في مسيرتي الدراسيّة لإنجاز القسم العملي من رسالة الماستر الخاصّة بي كانت حمص محطة أساسيّة لإنجاز الملاحظة المباشرة وحضور صفوف دراسيّة، وفي رحلتي القصيرة جدّاً أحببتُ تدوين 11 من الأشياء اللطيفة في هذه المدينة التي تتوسط سورية وتستحق أن تسمّى قلب سورية ♥️
1. البداية مع سائق التكسي المبتسم!
حطّت بي السيارة التي تشاركتُها مع مجموعة ركّاب من دمشق لحمص في دوار تدمُر، ومباشرة أشرت لتاكسي للذهاب نحو مديريّة التربية دون تضييع الوقت، حددتُ للسائق الأجرة التي سأدفعها نظراً لعدم التزام السائقين بما يظهر على العداد هذه الأيّام، السائق وجد أن الأجرة زهيدة، لكنهُ سألني: انتِ من الشام استاذ؟ فأجبته مستهجناً: نعم فقال لي اتفضل انتِ ضيفنا شرّفت! وبدأ يحدّثني أنهُ يحبّ الشام وهو يضيع فيها وأن حمص صغيرة جداً وعند الوصول حاول رفض أن يأخذ الأجرة على اعتبار أنني ضيف في مدينته، كان صادقاً جداً وكان هذا الموقف بداية لطيفة ليوم جميل، نقدّتهُ الأجرة مضاعفة وتمنّى لي التوفيق في بحثي.
2. في مديريّة التربية، بخدمك بعيوني أستاذ!
طلب إليّ حارس المديريّة ارتداء الكمّامة قبل الدخول، وفي المكتب المختص بالمديريّة طلب الموظف منّي الجلوس وطلب لي قهوة عندما عرف أنني طالب ماستر، وقال لي أمورك محلولة استاذ، حطّ غراضك عندي وسجّل الكتاب بالديوان لو سمحت. عدتُ لأجد القهوة واستفسر منّي عن عنوان البحث وأعجب به، قال لي أن الموظف الذي أحتاج توقيعه في جولة لافتتاح شيء ما تابع للمديريّة، وطلب إليّ مراجعة مدير التربية مباشرة بعد أن شرح الوضع لمدير مكتبه، ما إن وصلت حتى تمّ تأشير الكتاب ورجعت لأرى الموظف وقد جهز لي الكتاب الموجه للمدارس وبقي توقيع آخر فقط، بعد أن ذهب معي لتوقيعه قال لي: موفق أستاذ شكرته على المساعدة في تيسير الأمر فأجابني: بخدمك بعيوني أستاذ، ياريت تبعتلنا نسخة من البحث بس تخلص.
3. هي مفتاح تاني للبيت خود راحتك!
وصلت إلى منزل صديقي جورج زيربة، الذي انتظرني في الخارج، مرّت أكثر من سنة على اللقاء الأخير، كان جورج قد أجل موعد عمله لاستقبالي وبعد التحيّات والأشواق قدّم لي نسخة من مفاتيح المنزل وقال لي: خود راحتك.
4. صاحب محلّ البقالة يعيد 10 ليرات سوريّة لجورج
اصطحبني جورج إلى السوق المجاور، وطبعاً في تمشاية مع جورج أنت أمام موسوعة ديموغرافية وتاريخيّة وثقافيّة متنقّلة، وعدني جورج الذي يُحاول التحوّل إلى النباتيّة مؤخراً بصينيّة خضار مشويّة في فرن الحارة، اشترى الخضار وبعض الفواكه وكان أن أعاد له البقال عشر ليرات سوريّة معدنيّة، وهي قطعة النقود التي لم أعد ألحظها في التعاملات المالية بدمشق منذ سنوات ربّما.
5. ملجأ مُهمل يحوّله المتطوعون لفضاء جميل
اصطحبني جورج لمقرّ مؤسسة بيتي التنمويّة في الحي، وهو يشغل عضويّة مجلس الأمناء فيها وكنت قد تعرّفت إلى بعض أعضائها في مرّات سابقة، سررتُ بتحويل الأرض المهملة إلى حديقة جميلة مزيّنة ونظيفة يرتادها سكان الحي، إلا أنّ المفاجأة كانت بتحويل الملجأ المهمل في أسفلها والذي كان معداً ومغلقاً منذ حوالي نصف قرن تقريباً إلا أنه استخدم في السنوات الأخيرة قبل استعادة المدينة القديمة بأعمال متعددة، لقد قام متطوعوا بيتي بتظيفه وتسمية قاعاته لتكون منتجة وترفيهيّة وتدريبيّة ومفيدة لسكّان الحي أنفسهم، وماتزال أعمال التأهيل مستمرّة، كان جورج يتحدث عن قاعة السينما التي يعملون عليها وكأنّه لن يغادر هذا المكان في حياته أبداً، الصفحة الرسميّة لمؤسسة بيتي للتنمية على فيسبوك
6. بيتي للتنمية هي بيتي أيضاً
دخلنا لمقرّ المؤسسة مقابل الحديقة، كان ثمّة اجتماع مسائي للمتطوعين حول مدفأة حطب ذكرتني بالمدفأة القديمة في بيت جدّي في منطقة الفيجة بالريف الدمشقي، سرعان ما تعامل معي الأعضاء وكأنني من المؤسسة وناقشنا بعض الأمور والأفكار ولفتني حقيقة الطيف الديني المتنوع لمتطوعي المؤسسة التي تنشط محليّاً بين أحياء متنوعة، أهدوني في المؤسسة نبتة بفخارة صغيرة، شعرت معها بأنّ بيتي التي تبعد كثيراً عن بيتي هي أيضاً بيتي.
7. دار للأوبرا تحوّلت إلى مقهى شعبي
هناك صورة خاطئة بأنّ حمص مدينة تفتقد للحيويّة، وبمجرّد دخولك للمقاهي الشعبيّة مثل الفرح الذي أعرفه سابقاً والروضة التي تعرّفت إلى صالتها المغلقة للمرة الأولى ستكتشف أنّ الناس يتجمعون ويمارسون طقوس القهوة من لعب للورق وتناول المشروبات والتدخين في دار كانت مصممة لتكون دار أوبرا في 1922! أيّ قدر رمى بهذا الصرح المميز والذي تبدو عليه التفاصيل الرائعة لتتغيّر مهمته إلى مقهى شعبي.
8. مساحة عمل صديقة جداً DOORS
اصطحبني صديقي توفيق عثمان إلى شركته التي تسكُن في عقار قديم وجميل عمره حوالي نصف قرن، دورز هي شركة هندسيّة ولكنّ توفيق حوّلها لمكان مناسب للدراسة والعمل والنشاط المجتمعي، كما زودها بالأدوات اللازمة وحافظ على هويّة العقار فتبدو شركة في منزل ومنزل في شركة، يمكنكم متابعتها على فيسبوك! دورز
9. سلسلة كتيّبات بسيطة اسمها: وفاءاً لهم
لفتت نظري مكتبة دار الإرشاد في شارع عبد الحميد الدروبي، دخلت لمطالعة بعض العناوين فخرجت ببعض الكتب، لكنّ أكثر ما لفتتي واقتنيت بعضاً منه هو سلسلة بسيطة اسمها: وفاءاً لهم، فيها يتحدثون وبشكل مبسّط وصغير ودون تكلّف فني عن شخصيات أو أماكن في المدينة، مثل طبيب الفقراء أنيس المصري (1926-2014) والذي نشط في جمعيّة البر والخدمات الإجتماعية الشهيرة في حمص، كم نحنُ بحاجة لهذه التفاصيل لإعادة إغناء ثقتنا بمجتمعاتنا الصغيرة والكبيرة وتقديم النماذج للتعلّم والمشاركة. أيضاً خرجت بكتاب عن الأحزاب والجمعيات والصحف أيام العثمانيين في حمص، ولعلّ أغرب مالفتني أسماء بعض الصحف القديمة مثل جريدة “ضاعت الطاسة” 1910 وجريدة “جراب الكردي” 1914!
10. الأصدقاء الذين نصدفهم في الشوارع وكأننا في حيّنا
تكرر الموقف عدّة مرات أثناء جولاتي على المدارس أو في الأسواق، أدرك تماماً أن حمص تبدو صغيرة كمدينة علماً أنها كبيرة كمساحة إداريّة ولكنّ الملفت أنّ كلّ الأصدقاء الذين صادفتهم في الطريق وأغلبهم التقيت بهم في تدريبات سابقة، أو ورشات أو عندما كنت مسؤولاً عن المتطوعين الشباب في تنظيم الأسرة كانت تجمعهم حرارة الإبتسامة، الناس ودودون وفي فترة إقامتي القصيرة للأسف لم أستطع تلبية سوى دعوات قليلة من عشرات الدعوات اللطيفة.
11. أمسية غناء أوبرالي رائعة، في مسرح قصر الثقافة
من الصدف السعيدة أن ألاحظ إعلاناً لأمسية غناء أوبرالي سيعزف فيها على البيانو المحبب لنا ميساك باغبورديان قائد الفرقة السمفونيّة الوطنيّة، دخلنا إلى المسرح المهيب في حمص وخلال أكثر من ساعة كنّا في حضرة الجمال والروعة، كانت أصوات كل من رشا أبو شكر وميخائيل تادرس مع البيانو تشكل جو رائع، وكان وقتاً ساحراً نقل الحضور إلى القرون الماضية لسماع قصص كلاسيكيّة أوروبيّة بأصوات سوريّة مهمّة.
هذه المشاهدات ال11 ربّما هي جزء بسيط من مشاهدات أخرى حظيت بها على الرغم من الوقت القصير في المدينة لأن الزيارة كانت لأغراض دراسيّة هذه المرّة، في كلّ مرّة يزيد شعوري بالتعلّق أكثر في هذا البلد المشرقي الجميل كما كان يسميه دكتورنا الراحل سمير اسماعيل.
وسيم السخلة / شتاء 2020