هذه المذكرات هي مذكرات شخصيّة، قد تصف كثير من الألم والمشاعر والتفاصيل وكل التفاصيل
فيها حقيقيّة، اذا كنت تبحث عن مقال سياسي أو اقتصادي فهذا ليس مناسباً لك..
صيف بيروت، الثلاثاء 4 آب 2020
كانت بيروت تلتهب، صيفٌ حارق، البحر يتبخّر، الرطوبة تبطء الهواء فيبدو ثقيلاً، نتنفسه نحن فلا يتحرك من أمام وجوهنا، تخيلوا هواءاً لا يتحرك، يجثم أمامنا في المدينة، منتظراً شيئاً ما، عاصفة، انفجار، نهاية الكوكب، أي شيء آخر..
كانت إصابات كوفيد-19 في تصاعد، وكانت الليرة اللبنانية تهوي، كانت تهوي سريعاً، والناس معها يتخلون عن المستقبل، في كلّ المرات التي تحدث فيها الأزمات يفتح الناس خزائنهم، فيصرفون ماجمعوه، على مبدأ القرش الأبيض لليوم الأسود.. إلا في بيروت، استيقظ الناس في أيام سوداء، فوجدوا أن قروشهم التي جمعوها قد اختفت، هكذا فجأة ثمّة من سرق بلد كامل، لم يسرق بنكاً، سرق المصرف، لقد كان الناسُ مفلسين تماماً، ليس لأنهم لايملكون الأموال، بل لأن هناك من سرقها..
كان الثلاثاء يوماً بين فترتي حجر أقرتهما الحكومة، لم يلتزم الناس احتراماً للقانون، بل درءاً للكارثة الصحية المستمرّة، المشافي ممتلئة والضحايا يتمّ عدّهم كأرقام فقط، حين يعلنون اصابتك أو موتك لا أحد يسأل عن عائلتك أو أحلامك أو آخر شيء جيد فعلته، ولاحتى عن موقفك السياسي وحزبك، يسألون فقط عن عمرك، وعن مكان سكنك، وأين توفيت، وكم مرّة دفعت لإجراء اختبار الكورونا
.. هكذا كانت بيروت، كورونا تنغل نغلاً، رطوبة عالية جداً، صيف مشتعل الناس فيه غير قادرين على الخروج للسياحة كما اعتادوا حيث أموالهم سرقت والحدود مغلقة بسبب كورونا تماماً، الجميع صامت، وحدهم سائقو التكاسي يحللون الأزمات، وحدهم يحدثونك عن كيف سترجع الأموال، وحدهم يشرحون لك مسألة الشريحة الالكترونية التي سيزرعونها في أجسادنا فور اكتشاف اللقاح، وحدهم من يحدثونك عن كذب اختبار الكورونا، وعن الدكاترة الأميركيين الذين ركبو معهم وقالوا لهم أن الفيروس مؤامرة، وحدهم من يقتنعون أن أقاربهم الذين يموتون بالكورونا لم يموتو بالكورونا بل تم قلتهم بالوهم..
صباح ذلك اليوم
استيقظتُ كسلاً فأنا بحاجة للذهاب للمكتب حيث كنت أتدرب مع منظمة وعليّ بعض المهام التي انجزها من كومبيوتر المكتب، دخلت إلى المكتب مع سندويشة لبنة بالمكدوس اعتدّتُ تناولها من محل يُلاصق باب بلدية بيروت، تجاوزت الحاجز الأمني نحو ساحة النجمة، حيّيتُ عبد الله حارس البناء سألته عن السودان وأجابني بكلام لم أفهمه،
أنا في البناء الأنيق الأبيض المميز والذي يعلوه أسد حجريّ طائر وسط ساحة النجمة ببيروت حيث استخدم سابقاً كسفارة للايطاليين ومكاتب لشركة روتانا وغيرها.. في المطبخ أعددتُ الشاي، لا أحد سوى مدير المنظمة، أغلقت خلفي باب المكتب، شغلتُ التكييف ووضعت على الشاشة الأخرى مسلسل شارع شيكاغو.. وبدأت العمل..
للصراحة فإن تناول المكدوس في هذا الجو الحارق ضرب من الجنون، لكنّ إضافة اللبنة إليه (على الأغلب هو اختراع يُسجل لصالح محلات الفاكهاني في بيروت) جعل من المكدوس واللبنة والخضروات مع كأس من الشاي الأحمر لذّة معقولة وسط يوم صيفي حارق..
كان هاتفي يمتلئ بالإشعارات من مجموعات الواتساب الإخبارية اللبنانية، والتي تنقل كل شيء عن أي شيء، لقد عرّفتني هذه المجموعات التي مازلت عاجزاً عن مغادرتها على كل شيء يخص لبنان، بت أعرف كيف يصرح السياسيون، كيف يردون على تغريدات بعضهم، ماهي الكلمات التي يستخدمونها، “ليُبنى على الشيء مقتضاه” كما يقول مكتب رئيس مجلس النواب مثلاً.
جعل المكيّف القوي المكتب الزجاجي جنّة وسط جحيم الطقس، هذه الجنّة كنتُ أتفاوض في زمن مضى مع وليد على درجة برودتها، سافر وليد وترك لي المكيف والجنّة بحالها، اختار جنته الجديدة في تركيا.
كانت الساعة قد تجاوزت السادسة، وكنتُ لا أخرج من المكتب إلا في المساء في أيام صيفيّة كهذه، كنتُ أشاهد سلاف فواخرجي وعباس النوري في مسلسل شارع شيكاغو، وادقق ملفاً أعمل عليه،
فجأة، اهتزّ البناء، كأنه ثمّة من امسكه من قواعده على طريقة أفلام الكرتون، خلال نصف ثانية كان عليّ الاختيار بين أن أتطلع نحو اليمين لأشاهد ما يحدث من الشرفة أو أتطلع نحو اليسار باتجاه باب المكتب الزجاجي.. اخترت اليسار.. كما أفعل دوماً
لو أنّي اخترت اليمين لتهشّم وجهي للأبد، هكذا ببساطة أقولها.. دوى الانفجار خُلع باب الشرفة الخشبي مع البللور المزدوج، في ثواني كنت قد طرت عدّة أمتار وهويت فوق نفسي، ارتد الانفجار، وقعت قطع من السقف المستعار صار الباب الخشبي وبلورته المزدوجة السمكية المحطمة تغطي ظهري وكان تحت جسدي الباب الزجاجي الذي صار حبيبات زجاجية جارحة..
هكذا فجأة تحولت من طالب ماستر يحب المدينة ويفرح فيها إلى طبقة بشرية بين الزجاج ومازال يتساقط فوقها السقف المستعار، الكتب، الكراسي، فجأة تصبح طبقة منسيّة، أنت الذي نجوت من آلاف قذائف متطرف اسمه زعران علوش كان يمطر فيها العاصمة دمشق تتحول هنا إلى جسد بشري بين طبقات الركام.
احتاج عقلي عدّة ثواني لربط الصوت بالانفجار، تلقى عقلي الفكرة أولاً، أين أنا، ثم سمعت الصوت من جديد، اذا لقد انفجرت المدينة، لوهلة أحسست أنني في وثائقي حرب لبنان الذي أعدته الجزيرة في التسعينات وحضرناه وحفظنا موسيقته في منزلنا بدمشق، أول ما فكرت فيه هو العائلة، بابا لم يكن يتصل بي كلّ يوم كما يفعل أصدقائي، لكنه كان لاينام قبل أن يراجع آخر ظهور لي على واتساب ليتأكد أنني نمتُ، نعم هذه الأشياء التي تكتشفها صدفة، كان أبي يراجع ظهوري على واتساب أكثر مما فعلت أي صبية كنت أستلطفها وتستلطفني.
تحركت قليلاً فرأيت دماءاً في ساعديّ وركبتيّ، بحثتُ عن الموبايل، كان أبي يشغّل قناة الجديد كل ساعة منذ بدأت المظاهرات قبل أقل من سنة في لبنان، كان يتابع قطع الطرقات ويشكل خريطة بيروت في ذهنه من جديد، هل تمرّ من جسر الرينغ في العودة للمنزل؟ لماذا تقطع من امام مصرف لبنان هناك مظاهرة عصر اليوم هناك، هل صحيح أن المواجهات تحدث بقرب المكتب من حولك، الله يرضى عليك خلينا بعاد..
وجدت الموبايل على بعد أمتار، كنتُ ما أزال ممدداً على الأرض، كانت الحرب قد اشتعلت في الخارج، هذه الحرب هي حرب أجهزة الإنذار، أنا في منطقة مغلقة منذ سنوات أمام العامة إلا لضرورات، منطقة فيها مجلس النواب ومكاتب المنظمات الدولية وبعض السفارات، وكل أبنيتها ذات طراز كولونيالي محدّث، ولكل بناء صفارة إنذار مدوّية إن لم يكن لكل مكتب، في الخارج حرب صفارات الإنذار ومن حولي الركام والغبار، وصلت للموبايل، فتحت تطبيق الواتساب فوجدتُ الانترنت يعمل وكانت هذه المفاجأة جيدة، لقد حسبت أن كلّ شيء انتهى وتدمر كلّ شيء لكن الانترنت يعمل جيد! فتحت المحادثة مع بابا، كنت أود أن أقول له أنني بخير قبل أن تورد قناة لبنانية خبراً يقول هز انفجار ضخم بيروت، أو الحرب بدأت من جديد في بيروت، حاولت تهدأة صوتي أرسلت له تسجيلاً قلت فيه: بابا صار انفجار وأنا منيح بعيد عنو، بس حبيت طمنك، بحاكيك بعدين
الحقيقة أنني لم أكن أعرف ما حدث بعد، والحقيقة أنني كنت أنزف بعض الدماء ولستُ “منيحاً” كما قلت، لكنني تخيلت العائلة التي كنت لم أراها منذ 5 أشهر تتسمّر أمام تلفاز أو موبايل لتراقب ما يحدث في بيروت.
بدأت أدرك ما حولي، تذكرت أن المدير في غرفة أخرى، زحفتُ نحوه وجدته بخير، شاهد الدماء قلت له خدوش، بدأنا بفحص بعضنا البعض، نفتش عن جروح أو ضربات، استعدنا الوعي لدقيقة، قلت له أكيد هو تفجير في مجلس النواب الذي يبعد عننا أمتاراً، ذهبت إلى الشرفة، وجدت المجلس غير متفجر لكن شبابيكه محطمة، قلت له أكيد هو تفجير في شارع المصارف حيث يبعد عنا عشرات الأمتار، قال لي انفجار في المرفأ، قلت له مستحيل، الانفجار أقرب بكثير، تداعينا للخروج، تذكرتُ أوراقي الرسميّة وكومبيوتري المحمول الثاني الذي كنت أتركه بالمكتب، قال لي علينا المغادرة، كنتُ متأكداً اننا لن نعود إلى المكتب قريباً، لملمتُ أوراقي وحملت الكومبيوتر المحمول القديم، لا أدري كيف فجأة تحول حجم أوراقي إلى طنّ..
نزلت من المكتب والدماء تسيل من قدميّ، ومن يديّ كنتُ اجفف الدم عن كفي اليسار بوضعه في جيب الشورت الخمري الذي ألبسه، كانت من نفس لون الدم، المصعد كان متعطلاً أصلاً وبالتالي لم نحتاج لتلك النصيحة التي نجدها ملصقة داخله دوماً عن عدم استخدامه في حالات الحريق والطوارئ.
نزلنا الدرج فسمعنا صوت الصريخ من مكتب بالطابق الأول، كل كل شخص يطمئن على عائلته، ثمّة أشخاص لم يردوا أبداً بعدها.. كانوا عدّة صبايا بخير مثلنا، تابعنا النزول.. بين المكتب والمكتب والحاجز الأمني حوالي 40 متر.. مشيتها ببطء..
كنتُ لأول مرة أشاهد مدينة تتحطم، نحن سكان العاصمة دمشق مرّت الحرب بقربنا، لم تخترقنا كما حصل في باقي المناطق، مشيتُ مذهولاً، هذا الجمال الذي كنتُ أتأمله كلّ صباح ومساء يحترق ويتكسر، هذا الوسط الذي أحفظ تاريخه وتحوّله وأحتفظ بصوره القديمة يُعاد تحطيمه.. لم يكن هذا الشعور منطلقاً من نظرة طبقيّة، أنا لم أحزن على وسط المدينة لأنه الجميل والمرتب، لكن كان ذلك أول ما شاهدته.. كانت صفارات الإنذار مستمرّة، بل كانت تزيد هلعاً كل لحظة، كان الناس يصرخون، كان يوم القيامة كما حدثونا عنه في الجامع عندما كنا صغار.. لكل شخص همّ ما، شيء يبحث عنه، رقم يحاول الاتصال به..
تجاوزت الحاجز الأمني، لأول مرّة أشاهد الخوف في عيون العسكر، ماذا يفعلون بالبنادق الأميركية التي يحملونها؟ ماذا تفعل عندما تتفجّر المدينة؟
وقفت أمام بلدية بيروت، كانت المحلات قد تحطمت واجهاتها والبضاعة فيها ارتدت للخارج، محلات الساعات والمجوهرات والأجهزة والعطور صارت خرائب، والبضاعة على الأرصفة، السيارات تتحرك بطريقة جنونية، منها من يضرب بالجدران الاسمنتيّة، أصوات صريخ، دماء، اسعاف، إنذارات، حاولت إيقاف أي سيارة أو تاكسي أو أي شيء، لا أحد..
تحادثت مع شباب بيت شام، كانوا بخير وقد اجتمعوا في المنزل مع بعض الأصدقاء، مشيت باتجاه شارع الحمرا من وسط بيروت، أحاول إيقاف أي سيارة، لم يتوقف أحد.. ما أحمله بلغ وزنه طن في تلك اللحظة، على الرغم من أنه لابتوب وأوراق لكنني أحسست أنني أحمل المدينة بين يديّ.. أنهكتُ جلست على الرصيف، مسحت الدماء، مشيت، تعبتُ، جلستُ أمام مشفى كليمنصو.. شاهدت المئات على نقالات الإسعاف مازالوا في الطريق، المشفى ممتلئ.. الناس يجنّون..
اتصلت بمحمد دياب شريك بيت شام، قلت له أن يلاقي لي لم أعد أستطع المشي، نزل والتقينا، حمل الأغراض عني.. كنا نتطلع ونحن غرقي بدموع لم تنزل من عيوننا.. كان دياب يشاركني حبّ المدينة المتخيّل، دياب كان مغرماً ببيروت ولو لم يكن على طريقتي، لكنّ بيروت المتخيّلة كانت تجمعنا، بيروت واليسار والصحافة والنشر ودرويش وو
في المنزل اجتمعنا، كان محمد عسراوي قد جرح قليلاً، وكان يطببهُ صديقنا وسام، الجميع في حالة ذهول.. المنزل لم يتأثير كثيراً فقط بعض الأشياء تحركت، بدأ الانترنت بالتعطل، أعدت الاتصال بالعائلة، صورت لهم أنني بخير.. جلسات في صالون المنزل الكبير في بناء جعفر آغا هذا المنزل الذي استأجرناه كبيراً لنوسع أنشطة بيت شام فإذا الكورونا تستمرّ، الكهرباء مقطوعة، دياب يوزع عليها المياه لنشرب.. كلّ منا بدأ يطمئن على أصدقائه.. كان من الصعب الاطمئنان على مدينة.. تخيل أن تعرف المدينة، لقد كنّا نعرف المدينة.. الجامعة، المجموعات، رابطة الأصدقاء، النادي السوري، مجموعات الدورات، مجموعات العرب الذين قضينا برامج معاً في الجامعات، اكثر من 50 مجموعة نسأل فيها بعضنا، هل نجوت؟
ما أبشع هذا السؤال في مدينة تحترق، في مدينة متفجّرة، هل نجوت؟ مالذي ينجو فينا بالضبط بعد حادث كهذا؟ كيف نعود كما كنّا؟ كيف نبقى؟ كيف نرد على هذا الكم من الرسائل عبر وسائل التواصل، كيف أشرح للجميع اننا لم نكن بخير حين كتبت منشوراً من كلمة واحدة لأطمئن الأصدقاء والمعارف، بخير!
اتصل صديقنا محمد دياب، وهو النسخة اللبنانيّة من نفس الاسم في بيت شام، قال لنا أن هناك تحذيرات من انتشار المواد الكيميائيّة في الجو وعلينا الخروج من بيروت، سيأخذنا بسيارته إلى صيدا حيث منزل لعائلته، فشلنا في شرح الأمر له، لن نخرج، لن يخرج مليون شخص، حاول معناً كثيراً، أعتقد يومها أننا كنا فاقدي القدرة على الكلام والتفكير، كنا نشعر فقط بالأسف، ننظر في عيون بعض، نحنُ الذين عشنا زمناً ذهبياً في بيروت شاهدناها كيف أفلست وشاهدنا الناس فيها كيف اختفت ضحكاتهم وشاهدنا تُصاب بالكورونا وشاهدناها تنفجر يومها..
في ذلك المساء كنا نتابع الأخبار، على الأصح كنا نتابع أرقام المفقودين والضحايا، أحسسنا للمرّة الأولى بالأسف، هل تعرف شعور الأسف على مدينة؟ والمدينة هنا هي الناس والمكان والزمن والنحنُ.
في اليوم التالي جمعت بعض الزجاج لأخلّد الذكرى، لكن عدّتُ وتخلصت من أغلبها فقط جرحت يدي مرّة أخرى.. حصلت على صحف اليوم التالي، حيث كانت الحياة قد تغيرت تماماً.. بالنسبة لي على الأقل..
وسيم السخلة