تزال هذه الفضاءات متاحة لكلّ الناس، رخيصة، ممتعة بدون تكلّف، منتشرة، وتتعاطى مع الزبائن كأصدقاء، على سبيل المثال قضينا سهرة ممتعة وضاحكة وعشاء لذيذ عند أبو آغوب، كما كانت لنا صباحيّة مهمّة في مقهى الشباب ونحن نرى مجموعات المتقاعدين تتحدث بشؤون البلد وتخلطها مع شؤنهم الخاصة بصوت عالي، وكأن المقهى طاولة واحدة، أيضاً كان هناك من جلب الياسمين منذ الصباح ليقرأ مجلّة الموقف الأدبي.

صباح عادي في مقهى الشباب

9. القلعة لجميع الناس

في جولة صباحيّة لمحيط قلعة حلب يوم الجمعة استرعى انتباهي رحلة مدرسيّة لمدرسة مختلطة من ريف المدينة، كانوا يرقصون على موسيقى شعبيّة تُعجبهم، في مكان آخر بائع القهوة المرّة بلباس تقليدي يضرب شعراً مع كلّ فنجان ويغيّر فيه حسب اسم الشارب، في مكان آخر ثمّة من يستمتع بهدوء ويشرب قهوة، مصور جاء مع مودل لتصوير بجانب القلعة، في الأفق أولاد عادوا لتوّهم من فرن الخبز، أما نحن فقد جلسنا للتأمل وأحد ما طلب اسبريسو مع النستله! أيّ مشروب هذا! اذا القلعة للجميع يفعلون بها ما يحلو لهم ويحبونا بطرقهم المختلفة.

يوم الجمعة، عائدون وقد حظيو بخبز الدولة من الفرن

10. بيانو حلب، لا أحد يستطيع إيقاف الأفكار الجميلة

بدأنا بيانو (لقاءات إسلاميّة مسيحيّة) منذ سنوات، وأقيمت نسخ متعددة من بيانو في محافظات مختلفة، كان أنطون شريكاً أساسياً واليوم يقوم بعدّ نسخ بيانو الحلبيّة والتي جاءت مختلفة بعض الشيء، إنّ الأفكار الجميلة تنتشر وهذا ما يجعلني سعيدٌ دوماً أنّ ما ننجزهُ يبقى ويستمر ويتوسع أثره ولا بُدّ أنه يصير أغنى في كُلّ مرّة ومع كلّ شخص وكلّ مجموعة.

من بيانو حلب، عرض فيلم “نوافذ الروح” من تقاليد افتتاح بيانو

هذا ليس كُل شيء عن حلب، لاتكفي حلب مدونات طويلة ولكنّها مجرّد مشاهدات وخبرات أحببتُ تشاركها، ومية السلامة يا جماعة.

وسيم السخلة – شتاء 2020

مواقف وأماكن في زيارتي لحمص، قلب سورية

في مسيرتي الدراسيّة لإنجاز القسم العملي من رسالة الماستر الخاصّة بي كانت حمص محطة أساسيّة لإنجاز الملاحظة المباشرة وحضور صفوف دراسيّة، وفي رحلتي القصيرة جدّاً أحببتُ تدوين 11 من الأشياء اللطيفة في هذه المدينة التي تتوسط سورية وتستحق أن تسمّى قلب سورية ♥️

ربّما تكون حمص من المدن السورية النادرة التي يتوسطها نصب تذكاري قدّمته امرأة سورية أو سمّي باسمها

1. البداية مع سائق التكسي المبتسم!

حطّت بي السيارة التي تشاركتُها مع مجموعة ركّاب من دمشق لحمص في دوار تدمُر، ومباشرة أشرت لتاكسي للذهاب نحو مديريّة التربية دون تضييع الوقت، حددتُ للسائق الأجرة التي سأدفعها نظراً لعدم التزام السائقين بما يظهر على العداد هذه الأيّام، السائق وجد أن الأجرة زهيدة، لكنهُ سألني: انتِ من الشام استاذ؟ فأجبته مستهجناً: نعم فقال لي اتفضل انتِ ضيفنا شرّفت! وبدأ يحدّثني أنهُ يحبّ الشام وهو يضيع فيها وأن حمص صغيرة جداً وعند الوصول حاول رفض أن يأخذ الأجرة على اعتبار أنني ضيف في مدينته، كان صادقاً جداً وكان هذا الموقف بداية لطيفة ليوم جميل، نقدّتهُ الأجرة مضاعفة وتمنّى لي التوفيق في بحثي.

هل تُستخدم هذه المستوعبات المنتشرة لأغراضها بالفعل؟

2. في مديريّة التربية، بخدمك بعيوني أستاذ!

طلب إليّ حارس المديريّة ارتداء الكمّامة قبل الدخول، وفي المكتب المختص بالمديريّة طلب الموظف منّي الجلوس وطلب لي قهوة عندما عرف أنني طالب ماستر، وقال لي أمورك محلولة استاذ، حطّ غراضك عندي وسجّل الكتاب بالديوان لو سمحت. عدتُ لأجد القهوة واستفسر منّي عن عنوان البحث وأعجب به، قال لي أن الموظف الذي أحتاج توقيعه في جولة لافتتاح شيء ما تابع للمديريّة، وطلب إليّ مراجعة مدير التربية مباشرة بعد أن شرح الوضع لمدير مكتبه، ما إن وصلت حتى تمّ تأشير الكتاب ورجعت لأرى الموظف وقد جهز لي الكتاب الموجه للمدارس وبقي توقيع آخر فقط، بعد أن ذهب معي لتوقيعه قال لي: موفق أستاذ شكرته على المساعدة في تيسير الأمر فأجابني: بخدمك بعيوني أستاذ، ياريت تبعتلنا نسخة من البحث بس تخلص.

جزء من الجدار الجميل الذي يستقبلك عند دخول مديرية التربية في حمص

3. هي مفتاح تاني للبيت خود راحتك!

وصلت إلى منزل صديقي جورج زيربة، الذي انتظرني في الخارج، مرّت أكثر من سنة على اللقاء الأخير، كان جورج قد أجل موعد عمله لاستقبالي وبعد التحيّات والأشواق قدّم لي نسخة من مفاتيح المنزل وقال لي: خود راحتك.

إنّ الجولة مع جورج زيربة هي رحلة ثقافيّة كاملة ولو كانت ليليّة

4. صاحب محلّ البقالة يعيد 10 ليرات سوريّة لجورج

اصطحبني جورج إلى السوق المجاور، وطبعاً في تمشاية مع جورج أنت أمام موسوعة ديموغرافية وتاريخيّة وثقافيّة متنقّلة، وعدني جورج الذي يُحاول التحوّل إلى النباتيّة مؤخراً بصينيّة خضار مشويّة في فرن الحارة، اشترى الخضار وبعض الفواكه وكان أن أعاد له البقال عشر ليرات سوريّة معدنيّة، وهي قطعة النقود التي لم أعد ألحظها في التعاملات المالية بدمشق منذ سنوات ربّما.

نبض المدينة والناس

5. ملجأ مُهمل يحوّله المتطوعون لفضاء جميل

اصطحبني جورج لمقرّ مؤسسة بيتي التنمويّة في الحي، وهو يشغل عضويّة مجلس الأمناء فيها وكنت قد تعرّفت إلى بعض أعضائها في مرّات سابقة، سررتُ بتحويل الأرض المهملة إلى حديقة جميلة مزيّنة ونظيفة يرتادها سكان الحي، إلا أنّ المفاجأة كانت بتحويل الملجأ المهمل في أسفلها والذي كان معداً ومغلقاً منذ حوالي نصف قرن تقريباً إلا أنه استخدم في السنوات الأخيرة قبل استعادة المدينة القديمة بأعمال متعددة، لقد قام متطوعوا بيتي بتظيفه وتسمية قاعاته لتكون منتجة وترفيهيّة وتدريبيّة ومفيدة لسكّان الحي أنفسهم، وماتزال أعمال التأهيل مستمرّة، كان جورج يتحدث عن قاعة السينما التي يعملون عليها وكأنّه لن يغادر هذا المكان في حياته أبداً، الصفحة الرسميّة لمؤسسة بيتي للتنمية على فيسبوك

الحديقة المجاورة التي تقوم مؤسسة بيتي بالإعتناء بها في حي الحميدية

6. بيتي للتنمية هي بيتي أيضاً

دخلنا لمقرّ المؤسسة مقابل الحديقة، كان ثمّة اجتماع مسائي للمتطوعين حول مدفأة حطب ذكرتني بالمدفأة القديمة في بيت جدّي في منطقة الفيجة بالريف الدمشقي، سرعان ما تعامل معي الأعضاء وكأنني من المؤسسة وناقشنا بعض الأمور والأفكار ولفتني حقيقة الطيف الديني المتنوع لمتطوعي المؤسسة التي تنشط محليّاً بين أحياء متنوعة، أهدوني في المؤسسة نبتة بفخارة صغيرة، شعرت معها بأنّ بيتي التي تبعد كثيراً عن بيتي هي أيضاً بيتي.

مدخل الملجأ الذي تقوم مؤسسة بيتي حالياً بتجهيزه ليكون مساحة مجتمعية رائعة

7. دار للأوبرا تحوّلت إلى مقهى شعبي

هناك صورة خاطئة بأنّ حمص مدينة تفتقد للحيويّة، وبمجرّد دخولك للمقاهي الشعبيّة مثل الفرح الذي أعرفه سابقاً والروضة التي تعرّفت إلى صالتها المغلقة للمرة الأولى ستكتشف أنّ الناس يتجمعون ويمارسون طقوس القهوة من لعب للورق وتناول المشروبات والتدخين في دار كانت مصممة لتكون دار أوبرا في 1922! أيّ قدر رمى بهذا الصرح المميز والذي تبدو عليه التفاصيل الرائعة لتتغيّر مهمته إلى مقهى شعبي.

الصالة الشتوية لمقهى الروضة وسط حمص

8. مساحة عمل صديقة جداً DOORS

اصطحبني صديقي توفيق عثمان إلى شركته التي تسكُن في عقار قديم وجميل عمره حوالي نصف قرن، دورز هي شركة هندسيّة ولكنّ توفيق حوّلها لمكان مناسب للدراسة والعمل والنشاط المجتمعي، كما زودها بالأدوات اللازمة وحافظ على هويّة العقار فتبدو شركة في منزل ومنزل في شركة، يمكنكم متابعتها على فيسبوك! دورز

من الأسطوح اللطيف لمساحة دورز – صورة من فيسبوك

9. سلسلة كتيّبات بسيطة اسمها: وفاءاً لهم

لفتت نظري مكتبة دار الإرشاد في شارع عبد الحميد الدروبي، دخلت لمطالعة بعض العناوين فخرجت ببعض الكتب، لكنّ أكثر ما لفتتي واقتنيت بعضاً منه هو سلسلة بسيطة اسمها: وفاءاً لهم، فيها يتحدثون وبشكل مبسّط وصغير ودون تكلّف فني عن شخصيات أو أماكن في المدينة، مثل طبيب الفقراء أنيس المصري (1926-2014) والذي نشط في جمعيّة البر والخدمات الإجتماعية الشهيرة في حمص، كم نحنُ بحاجة لهذه التفاصيل لإعادة إغناء ثقتنا بمجتمعاتنا الصغيرة والكبيرة وتقديم النماذج للتعلّم والمشاركة. أيضاً خرجت بكتاب عن الأحزاب والجمعيات والصحف أيام العثمانيين في حمص، ولعلّ أغرب مالفتني أسماء بعض الصحف القديمة مثل جريدة “ضاعت الطاسة” 1910 وجريدة “جراب الكردي” 1914!

شارة جريدة ضاعة الطاسة الحمصيّة 1910

10. الأصدقاء الذين نصدفهم في الشوارع وكأننا في حيّنا

تكرر الموقف عدّة مرات أثناء جولاتي على المدارس أو في الأسواق، أدرك تماماً أن حمص تبدو صغيرة كمدينة علماً أنها كبيرة كمساحة إداريّة ولكنّ الملفت أنّ كلّ الأصدقاء الذين صادفتهم في الطريق وأغلبهم التقيت بهم في تدريبات سابقة، أو ورشات أو عندما كنت مسؤولاً عن المتطوعين الشباب في تنظيم الأسرة كانت تجمعهم حرارة الإبتسامة، الناس ودودون وفي فترة إقامتي القصيرة للأسف لم أستطع تلبية سوى دعوات قليلة من عشرات الدعوات اللطيفة.

من حديقة ومقهى نقابة الفنانين التشكيليين في المدينة

11. أمسية غناء أوبرالي رائعة، في مسرح قصر الثقافة

من الصدف السعيدة أن ألاحظ إعلاناً لأمسية غناء أوبرالي سيعزف فيها على البيانو المحبب لنا ميساك باغبورديان قائد الفرقة السمفونيّة الوطنيّة، دخلنا إلى المسرح المهيب في حمص وخلال أكثر من ساعة كنّا في حضرة الجمال والروعة، كانت أصوات كل من رشا أبو شكر وميخائيل تادرس مع البيانو تشكل جو رائع، وكان وقتاً ساحراً نقل الحضور إلى القرون الماضية لسماع قصص كلاسيكيّة أوروبيّة بأصوات سوريّة مهمّة.

من عرض أمسية الغناء الأوبرالي في مسرح قصر الثقافة

هذه المشاهدات ال11 ربّما هي جزء بسيط من مشاهدات أخرى حظيت بها على الرغم من الوقت القصير في المدينة لأن الزيارة كانت لأغراض دراسيّة هذه المرّة، في كلّ مرّة يزيد شعوري بالتعلّق أكثر في هذا البلد المشرقي الجميل كما كان يسميه دكتورنا الراحل سمير اسماعيل.

وسيم السخلة / شتاء 2020

نحو مستقبل واعد، كلمة الختام في برنامج نمو

نمو – نحو مستقبل واعد – حفل الختام

هذه ساعة لطيفة بالفعل، أن نعود لنلتقي في سورية ونلتقي معاً بعد أن قضينا أياماً وساعات نتواصل افتراضيّاً..

من اللحظة الأولى التي رسمنا فيها هذا البرنامج كان الرهان كبيراً، وكنّا نقول مالذي نحاول فعله في هذا الظرف التاريخي المسدود؟

كلّ شيء من حولنا يتداعى، الأحلام والطموحات، حتى الإحباطات جاءت مضاعفة ولم تشفع لنا عشر سنوات سوريّة لنبدأ بمستقبل جديد لنا جميعاً.

كانت الفكرة أن لاندرّب على المواطنة، فالمواطنة ليست موضوعاً تدريبيّاً بل كانت الفكرة أن نترافق معاً في رحلة مواطنيّة نعود فيها إلى القرن السوري الماضي،
وأن نبقى في الحاضر نسأل ونجيب، فنرى كيف كنّا ونعيد ترتيب أفكارنا اليوم لنرى أين نريد أن نذهب.. ومعاً

هذه السنوات التي هي عُمرنا هي لاشيء في عمر سورية، آلاف السنين من الوجود ومن التجربة الإنسانية ونحن سنواتنا ماهي إلا طيف عابر، لكنّه عمرنا وهو مستقبل أولادنا القادمين والأجيال السورية الجديدة،

إمّا أن يلعننا التاريخُ القادم أو نبدو فيه كمجموعة من المؤمنين بأن سورية تستحق وعملنا لأجلها، هذا الكلام ليس انشائيّاً بل هو الكلام الأساسي، لن يفكر أحد عننا ولن يأتي لنا أحد بمستقبل جيّد ولن يبني أحد لأجلنا سورية..

مهما سافرنا وتخلّينا فإن القدر السوري سيرافقنا ويرافق أولادنا، المسألة لا تنتهي بالسفر ولا بالاستقرار في الخارج ولا بالإنزواء.. سورية مهددة بأن تعيد الحرب من بدايتها، أفلا نقوم بما يمنع ذلك؟

مازلتُ مؤمناً أن مسألة الوعي والوعي الجمعي تجاه أنفسنا وأدوارنا كسوريين هو المقدمة وهو الحل، لن نختلف بعد أن نعرف جميعاً ولن نختلف على الوطن بعد أن نجد هويّة تجمعنا،


أيّ هويّة نريد وأيّ سورية نريد؟

هذا البرنامج كان محاولة، بسيطة، عفوية، تلقائيّة، أخذت مننا جهداً وتحمّلت لأجلها الشبكة الكثير من الضغوطات والأسئلة، لكنّها تمّت

لم يُخطط أن يكون هذه البرنامج النهاية، لقد وضعنا أملاً منذ فكرنا به أن يكون بداية وهذه البداية فرديّة،

إنها رحلة كلّ من كان معنا، من بقي ومن ترك ومن استمر ومن هو الآن هُنا.

أودّ شكر كلّ واحد منكم فرداً فرداً فقد تحمّلتم الظروف السيئة للاتصال والوقت والالتزام،

لابدّ أنكم تشاجرتم مع عائلاتكم ولابد أنكم ألغيتم أعمالاً ومواعيد لأجل البرنامج،

شكراً لكم وشكراً للمنظمين الذي تحمّلوا معنا كلّ الصعوبات

وشكر شخصي لأنس بدوي الذي كان هذا البرنامج مشروعه وتحمّل لأجله الكثير.. منذ البداية وحتى اللحظة

الحبّ والبقاء والمستقبل لسورية التي جمعتنا كُلّنا وستبقى تجمعنا

وسيم السخلة
دمشق 28-10-2020

في صندوق سيارتنا الكولت، كان البحر

أنا وجدّي فائق السخلة في شاليهات مجمع المنارة السياحي بداية الألفيّة

لم نكن نفرّقُ كثيراً في صغرنا طرطوس عن اللاذقية، إنّهُ البحر بالنسبة لنا.

الرحلة الصيفيّة إلى البحر لم تكن بهذه السهولة، كان الأمرُ يتطلّب أياماً كثيرة من التجهيز. حصول أبي على إجازة من عمله، ثم إيجاد حجز لفيلا في رأس البسيط حيث شاليهات إتحاد نقابات العمال، فقد كان أبي عاملاً وبطل إنتاج في سنوات سابقة.

في بعض الأحيان كانت لنا فرص أخرى، تعرّفنا على مجمّع المنارة السياحي في طرطوس، وكان الإيجار فيه غالياً نسبيّاً لكن علاقات جدّي الذي كنّا نعيشُ معهُ ويعيشُ معنا كانت غالباً ما تأتي لنا بخصم كبير أو حتى أيّام مجانيّة. مجمع المنارة كان أجمل ما شاهدتُهُ في سورية وقتها، شاليهات من طابقين على الأكثر يكسوها الحجر الأبيض تتوزّع بينها شجيرات التويا والورود الحمراء مع أطاريف ملوّنة لتبدو مدينة صغيرة مثاليّة، فيما بعد تم صبّ الشمينتو على الشاطئ الرملي الجميل ليغدو مرسى للسفن وينتهي المجمع بالنسبة إلينا.

كُنا نصيّفُ أيضاً في أمّ الطيور، كانت تناسب العائلات المحافظة كما تحرص أسرتي، وأذكر حلماً رأيتهُ قبل زيارتها بأنها مليئة بالطيور وما تزال صورة الحلم هذا ترافقني عند أي حديث عن هذا الشاطئ. المهم وقتها لم أجد في أم الطيور ولا طيراً واحداً حتى!

كان يذهب بابا بسيارتنا الكولت المتواضعة من شركة ميتسوبيشي إلى الكهربائي والميكانيكي والمغسل، صيانة عامة، تغيير البوجيهات، وغالباً كانت الفرصة السنوية لتغيير الإطارات بأريع إطارات جدد من نوع بريدجستون أو لاسّا كما أذكُر، ليس هذا فقط بل كنّا نثبّتُ قفصاً في أعلى السيارة لنضع عليه حقائب الثياب وبرادة المياه والبهارات وقطرميزات المكدوس والزيتون واللبنة المدعبلة وغيرها، بالإضافة إلى غاز صغير وضوء يشحنُ على الكهرباء (بيل كبير) لونُه خمري ذو لون أبيض جائنا كهدية من الخليج كما معظم عائلات سورية وقتها.

كان أبي غالباً ما يقلق على طريق السفر، على الرغم من أنني قطعتُ آلاف الكيلومترات في السنوات الأخيرة براً وبحراً وجواً ولكنني نادراً ما شعرتُ بقلق، ربّما لأنهُ كان لطريق السفر رهبتهُ، لم يكن لدينا خط خليوي وقتها، كان لدينا جهاز موبايل من ماركة نوكيا 4310 جائنا كهدية من دبي ولكننا لم نتمكن من شراء خط موبايل ب50 ألف سوري حوالي ألف دولار في وقتها!

في مرّات كثيرة كانت رحلات البحر تعني أن عدّة سيارات من العائلة تتسابق إلى اللاذقية، سيارة عمي زياد الكولت أيضاً مثلاً، في هذه الطلعات العائلية كنا نحنُ أولاد العائلة الصغار نقضي طريقاً من ثماني ساعات تقريباً في صندوق السيارة الذي كانت يُشبه سيارات الستيشن، كانت هذه المساحة حوالي نصف متر ولكنها كانت واسعة في مخيلتنا وكأنها البحر.

البحر كان مجرّد شغف، ورحلة الصيف هذه لم تكن الأيام التي نقضيها على الشاطئ بل كانت الوعود بالبحر منذ فترة الإمتحانات وحتى بعد العودة بأيام حيثُ كنتُ أساعد بابا بفكّ القفص، كان القفصُ فضيّاً في قاعدته قضبان حمراء، وغالباً ما كُنّا نحصلُ على الحبال التي ربطنا فيها الحقائب لنعيد استخدامها كمراجيح على أغصان الأشجار في بستان جدّي الآخر الصيفي بعين الفيجة في الريف الدمشقي.

جدّي كان رفيق كلّ شيء. لنقل أنّ الحياة كُلّها كانت راحة جدّي وأدويته وعكازهُ الذي يعلوهُ نسرٌ نحاسي.

علينا قبل كلّ شيء تجهيز طاولة جدّي، مذياعٌ صغير يعمل دوماً وأركيلتهُ الصفراء والفضيّة مع معسل التفاحتين، كما كان في كثير من الأحيان وعند زيارة أخيه اللبناني أبو خضر يستعين بأركيلة التنباك الثقيلة، جرّبتها مرّة في غفلة منهُ وأصبت بالغثيان تماماً..

كان جدّي كلّ شي، هو يقرر شكل الحياة، ماذا سنأكل وماذا علينا أن نأكل، كيف سنأكل السمك مقلياً أو مشويّاً، لم أكن نباتيّاً بعد أعتقد أنّ جدّي لم يكن يدرك أنني توقفت عن آكل اللحمة في آخر سنين حياته، لو أدرك لحجب عنّي المصروف اليومي 25 ليرة سورية ذاتُ طرف مذهّب.

في البحر كان ثاني ما نقوم به شراء دواليب البحر المطاطيّة والفواشات، كنتُ أحظى بدولاب أزرق على شكل سمكة كما كانت مروة أختي تحظى بآخر لونهُ زهر (لم أكن قد تعرضّت لدورات في الأدوار الجنديّة وقتها لا أنا ولا عائلتي بالطبع، ولا كلّ سورية غالباً)

أخذنا درساً في المدرسة عن أوغاريت واقترحتُ على بابا زيارتها، ذهبنا إلى أوغاريت فلم نجد المدينة كما درسنا عنها، 5 طبقات من الحضارات المتراكمة، وجدنا تلّة جبليّة فيها بعض الحفر وجرن ماء كبير وباب أوغاريت الذي يشبه الرقم ٨ باقي المدينة نمت فيها الأعشاب وتناثرت القمامة ولولا عربتي تذكارات قرب الباب لما عرف أحد أنّ أبجديّة البشريّة الأولى ربّما كانت هُنا.

كان الطريقُ قلقاً وجميلاً، تتقاربُ سيارات العائلة الكبيرة نلوّح لأولاد وبنات العم من الشبابيك، نغرقُ في الضحك بدون سبب، نلاوق بعضنا ونقوم بحركات بهلوانيّة لأننا فرحون فقط، نريدُ أن نلاقي البحر.

اليوم أراقبُ البحر، أرى صورة جدّي وضحكات العائلة وما كنّا نحمله من أدوات للقضاء على الناموس في شاليهات متواضعة كان الفرح فيها يساوي كلّ ما نلتهُ من رفاهيّة حتّى اليوم وفي كلّ الدول التي زرتها.

وسيم السخلة – اللاذقيّة – خريف 2020

قبل أن تدخل سبيستون، كانت الأتاري

كان الزمن جميلاً. هذه خلاصة بسيطة تماماً ومباشرة، لم تكن حلقات الصراخ والحماس حول تلفزيوننا الصغير الرمادي والبيج والموصول إلى لعبة أتاري متواضعة عبثاً، كانت الحياة، هذه المتعة الخالصة لم تعد تضاهيها متعة أخرى الآن، بالنسبة لي على الأقل.

حصلت على هذه الرائعة بالأمس بعد 20 سنة مرّت

الشرائط الصفراء غالباً والرمادية أحياناً كنّا نحملها كما نحمل اليوم أغلى ما نملك، الشرائط قد تعلّق وترتفع حرارتها فنعاجلها بالنفخ على طرفها، ثم نعيد النفخ ونعيد، حتى تعاود العمل، كم تملك من الأشرطة؟ هذا كان رصيدنا في تلك الحياة الماضية، ولربّما كُسر أحد هذه الأشرطة يوماً فاكتشفنا نقطة سوداء على دارة الكترونية خضراء حسبناها في البداية عطل أصابه لنكتشف لاحقاً أنّها الشريط أصلاً؟

لم يكن الحصول على لعبة أتاري – وهذا اصطلاح شعبي لكل أنواع الأتاري من انتاج سيجا ونتيندو وأتاري وكوليكو وغيرها- إلا غاية الغاية لنا، كنا ننجح بالمدرسة لأجلها، نعم كنّا ننتظر علامات جيدة ليس لأننا نحبّ العلم بل لأن الأتاري وعدٌ يُستحق في حال النجاح، حتى دخلت سبيستون ونيو بوي بعدها وغيرت حياتنا، أو لربّما كبرنا فجأة وصرنا نذهب لنقتل بعضنا في ألعاب كاونتر ستراك وهايف لايف ولندمر دولنا بالسلاح النووي الذي حرّمناه في بداية اللعبة حتى نبني مدناً عسكرية تصنّع الجنود في لعبة ريد أليرت طويلة.

الأتاري ليست لعبة فرديّة، كنّا نجتمع سبعة وقد نصل لعشرة أو أكثر، البناء الذي نسكنهُ في دمشق لم يكن بناءاً تماماً، ترك جدّي الشاغور واشترى أرضاً في دمّر، عمّر بيتاً كبيراً تقريباً في هضبة متوسطة تسمّى اليوم الحارة الجديدة وتحيط به أرض الديار وبحرتها كانت تعمل في أغلب الأوقات، ثم قرر جدّي تزويج أعمامي فاقتصّ كلُ واحد منهم جزءاً من السطح وأنشأ عائلة، كنا محظوظين بالتأكيد أن عائلتنا الصغيرة هي من سترافق جدّي وتبقى في البيت الكبير، لم يكن يوماً بيتنا لوحدنا، كان بيت العائلة ولهذا أرض الديار كانت للجميع وكان أولاد العم يملؤونها نهاراً حتى يصيح جدّي من شباكه أو يُخرج عكازه من الشباك ذاته مهدداً، فيهرب كلّ منهم إلى بيته، لم يكن الشارع ملعبنا، كانت أرض الديار وصالون بيتنا الحارة الأساسية لأولاد العائلة جميعهم.

إلى منزلنا حضرت الاتاري لأوّل مرّة من أولاد عمّنا في بيروت، كانت سوداء فيها زرّين أزرقين، واحد للتشغيل والآخر لإعادة التشغيل، لا أعرف لماذا استغنوا عن زرّ إعادة التشغيل في الأجهزة الحديثة اليوم، من كان يضع يده على زر إعادة التشغيل كان يهدد كلّ اللاعبين ليحظى ربّما بدور “دق بالإصطلاح الشعبي” ولهذا فإن أي طفل يضع يده كان يهددنا بالفعل وخاصة اذا كنّا قد وصلنا وختمنا مراحل متعددة أو كان التنافس في أشدّه، هل تذكرون تلك اللحظات التي يهدد بها طفل أصغر منكم أهم ما تقومون به في حياتكم الماضية؟!

كان بيت عمّي رياض أوّل من يحضرون الأجهزة الحديثة في العائلة، من الكومبيوترات والموبايلات والمكيفات وغيرها، أحيّ عمّي رياض أجرئ من في العائلة لتجربة الأشياء الجديدة، كانت لديهم الأتاري السوداء ماركة أتاري الكبيرة الأصلية مع يد التحكم التي تشبه “فرام الإيد” وكان لدى بيت عمّي طارق أتاري نتيندو لونها خمري، أما نحن بعد السوذاء فقد اشترينا الكيبورد البيج والرمادي عندما تفوّق أحدنا في صفّ مدرسة، على الأغلب اشتريناه من مضايا ولكنه لم يزد شيء عن السوداء القديمة سوى بأزرار الحروف و برشاش نصوّبه إلى الشاشة ونقتل البطات التي كانت تطير بسرعة، فيخرج منه ضوء ليزر أحمر قيل لنا وقتها أنه يصيب بالسرطان ولذلك علينا استخدامه باتجاه الشاشة فقط.

كان يبلغ سعر الشريط في بدايات الألفية في سورية حوالي 60 ليرة سورية، ما يساوي اكثر من دولار في وقت كان مصروفنا اليومي العادي يتراوح بين 10 و25 بحسب اليوم، أيضاً يوم الخميس كنت أحظى ب 50 ليرة على الأقل لممارسة تسالي نهاية الأسبوع، هذه ال50 ليرة كانت تكفي سهرة كاملة دورين كاونتر سترايك ” تيمين بالإصطلاح الطفولي!” مع شبرقة على سندويشة سناك جاهز أو كولاية تنك مندرين وغالباً على طعم الفينيتو!

كانت الفرحة بشراء شريط جديد، تساوي ضعفي فرحتي عندما اشتريت أوّل جهاز أيفون منذ سنوات، الفرق البسيط أنّه كان يمكنني في كل أسبوع تقريباً الشعور بهذه النشوة ولكنني قد أحتاج سنة كاملة لمجرّد التفكير اليوم في تبدل جهازي الأيفون بآيفون أحدث منه.

الأتاري لم تكن لعبة، كانت تجربة حياة، ولم تفلح كلّ ترجيات أهالينا لنبعد عن الشاشة لأجل عيوننا، إلا عندما اشترينا يدين للعب أشرطتها طويلة ولكن لم نبتعد كثيراً فشاشة تلفزيوننا صغيرة أما التلفزيون الكبير في علبة الخشب من ماركة سيرونيكس كان في غرفة جدّي وهو مخصص للقنوات الإخبارية والفضائية السورية في مقدمتها وخصوصاً نشرة ال8:30 مساءاً من كلّ يوم.

لعب الاتاري علّمتنا الكثير! كيف ذلك؟

الصبر فقد كنا ننتظر موت شريكنا في اللعب في ماريو مثلاً لأكثر من ثلث ساعة ونراه يتقدم على شخصية لوجي في المراحل! كانت موسيقى الاتاري مميزة، بسيطة رنّانة تُفرحنا عدا نغمة خسارة اللعبة غييم أوفر! الاتاري علّمتنا تقاسم المتعة، لن تستمتع اذا جلست وحدك! علّمتنا المشاركة أعيرني أشرطتك لأن اليوم لدينا أولاد خالتي مثلاً وأنا أعيرك أشرطتي عندما يزوركم ضيوف معهم أولاد.

الاتاري علّمتنا الاقتصاد، لن يشتروا لنا أكثر من أتاري واحدة هذا الصيف، علّمتنا التوفير، وفر من مصروفك لتشتري أشرطة جديدة وتباهي بها، علّمتنا الكثير عن شخصيات أسيوية وصينية وربّما أسماء، كما أنّ ألوانها المحدودة والفاقعة غالباً ستبقى تعني لنا لذّة اللعب والمتعة دوماً

الاتاري كانت في وقت مضى.. كلّ شيء

وسيم السخلة، خريف 2020

« Older posts Newer posts »

© 2024 Waseem Al Sakhleh

Theme by Anders NorenUp ↑