هالدّني بتساع الكل <3 - Life can accommodate everyone

Tag: سورية

أشياء مأمولة من وزارة الإعلام المصونة! 

تصريح باقتناء تلفزيون في سورية يعود لسنة 1964

منذ سنوات تبدو وزارة الإعلام لدينا غائبة أغلب الوقت، قد يأتي وزراء إعلام ويرحلون دون أن يظهروا ولو لمرّة واحدة في الإعلام، تمضي سنوات أحياناً دون سماع أي تحرّك أو تأثير فعّال لهذه الوزارة، على الرغم من ضخامة جهاز الموظفين التابع لها، أيضاً تتبدّى تعقيدات علاقة الوزارة مع الهيئات التابعة لها أمام الجمهور في كثير من الأحيان. 

في ذات الوقت ترزح هذه الوزارة دوماً تحت وطأة الانتقادات وغياب الدور بالنسبة للمواطنين والمعنيين، الذين كثيراً ما يسألون سؤالاً بسيطاً، ماذا تفعل هذه الوزارة؟ وماذا نفعلُ لأجلها؟

بعض الأشياء التي أدونها هُنا هي بديهيّات، وبعضها متعلق بالحالة السورية، ليست كافية، ليست مُرتّبة، لكنها مترابطة، وصار العملُ على تطبيقها اليوم ضرورة لا خيار، هُناك دول متعددة تخلّت عن فكرة وزارة الإعلام واستبدلتها بهيئات أو مؤسسات رشيقة، وقد خطَت سورية هذه الخطوة قبل سنوات لكن سُرعان ما تراجعت عنها، عندما أسّست للمجلس الوطني للإعلام وألغتهُ لاحقاً.

مع تولّي وزير جديد للإعلام مشهود بمهنيّته ومُثابرته ينتظر العاملون في الصحافة والإعلام إدارة أذكى للواقع الإعلامي في سورية، وخلق فضاءات تفاعليّة تحوّل الوزارة من حال إلى حال، نرجو ألا يكون مُحال.

  • هويّة بصريّة للدولة السورية

رغمّ أنّ القانون 37 لسنة 1980 يُحدّد شعار الدولة وخصائصه إلا أنّ العُقاب يُستخدم بأشكال متعددة، الرئاسة تستخدم شعاراً خاصاً، قريبٌ منهُ المستخدم في مجلس الوزراء وبعيدةٌ عنهُ أحياناً تلك الشعارات التي تستخدمها الوزارات والهيئات الحكوميّة، بعضها لديه logo وبعضها ليس لديه، ويُمكننا إحصاء أكثر من 10 أشكال وألوان للشعار الرسمي تستخدم في كلّ مكان! 

المطلوب ليس فقط الشعار وتعميم مواصفاته، بل أيضاً الخطوط والألوان والقياسات لهذا الشعار والهويّة البصريّة الكاملة بدءاً من تصميم الجلاء المدرسي وليس انتهاءاً باللوحات الإعلانيّة لمباني المؤسسات العامّة والمدارس، علينا توحيد الهويّة البصريّة للوزارات مع تخصيص كلّ وزارة ببعض الألوان وغيرها، فهذه الحالة المنتشرة تقول أنّ كلّ مؤسسة مستقلة وليست ضمن حكومة واحدة. من الممكن اطلاق مسابقة وطنيّة، فالإعتماد على الكوادر الحكوميّة الحاليّة قد لايفي بالغرض، (راتب أي موظف حكومي لا يكفي لشراء نسخة أصليّة من برنامج تصميم) الدول في رسم هويّاتها البصريّة تستعين بمصممين وخبراء من مختلف البلدان، وهناك سوريون ساهموا في تصميم هويّات بصريّة لحكومات دول متعددة، فلنبحث عنهم! 

  • البوابات الحكومية الإلكترونيّة

اليوم تعتبر المواقع الالكترونيّة صورة الدولة، وبوابة الدخول إليها، يتعامل معها الملايين ويستخدمونها، ومع كُلّ هذا الوقت منذُ ظهورها فإننا لانملك مواقع رسميّة بواجهات مرتبّة، بل مواقع فوضويّة وعشوائيّة، معظمها لايتمّ تحديثه، أكثر الروابط فيها مُعطّلة وتأخذك لصفحات فارغة، مواقعنا مشغولة بطرق بدائيّة ليس فيها الأساسيات المطلوبة مثل هياكل الوزارات وقوانينها ومعلومات التواصل، ليس فيها أخبار محدّثة، ولا بيانات ولا مصادر معلومات، أكثرها تمّ تطويره لمرّة واحدة ورُبّما كان عقد تصميمها غير مصاحب لعقد صيانتها وتشغيلها.

حتى أنك تجد أرشيف الوزارات موزعاً في تطبيقات التواصل الإجتماعي التي تحذفهُ باستمرار وتقلّلُ وصوله وتخفّض دقّتهُ وكثيراً ما تتعرّض الحسابات الرسميّة إلى الاختراق وهُناك بعض الصفحات المزوّرة يتابعها الملايين وتنشرُ باسم الحكومة ماتراهُ مناسباً، في نفس الوقت الذي تعجزُ فيه الحكومة عن مواجهتها أو تفنيدها، فالناس يتبعون الأرقام الكبيرة والأخبار المثيرة وهذا ما يتقنهُ الآخرون. إنّ انشاء مواقع الكترونيّة مفيدة، تضمّ كلّ شيء ممكن عن هذه المؤسسة أو الوزارة بات أمراً أساسيّاً ومهمّاً وضروريّاً، بما في ذلك رئاسة الجمهوريّة، فالمواقع الاجتماعية تُغلق وتقيّد باستمرار الحسابات الحكوميّة، وفي لحظة ما قد تُقرّر ادارات هذه المواقع وهي احتكارات أميركيّة بمعظمها انهاء وجودنا الرسمي أو تقييدهُ تماماً، فماذا نحنُ فاعلون وقتها؟ إنّ بعض الوزارات لاتملكُ أرشيفاً لسنة للوراء، وكلّ أرشيفها في صفحات الفيسبوك التي يصعُبُ الرجوع إليها، بالمناسبة أين أرشيف وكالة سانا؟ 

  • إعادة الإعتبار للصحافة السوريّة

لسنوات طويلة ومريرة، كانت الصحف السورية جامدة متشابهة حدّ التطابق، مع زوايا وصفحات جريئة مُتبدلة بحسب الأحوال والأهوال، وفي مواسم الصحافة الالكترونيّة بُلينا بمئات المواقع الاخباريّة المتشابهة أيضاً، غاب الابتكار وانتشر التكرار، حتّى حلّت السنوات الماضية التي أوقفت فيها طباعة الصحف بحجة تقليل انتشار فيروس كورونا وهو مالم تفعلهُ أيّ دولة حتّى، وصارت بعض المؤسسات الإعلامية التي يعملُ فيها المئات تصل موادها للعشرات فقط.

تأخرت الصحافة السورية الحكومية والخاصّة في محركات البحث لتحلّ في ذيل قوائم المُتابعة، فحلّ محلّها المواقع المدعومة من سفارات دول غربيّة، والمواقع التي تتلقى تمويلات مجهولة المصدر مع بعض المواقع والاذاعات المحليّة التي تُحاول وتحاول بصعوبة. المطلوب هو اعداد استراتيجيّة جديدة للصحافة الرسميّة، وإعادة إصدار للصحف الورقيّة ولو بنسخ محدودة، والمطلوب تبديل العقول التي تدير العمل الإعلامي، لقد انتهى زمانُ التعتيم والتجاهل والقفز من فوق الأحداث، انهُ زمن التفاعل واحترام الجمهور وقول الأشياء على حقيقتها والرّدُ على ما يُطرح ويُقال ويُشاع وليس نسيانهُ وتجاوزه. إنّ كثيراً من الإعلاميين العاملين في المدن الإعلامية اليوم كانوا خريجي هذه المؤسسات، لكن ثمّة من قدّم لهم أجوراً كريمة وهامش حريّات معقولة، ونظماً اداريّة مرنة، فماذا نحنُ فاعلون؟ 

  • مكتبةٌ وطنيّة للبيانات والمعلومات

أيّ مُتابع للشأن السوري وأي صحافي يُعاني من توافر البيانات الحكومية وغير الحكوميّة، مالذي يجعلُ الحكومة تُقفلُ الباب على أرقامها أو تُصعّب الوصول إليها؟ في زمن تسعى فيه الحكومات لكشف كُلّ أرقامها بغية أن تكون حديث الإعلام وتستفيد من متابعته وأفكاره ونقده ومُطارحاته! حتى وزاراتنا قبل عقود كانت تُصدر كتباً سنويّة ونصف سنويّة دوريّة عن أعمالها وأرقامها ومشاريعها، اليوم على الصحافيين أن يدقوا الأبواب لعشرات المرّات لكي يحصّلوا رقماً أو احصائية من البديهي أن تُنشر وتُحدّث باستمرار في المواقع الإلكترونيّة، لقد خلقنا حُراس بوابات لهذه المعلومات والبيانات أسميناهم المكاتب الصحفيّة، فبدلاً من تزويد الصحافة بالمعلومات صاروا يزوّدونها بالأعذار.

نحتاجُ مكتبة وطنيّة الكترونيّة للبيانات والمعلومات، تصبُّ فيها المؤسسات والهيئات والوزارات مالديها، وقتها نستطيع أن نتطلّع لرسائل ماجستير واطروحات دكتوراه وأبحاث أكاديميّة مفيدة لفهم الحاضر ورسم المستقبل، وقتها يكون لكل مواطن حقّ الوصول للمعلومات فلا يكون عرضة للتلاعب والتضليل كلّ ساعة، على افتراض أنّ اعلامهُ المحلّي سوف يُتقنُ مشاركتهُ الحقيقة.

 

  • خطّة تواصل مع المواطنين

على الحكومات المتعاقبة أن تتوقف عن التعاطي مع السوريين كسكان، عليها التعاطي معهم كمواطنين يُحدّدُ الدستور حقوقهم وواجباتهم، بالتالي من واجب الحكومة تحقيق أقضل تواصل ممكن مع مواطنيها، فلتعامل الحكومة (وهذا أضعف الايمان) المواطنين كعملاء لخدماتها ولتُفكّر بخدمة العملاء كما تفكّر أي شركة، ماهو المشهد الذي سينتُج من هذا؟ 

المواطنون أذكى من الحكومات، في هذا الزمان صار صعباً اخفاء المعلومات والتحايل على المواطنين واعطائهم تصريحات غير مفيدة، هذا زمان الشراكة، والمواطنون شُركاء عندما تشرحُ لهم الموقف بحرفيّته وتشاركهم البيانات الدقيقة سيحملون معك، ويبدون أفكارهم وجهودهم للمساهمة في دعمك وتقويتك، والعكس صحيح، كلّما ابتعدّت عنهم زاد لومهم وخسرت ودّهم وضعف انتمائهم. اذاً خطّة تواصل وطنيّة تجمع خطط تواصل فرعيّة، تتضمن توعيّة رقميّة ومشاركة مواطنيّة وترويجاً للنجاحات وفهماً أفضل للاخفاقات ومساحة مفتوحة للحوار والنقاش والاقتراحات، خطة احترافيّة يصنعها الخبراء بمشاركة المواطنين أنفسهم.

  • بُنية تشريعة للإعلام والنشر

تتعدّدُ القوانين الناظمة، كان من المفروض أن تُسهّل الأعمال والممارسة لكنها تحولت لضوابط تمنعُ الابداع وتقيّد الحريات الدستوريّة وتطردُ الأفكار والخبرات، حتى القوانين الجديدة سرعان ما يتمّ تجميد موادها، بالنسيان أو التناسي أو التلاعب بالتعليمات التنفيذيّة، كيف نؤسس صحيفة؟ كيف نرخص موقعاً اعلامياً؟ كيف نفتح دار نشر وكيف نبدأ مركز دراسات؟ عندما تتضح الأجوبة عن هذه الأسئلة البسيطة ويتمّ حصرها وتنظيمها بعيداً عن التدخلات الشخصيّة وغيرها نكون أمام بيئة تشريعيّة تحترم الإعلام والنشر وتنظّمه.

علينا حصر قوانين الاعلام والنشر والصحافة في تشريع موحد عصريّ، لايُصنعُ في مكاتب مغلقة بل في مساحات حوار وتفاعل حقيقيّة لا تحتاج سنوات ولاحتى شهوراً طويلة، مجرّد أسابيع من الجديّة والشراكة والتفهم والفهم المتبادل والايمان الحقيقي بفكرة الحوار وليس التلاعب فيها، ولنستفد من تجارب الدول الأخرى، يكفينا اختلاق خصوصيات وأعذار، علينا المُسارعة للحاق بالمستقبل بدلاً من انتظاره.

  • ميثاق وطني للمؤثرين

أعجبنا أم لم يُعجبنا صار الرأي العام يُحرّك من المواقع الاجتماعيّة، وصار يلعبُ هذا الدور نجوم وفنانين ومُراهقين وأفراد من سويّات اجتماعيّة وأخلاقيّة مُتباينة، وصارت السطحيّة والتفاهة طريق الوصول الكبير للملايين، وصار التفكير والتحليل العميق متروكاً وهامشيّاً يحصلُ على اعجابات معدودة وتعليقات نادرة. 

المطلوب من الوزارة التفكير بشكل مختلف، فمالذي يمنعها من إطلاق ميثاق أخلاقي للمؤثرين من داخل سورية على اختلاف محتواهم، يتعهدون فيه بعدم الترويج للأشياء المنافية للأخلاق والمخالفة للقانون والمضيّعة للمراهقين، يتعهدون فيه بعدم المساس بالخطوط الحمراء (ويمكن تعدادها لاتمويهها) التي تهدد النسيج المجتمعي والأخلاقي، وليكن ميثاقاً اختياريّاً طوعياً وليس فرضاً اجبارياً، وليستمدّ قوّتهُ من بنوده وموقعيه. وليُدرك المتابعون أنّ كُلّ من لم يوقع على هذا الميثاق هو خطر محتمل على أبنائهم فتخلقُ ردّةٌ مواطنيّة تجاه المسيئين فيحظرون محتواهم ويلغون مُتابعتهم ويركزون على صنّاع المحتوى النافع لهم.

  • حمايةُ الصحفيين والصحفيات

علينا البدء من اتحاد الصحفيين وتطوير عمله ليكون حامياً ومدافعاً وداعماً عن كلّ صحافي في سورية مهما كانت وسيلتهُ التي يُمارس فيها الصحافة والإعلام، ولتكن الوزارة قائدة هذا التطوير، ورائدته ولتكن الوزارة المُدافع الأول ونحنُ هُنا لانخترعُ أدواراً جديدة بل نكرّس واجبات الوزارة ومواد الدستور. 

علينا التطلع للصحافيين كلّهم، وليس صحافيي الإعلام الرسمي فقط الذين تضيق هوامشهم كُلّ يوم أكثر، علينا أن لانسمع مُجدداً عن اعتقال صحافيّ على اثر مادة كتبها إلا بعد تحرّ حقيقي، ولا اثر رأي شاركهُ في المواقع الاجتماعيّة أو في وسيلته الإعلاميّة، فالدستور كفل ذلك لكلّ مواطن أصلاً، هل تستطيعُ الوزارة حماية الصحافيين واطلاق رقم ساخن لشكاويهم واصدار تعميم مشترك من الجهات المسؤولة للحصانة وعدم التعرّض أو الاعتقال إلا بعد التنسيق مع الوزارة والتحرّي بشكل جيّد قبل اتخاذ أيّ اجراء من هذا النوع الذي يُخالف الدستور ويتمُّ فيه الافراط في الامتثال لتطبيق المواد القانونيّة. 

  • السوق الإعلاميّة المحليّة

مالذي يمنع سورية من التحول إلى فضاء جاذب للإعلام والإعلاميين، مثلاً من خلال مدينة اعلاميّة حرّة يكون لها قوانين وشروط خاصة، ماذا لو بدّلت سورية والسوريين العمل عن بعد كجزر انتاج وتصميم وكتابة ومكاتب خلفيّة للقنوات العربيّة والأجنبيّة (كما يعمل الالاف داخل سورية حالياً) إلى شركات إعلاميّة بمكاتب معروفة وواجهات صريحة وضرائب محددة وتبادل خدمات بالعملات الأجنبيّة مع الخارج بشكل مشروع؟ 

لماذا لانفهم الإعلام كسوق رابحة ونُصرّ دوماً على تحميل عبئه وخسائره للموازنات العامة المُتعبة أصلاً، لماذا نحتاجُ كُلّ هذه الطوابق الفارغة للمؤسسات الإعلاميّة بدلاً من استثمارها؟ ولماذا هذه الأعداد الألفيّة من الموظفين الذين لاعمل لهم ولا اختصاص، بل ويُركّبون عبئاً يوميّاً في نقلهم ورواتبهم مهما كانت زهيدة ومكاتبهم التي يشغلونها بلا عمل؟ لماذا لانُفكّر بتشغيل هؤلاء برواتب كريمة وبانتاجيّة مدروسة ومؤشرات قياس واضحة. 

  • فضاء اعلامي مفتوح 

يعني ذلك أن لا وسائل إعلام ممنوعة من العمل في سورية إلا وفقاً للقانون، يعني ذلك وصول الصحف والمجلات العالمية، الحجب صار شيئاً من الماضي، كل شيء موجود اليوم على الانترنت فلماذا لانجدهُ في أكشاك بيع الصحف التي أقفل معظمها؟ لماذا نودُّ دوماً المشاركة في الملتقيات والمؤتمرات والمنتديات الإعلاميّة في الخارج لنُناقش قضايا البيئة والمرأة والمساواة والذكاء الصناعي وغيرها ونحنُ لاندير ولا نفتح ولا نوافق ولاندعم نقاشات وحوارات محليّة حول أولوياتنا في كلّ مكان من سورية، متى نُغيّر طريقتنا من التأثّر للتأثير، علينا أن لانخاف من فتح الحريات الإعلاميّة بل احتضانها وحمايتها، لنُسهم في تهيئة مواطنين أكثر وعياً وتفكيراً نقدياً وشراكة حقيقيّة مع المؤسسات العامة والخاصة والمدنيّة على حدّ سواء.

ربّما أغفَلت النُقاط العشرة السابقة عشرات القضايا ومئات الأمثلة وآلاف الأمنيات، لكنّها مجرّد مساهمة في التفكير وتأمّلات مرجوّة تُساعدنا في فهم الواقع المُعقّد وتفكيكه، وذلك بهدف تطويره وتحويله باتجاه مستقبل يكون فيه لكلّ مواطن دور ليس في أخذ حقوقه كاملة فقط بل وفي أداء واجباته وحبّة مسك.

وسيم السخلة 

06/10/2024

الناعم هويّتنا في سورية، وغربتنا خارجها

عندما تقرر أكل الناعم، أنت تلقائياً تُقبلُ على رحلة مجهولة النهاية، فيها شيئ مؤكد وحيد، أنها سعيدة

تخيّل وأن تمسك شيئاً تعرفُ أنه سينكسر، سيملئ أصابع يديك بالدبس، وسوف لن تعرف أن تقسّمه كما تفعل مع الخبز أو مع الكعك، فقوّة وهشاشة الأجزاء في رغيف الناعم غير متساوية، بالتالي فأنت عندما تقسمه لنصفين قد يقسمُ نفسه لعشرة أجزاء، واذا قررّت أن تأخذ كسرة صغيرة قد تجد ثلث رغيف بين يديك.

العشوائيّة التي يشكلها الناعم في ارتفاعه وانخفاضه كأنها صحراء لحقتها عاصفة بالأمس، أما سيول دبس العنب أو دبس التين، أو دبس الخروب، فعلى اختلاف ألوانها وكثافتها تجري كأنهار وسيول، وقد تشكّل بعض التجمعات القاتمة، وأنت تأكل الناعم قد تجد واحة من الدبس، فإذا وصلتها وجدّتها واحة بالفعل وليس وهماً كما يحدث في الصحراء.

الناعم مرتبط بالجماعة، في ذات الوقت هو مأكول فرديّ، ولا أدلّ على ذلك إلا فكرة أكله رغم الشبع، حيث يسعى كلّ فرد لاقتطاع حصّته وعدم التأجيل، لأنهُ يعرفُ مسبقاً أن فرداً آخر من العائلة سيقضي على حصته ولن تفيده أي معاهدات سابقة تسري على باقي الحلويات أو الفواكه، أو حتى تلك العادات الإجتماعية، سيأكلون رغيفك ولو كنت أنت الأب.

ليس للناعم قياس واحد، ولا لون واحد، ولا سعر واحد، كما أنه ليس له ارتفاع معيّن وبالتالي فقد اخترعوا علباً للفلافل حتّى، ولكنهم عاجزون عن اختراع علبة للناعم، ليس للناعم تاريخُ صلاحية لأنه لايبيت أصلاً، فلا بسطة ناعم إلا وتنفّق ماعندها قبل الفطور، ولا منزل يبقى فيه الناعم أبعد من أذان العشاء، الناعم بعد الفطور سلعة مفقودة لاتجدها في الأسواق ويخبّئها الناس أمام زوارهم، ويبقون قلقين من أن يتسلل أحد أولادهم للمطبخ فيرى الناعم فوق رؤوس الفرن، غير قابل للاختباء في خزانة أو براد.

الدبس فوق الناعم هو لوحة تشكيليّة، يستحيلُ أن تعاد مرّتين، كما أنّ لكلّ بسطة طريقتها في وضع الدبس، فمنهم من يدوّر الشوكة الخشبيّة الكبيرة ومنهم من يأتي ويذهب بها بشكل متوازي، ومنهم من يقاطع الخطوط كشبكة ومنهم من اخترع طرقاً سريّة أخرى بحيث يقنع الشاري أن الرغيف ممتلئ وأن زيادة الكميّة تزيد المرار وتُذهِبُ العقل.

القرمشة في نهش الناعم مسموحة، لاتشبه أي قرمشة أخرى، انها قرمشة ذات صوت منخفض، ناعم، يتضائل تدريجيّاً حتى يختفي ويختفي معه همّ صاحبه وتذمّره، فتجد الجميع بعد أكل الناعم لايفكرون في شيء، بل تتشكّل أماهم شلالات بألوان العسل وتنبسط أمامهم سهول صحراويّة مذهّبة رائعة لايشعرون فيها إلا باللذة وينسون معها عذابات الصيام.

هناك اعتقاد قديم أنّ الناعم كان تحليةٌ للنخبة من رجال الامبراطوريات العظيمة، وهو الذي مكنهم من المحافظة على قوتهم وذكائهم وهو سببُ انتصاراتهم في المعارك وغرف النوم، وهو سبب الخصوبة والحياة والمستقبل والمتعة الأصليّة، جرّب تشارك هذه الكذبة مع أحد يأكل الناعم، لن يناقشك بالطبع لأنه أرضى غروره للتو ببعض الناعم.

أما المغتربون، فهم لايشتاقون في الحقيقة إلى الناعم، بل يشتهونه، ولايشتاقون إلى تصبّغ أصابعهم بالدبس فقط بل يبكون لأجل ذلك، لم تعوضهم كلّ المحاولات الفرنسيّة والبلجيكيّة في انتاج حلويات اللذة، كما لم تعوضهم الأوروبيات عن بنات البلد، فتجد أخواتهم وأمهاتهم يقضون قبل الظهر في مجموعات الفيسبوك النسائية وبعد الفطور يذهبون للتراويح لمعاينة الفتيات فيعدن إلى الواتساب لوصف العروسات المتوقعة لأبنائهم.

هكذا هو الشرق، ناعم في رمضان

وسيم السخلة، رمضان 2022

10 ملامح سلبيّة رافقت المجتمع المدني السوري في العقد الماضي!

نما (ربّما نشأ من جديد) المجتمع المدني خلال العقد الماضي بشكل كبير في سورية، وبعيداً عن جدليّة التسمية فإننا نعني هُنا مختلف الكيانات المجتمعيّة والمبادرات والفرق والجمعيات والمؤسسات المرخصة وغير المرخصة في مختلف الجغرافيات داخل وحول سورية.

بالطبع كان للمجتمع المدني أدوار كبيرة وهامّة جداً لتحسين حياة السوريين خلال العقد المأزوم والمعقّد، نودّ هُنا تدوين بعض الملامح السلبيّة علّها تكون دروساً مستفادة للعمل المدني السوري في قادم الأيّام

الوكالات الحصريّة

تعتقد بعض المجموعات أنّ موضوعات وقضايا معيّنة واحتياجات أساسيّة العمل عليها حكر لها، ولايجوز دخول لاعبين جدد لسدّ الإحتياجات أوالعمل في هذا المجال، إلا من خلال الانضمام لهذه المجموعات أو العمل بإدارتها، من منطلق سخيف بأنهم من عملوا أولاً على ذلك وربّما لسنوات متعددة.

مع السوق منسوق

لايتوقف أفراد ومجموعات عن ركوب الأمواج المدنيّة الجديدة، التي تجتذب التمويل والاهتمام، بالطبع لايعني هذا تقييد حريّة الناشطين في الإنخراط بقضايا جديدة ولكنّهُ دعوة لأخذ القضايا بجديّة أكثر والتخصص لإغناء القضايا والأهداف، ودعوة لتجاوز السطحيّة المعرفيّة المفرطة هذه الأيام بين ناشطين كُثُر. (لاتناقض مع النقطة السابقة، إنّهُ خيط رفيع يجب إدراكه.

ديكتاتوريّة القُدامى، كهنة العمل المجتمعي

يلعب بعض الأشخاص أدوار الكهنة الذين لايتغيّرون (شباب وكهول على حدّ سواء!) وهم يُسيطرون على جمعيات ومؤسسات كبيرة ويديرون أصغر التفاصيل فيها لصالحهم ووفق أهوائهم ولمصالح عائلاتهم وربّما مؤسساتهم التجاريّة، إنّهم يلعبون بالإنتخابات كما يلاعب الأطفال مكعّباتهم، يدّعون قيماً ويتجاوزونها، إنّها تُعجب المانحين الذين أصبح موظفوهم شركاءاً لهم أحياناً!

دكّانة الحجّي

هذا النمط من الأعمال قد يشمل الأعمال العائليّة والمقصود به هُنا التحكّم وإدارة العمل بطرق قديمة تقليديّة، ربّما النوايا خيّرة وصادقة إلا أنّ هذه الطريقة بالعمل تعتمد الولاء المطلق وتبدد الموارد ويحكمها الفردانيّة والشخصيّة والكلمة الواحد التي لايجب نقاشها لصاحب العمل/المؤسسة الكبير، إنها نموذج موازي للورشات الصناعيّة التي تبقى محلّها ولاتتطوّر بمرور الزمن وتنتهي بغياب أصحابها.

فزعة يا جماعة

تعمل كثير من المجموعات وفق مبدأ الحاجة الملحّة والإستجابة السريعة، وهذا مميّز مهم وأساسي إلا أنّ حالة المفاجأة المستمرّة والإندهاش المصطنع في ظروف متكررة تتحوّل إلى حالة لتضييع الموارد وغياب الشفافيّة والأرقام بحجّة الإستجابة، كما أنها تشمل فرص للتلاعب وتبييض الأموال وتلميع الشخصيات.

تمييع القضايا

يلجأ كثير من الناشطين للعمل في قضايا لايعتنقونها بالفعل، لأنهم ببساطة يحتاجون للعمل والأجور والإستمرار، هذا الأمر يجعل كثير من العاملين في القضايا لايعرفون عنها الكثير بل وتبدو تفسيراتهم متناقضة على الرغم من عملهم وفق نفس النماذج والأهداف إلا أنّ التنفيذ وفهم العمليات يكون مختلف تماماً ما يجعل النتائج متضاربة.

بعضها ليس إلّا مؤسسات حزبيّة!

من المفهوم انتماء ناشطين مدنيين لأحزاب سياسيّة هذا حق طبيعي، لكنّ انتماء كيانات مدنيّة تدعي الإستقلاليّة هو أمرٌ مريب، وقد نجدُ جمعيات ومؤسسات مدنيّة هي حزبيّة تعمل مع مستفيدي الحزب السياسي وعائلاتهم، بالتالي فهذه الجمعية تتموّل حزبيّاً وتروّج لأهداف الحزب/الحركة في أيّ منصات مدنيّة قد تناقش قضايا إنسانيّة.

نعمل مع جماعتنا فقط

للأسف درجت أعداد كبيرة من الجمعيات على العمل مع طوائف معينة أو في مناطق محددة، ليس من باب تقسيم العمل وإنما تقسيم الجماعات على أسس الانتماء السياسي والعرقي والطائفي والمناطقي في ضرب واضح لمبدأ العمل لأجل الإنسان الذي من المُفترض أن يكون بديهيّاً.

شغل بازاري

يُعرف الشغل أو المنتج البازاري بأنّهُ المشغول بلا اتقان وهو دوماً قابل للعطب وغير مفيد، يمتنع عنهُ الناس ولايُقدم عليه الحرفيين المعروفين، هذا في الأسواق التجاريّة، كذلك في المجتمع المدني السوري كثير من الخدمات المقدمة هي خدمات غير مفيدة ورديئة وقد تسبب مشكلات أعتقد من تلك التي تُحاول حلّها، ينسحب هذا على ما يُقدّم معنويّاً (بعض الدعم النفسي مثلاً) وفي المُقدَّمات العينيّة للمحتاجين!

نحنا غير انتو

تمتنع كثير من الجهات عن الإنضمام لشبكات أو مجموعات لتعزيز الوصول وزيادة الجدوى، فنجد مشاريع متطابقة مع نفس المستفيدين والسبب الإمتناع عن التنسيق والعمل المشترك خوفاً من انجذاب المانحين نحو جهة على حساب أخرى أو لغياب الثقة من أساسها، وربّما قلقاً من الشفافيّة والتغيير والجيل الشاب.

هذه الملامح ليست كُل شيء، هناك عشرات الملامح الإيجابيّة التي نفتخر بها ونعمل على تعميمها وتعظيم أثرها

وسيم السخلة

13/06/2021

المدينة التي تمنّت السلامة لكل الناس، سلامتك يا حلب

لايمكنك أن تُقابل أحداً من حلب إلا وسيتمنّى لك في بداية ونهاية حديثه السلامة، ميت السلامة خيّو/أخوي والوجوه الحلبيّة حامية ودافئة وكلامهم عن المدينة والحرب يُشعرك أنك بحاجة لضمّ المدينة وأهلها، ببساطة هذه المدينة تمّ تخريبها، والحياة هُناك ثمّة من حاول تعطيلها لكنّ الهمّة الحلبيّة تتجاوز ذلك مع كلّ إشراقة صباح يتوجه فيه الحلبيون إلى ورشهم لإعادة تصنيع حياتنا، حلب هي مصنع سورية. في بعض المشاهدات أحاول إجمال المدينة كما لمستها هذه المرّة

على أمل أن يعبر السوريون نحو خلاصهم

1. الطريق إلى حلب أصبح أقصر مما نعتقد

في السنوات الماضية التي زرتُ فيها حلب كان الطريق مرهقاً جدّاً وطويلاً جدّاً، أما في هذه المرّة ومنذ إعادة تشغيل الطريق الدولي نحوها كاملاً أصبح آمناً وأصبح سهلاً بلا مطبات وبساعات أقل وعبر رحلات منتظمة للبولمان يمكننا مثلاً الذهاب من دمشق إلى حلب ذهاب أو عودة بمبلغ 4500 ل.س (للقرّاء من خارج سورية المبلغ يعادل أقل من 2$ في وقت كتابة هذه التدوينة) والسفر في كرسي مريح وعبر شركات متعددة، والمفاجأة الألطف أن تشغيل القطار مع دمشق سينطلق خلال أيام!

دَرب حلبْ

2. إلى “ورشة” لو سمحت

شريكي الأساسي في حلب هو أنطون مقديس، تعرّفت إليه منذ سنوات في دمشق وجمعتنا مشاريع وأحلام أجزم أننا لو أردنا تحقيقها سنحتاج قرناً جديداً على الأقل، وصلتُ ليلاً ودعاني أنطون لمقر ورشته الفنيّة والثقافية وسمّاها “ورشة” دخلت إلى المكان الذي فاجأني بديكوره البسيط والمبتكر، طاولة تتوسط الصالة على طريقة الورشات تحيط بها الكاميرات واللابتوبات والكتب، بالإضافة لبعض الأدوات القديمة التراثيّة، اسمعتُ إلى المجموعة التي تحضّر حلقة جديدة من برنامج “بلا معنى” ودارت نقاشاتنا المعقدة الطويلة المؤجّلة منذ سنة على الأقل. استطاع أنطون خلق أجواء لإنتاج ثقافي يشبه المدينة ولعلّ قصته المطبوعة “مغامرات جوري” باكورة مهمّة من هذا النتاج إلى جانب مجتمع سماور وبرامج ورشة الأخرى.

العدد الأول من مغامرات جوري، يمكن طلبه من “ورشة”

3. خيو هي مفتاح البيت، صرت جاري

رغم أنّ الوقت كان قد تأخّر إلا أنّ والدة أنطون ريما وهي صديقتي أيضاً كانت ما تزال تنتظرنا، تأكدت أنّ لديّ ما أحتاج للنوم في المنزل المجاور الذي سأقطنه خلال تواجدي في حلب، وكان لابدّ من بانوراما للحياة في حلب قبل وخلال الحرب على ضوء الشموع ومع رائحة دخان أنطون (الكريهة) حمرا طويلة. هذه العائلة رفضت الرحيل رغم إمكانيّته، ريما تتنفّس حلب كما عائلتها.

الأسواق التقليدية والحلويات الشعبية

4. باركود للمراسلات في ديوان وزارة التربية

في الصباح توجهت إلى مديريّة التربية لإتمام أوراقي الرسميّة التي تمكنني من حضور صفوف مدرسيّة كجزء من أدوات رسالة الماستر الخاصة بي، اللطيف أن مديرية حلب هي الوحيدة بين المديريات التي زرتها و يتضمن ديوانها المركزي باركود تمّ إلصاقه على الكتاب، وبالتالي تخلّصوا هناك بالفعل من سجلات الصادر والوارد وأصبح كل هذا ملف إلكتروني في صالة تبتسم لك الموظفات فيها بتهذيب على طريقة شركات الإتصالات المتقدمة.

مبنى للمعارف من أيام العثمانيين يتم ترميمه في محيط قلعة حلب علم،أدب

5. مساحة عمل رائعة في حلب!

أتابع إنجازات الأصدقاء وأعمالهم وكلّي ثقة بأهميّة ما يقومون به، ولكنني وبصدق لم أتصوّر أنهم تحدّوا ظروف كثيرة ليبدأوا مساحة عمل أنيقة في المدينة لاتفرق كثيراً في أهميتها عن مساحات العمل في المدن التي زرتها خارج سورية، إلا أنّ ما يميّزها أيضاً أسعارها المعقولة والكراسي المريحة، الانترنت كان ممتازاً والكهرباء لاتنقطع، كما أنها مساحة للقاء أصدقاء وزملاء عمل جمعهم انقطاع الكهرباء وربما إحدى صالات الإجتماعات المتاحة. المثير أيضاً أنّ الصورة التي وضعتها من الخان وجد فيها بعض الأصدقاء المسافرين واجهات مكاتبهم السابقة أو بيوتهم في نفس الحارة تماماً، هذه حلب في كلّ جزء منها يتشارك الكثيرون الذكريات والحاضر والمستقبل. زوروا صفحة الخان على فيسبوك

الخان من جديد على الطريقة الحلبية

6. سهرة البربارة الدافئة

في ليلة البربارة كنّا على موعد مع سهرة دافئة في بيت أنطون، حيث دعت العائلة أصدقاء أولادهم وتحلّقنا حول الشيمونيه لتناول المأكولات اللذيذة التي صنعتها والدة أنطون، وكوني نباتيّاً فلم يكن من الصعب إيجاد أطباق تناسبني رغم حفلة الشواء على الأسطوح، السليقة كحلوى تقليدية تصنع في هذا اليوم المبارك كانت حاضرة أيضاً ورغم انقطاع الكهرباء التي جاءت أخيراً فقد جعلت حرارة العيد وابتسامات الأصدقاء من تلك الليلة ليلة مميزة وحنونة.

السليقة، حلوى البربارة التقليدية

7. معلّمة وطنيّة تتحدى ظرف ال60 طالب في الصف

لم يخطر لي على بال أن تكون المدارس التي قصدتها تضمّ أكثر من 60 طالب في كلّ صف مدرسي، لقد كانت مفاجأة غير سارّة رغم مرور سنوات على استعادة المدينة ووجوب إصلاح المدارس المتضررة. الجميل أنّ مدرّسة مادة تربية وطنيّة فاجأتني بأنها تعلّم دروسها وفق طرق تعلّم حديثة كاستخدام مجموعات العمل والبطاقات الملونة، وبشخصيتها الجميلة تستطيع ضبط صف يضم هذا العدد الكبير، اذاً هذه معلّمة تحدّت ظرفاً صعباً وتستطيع من خلال ساعاتها في المدرسة تحقيق ما نحلم به جميعاً من صفوف غير تقليدية تعتمد العمل الجماعي.

صف دراسي في حلب ومعلّمة رائعة

8. عند مطعم أبو آغوب وحنّا كعدة في مقهى الشباب

ربّما أكثر ما يميّز حلب حتى اليوم قدرتها على الصمود، والصمود هنا ليس ذلك المستخدم في الأخبار بل هو صمود الحوانيت والمشارب والمقاهي والمحلات الشعبيّة في وجه نمط الحياة الحديث والفخم والذي بدأت معه دمشق تفقد هويّتها، في حلب ما تزال هذه الفضاءات متاحة لكلّ الناس، رخيصة، ممتعة بدون تكلّف، منتشرة، وتتعاطى مع الزبائن كأصدقاء، على سبيل المثال قضينا سهرة ممتعة وضاحكة وعشاء لذيذ عند أبو آغوب، كما كانت لنا صباحيّة مهمّة في مقهى الشباب ونحن نرى مجموعات المتقاعدين تتحدث بشؤون البلد وتخلطها مع شؤنهم الخاصة بصوت عالي، وكأن المقهى طاولة واحدة، أيضاً كان هناك من جلب الياسمين منذ الصباح ليقرأ مجلّة الموقف الأدبي.

صباح عادي في مقهى الشباب

9. القلعة لجميع الناس

في جولة صباحيّة لمحيط قلعة حلب يوم الجمعة استرعى انتباهي رحلة مدرسيّة لمدرسة مختلطة من ريف المدينة، كانوا يرقصون على موسيقى شعبيّة تُعجبهم، في مكان آخر بائع القهوة المرّة بلباس تقليدي يضرب شعراً مع كلّ فنجان ويغيّر فيه حسب اسم الشارب، في مكان آخر ثمّة من يستمتع بهدوء ويشرب قهوة، مصور جاء مع مودل لتصوير بجانب القلعة، في الأفق أولاد عادوا لتوّهم من فرن الخبز، أما نحن فقد جلسنا للتأمل وأحد ما طلب اسبريسو مع النستله! أيّ مشروب هذا! اذا القلعة للجميع يفعلون بها ما يحلو لهم ويحبونا بطرقهم المختلفة.

يوم الجمعة، عائدون وقد حظيو بخبز الدولة من الفرن

10. بيانو حلب، لا أحد يستطيع إيقاف الأفكار الجميلة

بدأنا بيانو (لقاءات إسلاميّة مسيحيّة) منذ سنوات، وأقيمت نسخ متعددة من بيانو في محافظات مختلفة، كان أنطون شريكاً أساسياً واليوم يقوم بعدّ نسخ بيانو الحلبيّة والتي جاءت مختلفة بعض الشيء، إنّ الأفكار الجميلة تنتشر وهذا ما يجعلني سعيدٌ دوماً أنّ ما ننجزهُ يبقى ويستمر ويتوسع أثره ولا بُدّ أنه يصير أغنى في كُلّ مرّة ومع كلّ شخص وكلّ مجموعة.

من بيانو حلب، عرض فيلم “نوافذ الروح” من تقاليد افتتاح بيانو

هذا ليس كُل شيء عن حلب، لاتكفي حلب مدونات طويلة ولكنّها مجرّد مشاهدات وخبرات أحببتُ تشاركها، ومية السلامة يا جماعة.

وسيم السخلة – شتاء 2020

مواقف وأماكن في زيارتي لحمص، قلب سورية

في مسيرتي الدراسيّة لإنجاز القسم العملي من رسالة الماستر الخاصّة بي كانت حمص محطة أساسيّة لإنجاز الملاحظة المباشرة وحضور صفوف دراسيّة، وفي رحلتي القصيرة جدّاً أحببتُ تدوين 11 من الأشياء اللطيفة في هذه المدينة التي تتوسط سورية وتستحق أن تسمّى قلب سورية ♥️

ربّما تكون حمص من المدن السورية النادرة التي يتوسطها نصب تذكاري قدّمته امرأة سورية أو سمّي باسمها

1. البداية مع سائق التكسي المبتسم!

حطّت بي السيارة التي تشاركتُها مع مجموعة ركّاب من دمشق لحمص في دوار تدمُر، ومباشرة أشرت لتاكسي للذهاب نحو مديريّة التربية دون تضييع الوقت، حددتُ للسائق الأجرة التي سأدفعها نظراً لعدم التزام السائقين بما يظهر على العداد هذه الأيّام، السائق وجد أن الأجرة زهيدة، لكنهُ سألني: انتِ من الشام استاذ؟ فأجبته مستهجناً: نعم فقال لي اتفضل انتِ ضيفنا شرّفت! وبدأ يحدّثني أنهُ يحبّ الشام وهو يضيع فيها وأن حمص صغيرة جداً وعند الوصول حاول رفض أن يأخذ الأجرة على اعتبار أنني ضيف في مدينته، كان صادقاً جداً وكان هذا الموقف بداية لطيفة ليوم جميل، نقدّتهُ الأجرة مضاعفة وتمنّى لي التوفيق في بحثي.

هل تُستخدم هذه المستوعبات المنتشرة لأغراضها بالفعل؟

2. في مديريّة التربية، بخدمك بعيوني أستاذ!

طلب إليّ حارس المديريّة ارتداء الكمّامة قبل الدخول، وفي المكتب المختص بالمديريّة طلب الموظف منّي الجلوس وطلب لي قهوة عندما عرف أنني طالب ماستر، وقال لي أمورك محلولة استاذ، حطّ غراضك عندي وسجّل الكتاب بالديوان لو سمحت. عدتُ لأجد القهوة واستفسر منّي عن عنوان البحث وأعجب به، قال لي أن الموظف الذي أحتاج توقيعه في جولة لافتتاح شيء ما تابع للمديريّة، وطلب إليّ مراجعة مدير التربية مباشرة بعد أن شرح الوضع لمدير مكتبه، ما إن وصلت حتى تمّ تأشير الكتاب ورجعت لأرى الموظف وقد جهز لي الكتاب الموجه للمدارس وبقي توقيع آخر فقط، بعد أن ذهب معي لتوقيعه قال لي: موفق أستاذ شكرته على المساعدة في تيسير الأمر فأجابني: بخدمك بعيوني أستاذ، ياريت تبعتلنا نسخة من البحث بس تخلص.

جزء من الجدار الجميل الذي يستقبلك عند دخول مديرية التربية في حمص

3. هي مفتاح تاني للبيت خود راحتك!

وصلت إلى منزل صديقي جورج زيربة، الذي انتظرني في الخارج، مرّت أكثر من سنة على اللقاء الأخير، كان جورج قد أجل موعد عمله لاستقبالي وبعد التحيّات والأشواق قدّم لي نسخة من مفاتيح المنزل وقال لي: خود راحتك.

إنّ الجولة مع جورج زيربة هي رحلة ثقافيّة كاملة ولو كانت ليليّة

4. صاحب محلّ البقالة يعيد 10 ليرات سوريّة لجورج

اصطحبني جورج إلى السوق المجاور، وطبعاً في تمشاية مع جورج أنت أمام موسوعة ديموغرافية وتاريخيّة وثقافيّة متنقّلة، وعدني جورج الذي يُحاول التحوّل إلى النباتيّة مؤخراً بصينيّة خضار مشويّة في فرن الحارة، اشترى الخضار وبعض الفواكه وكان أن أعاد له البقال عشر ليرات سوريّة معدنيّة، وهي قطعة النقود التي لم أعد ألحظها في التعاملات المالية بدمشق منذ سنوات ربّما.

نبض المدينة والناس

5. ملجأ مُهمل يحوّله المتطوعون لفضاء جميل

اصطحبني جورج لمقرّ مؤسسة بيتي التنمويّة في الحي، وهو يشغل عضويّة مجلس الأمناء فيها وكنت قد تعرّفت إلى بعض أعضائها في مرّات سابقة، سررتُ بتحويل الأرض المهملة إلى حديقة جميلة مزيّنة ونظيفة يرتادها سكان الحي، إلا أنّ المفاجأة كانت بتحويل الملجأ المهمل في أسفلها والذي كان معداً ومغلقاً منذ حوالي نصف قرن تقريباً إلا أنه استخدم في السنوات الأخيرة قبل استعادة المدينة القديمة بأعمال متعددة، لقد قام متطوعوا بيتي بتظيفه وتسمية قاعاته لتكون منتجة وترفيهيّة وتدريبيّة ومفيدة لسكّان الحي أنفسهم، وماتزال أعمال التأهيل مستمرّة، كان جورج يتحدث عن قاعة السينما التي يعملون عليها وكأنّه لن يغادر هذا المكان في حياته أبداً، الصفحة الرسميّة لمؤسسة بيتي للتنمية على فيسبوك

الحديقة المجاورة التي تقوم مؤسسة بيتي بالإعتناء بها في حي الحميدية

6. بيتي للتنمية هي بيتي أيضاً

دخلنا لمقرّ المؤسسة مقابل الحديقة، كان ثمّة اجتماع مسائي للمتطوعين حول مدفأة حطب ذكرتني بالمدفأة القديمة في بيت جدّي في منطقة الفيجة بالريف الدمشقي، سرعان ما تعامل معي الأعضاء وكأنني من المؤسسة وناقشنا بعض الأمور والأفكار ولفتني حقيقة الطيف الديني المتنوع لمتطوعي المؤسسة التي تنشط محليّاً بين أحياء متنوعة، أهدوني في المؤسسة نبتة بفخارة صغيرة، شعرت معها بأنّ بيتي التي تبعد كثيراً عن بيتي هي أيضاً بيتي.

مدخل الملجأ الذي تقوم مؤسسة بيتي حالياً بتجهيزه ليكون مساحة مجتمعية رائعة

7. دار للأوبرا تحوّلت إلى مقهى شعبي

هناك صورة خاطئة بأنّ حمص مدينة تفتقد للحيويّة، وبمجرّد دخولك للمقاهي الشعبيّة مثل الفرح الذي أعرفه سابقاً والروضة التي تعرّفت إلى صالتها المغلقة للمرة الأولى ستكتشف أنّ الناس يتجمعون ويمارسون طقوس القهوة من لعب للورق وتناول المشروبات والتدخين في دار كانت مصممة لتكون دار أوبرا في 1922! أيّ قدر رمى بهذا الصرح المميز والذي تبدو عليه التفاصيل الرائعة لتتغيّر مهمته إلى مقهى شعبي.

الصالة الشتوية لمقهى الروضة وسط حمص

8. مساحة عمل صديقة جداً DOORS

اصطحبني صديقي توفيق عثمان إلى شركته التي تسكُن في عقار قديم وجميل عمره حوالي نصف قرن، دورز هي شركة هندسيّة ولكنّ توفيق حوّلها لمكان مناسب للدراسة والعمل والنشاط المجتمعي، كما زودها بالأدوات اللازمة وحافظ على هويّة العقار فتبدو شركة في منزل ومنزل في شركة، يمكنكم متابعتها على فيسبوك! دورز

من الأسطوح اللطيف لمساحة دورز – صورة من فيسبوك

9. سلسلة كتيّبات بسيطة اسمها: وفاءاً لهم

لفتت نظري مكتبة دار الإرشاد في شارع عبد الحميد الدروبي، دخلت لمطالعة بعض العناوين فخرجت ببعض الكتب، لكنّ أكثر ما لفتتي واقتنيت بعضاً منه هو سلسلة بسيطة اسمها: وفاءاً لهم، فيها يتحدثون وبشكل مبسّط وصغير ودون تكلّف فني عن شخصيات أو أماكن في المدينة، مثل طبيب الفقراء أنيس المصري (1926-2014) والذي نشط في جمعيّة البر والخدمات الإجتماعية الشهيرة في حمص، كم نحنُ بحاجة لهذه التفاصيل لإعادة إغناء ثقتنا بمجتمعاتنا الصغيرة والكبيرة وتقديم النماذج للتعلّم والمشاركة. أيضاً خرجت بكتاب عن الأحزاب والجمعيات والصحف أيام العثمانيين في حمص، ولعلّ أغرب مالفتني أسماء بعض الصحف القديمة مثل جريدة “ضاعت الطاسة” 1910 وجريدة “جراب الكردي” 1914!

شارة جريدة ضاعة الطاسة الحمصيّة 1910

10. الأصدقاء الذين نصدفهم في الشوارع وكأننا في حيّنا

تكرر الموقف عدّة مرات أثناء جولاتي على المدارس أو في الأسواق، أدرك تماماً أن حمص تبدو صغيرة كمدينة علماً أنها كبيرة كمساحة إداريّة ولكنّ الملفت أنّ كلّ الأصدقاء الذين صادفتهم في الطريق وأغلبهم التقيت بهم في تدريبات سابقة، أو ورشات أو عندما كنت مسؤولاً عن المتطوعين الشباب في تنظيم الأسرة كانت تجمعهم حرارة الإبتسامة، الناس ودودون وفي فترة إقامتي القصيرة للأسف لم أستطع تلبية سوى دعوات قليلة من عشرات الدعوات اللطيفة.

من حديقة ومقهى نقابة الفنانين التشكيليين في المدينة

11. أمسية غناء أوبرالي رائعة، في مسرح قصر الثقافة

من الصدف السعيدة أن ألاحظ إعلاناً لأمسية غناء أوبرالي سيعزف فيها على البيانو المحبب لنا ميساك باغبورديان قائد الفرقة السمفونيّة الوطنيّة، دخلنا إلى المسرح المهيب في حمص وخلال أكثر من ساعة كنّا في حضرة الجمال والروعة، كانت أصوات كل من رشا أبو شكر وميخائيل تادرس مع البيانو تشكل جو رائع، وكان وقتاً ساحراً نقل الحضور إلى القرون الماضية لسماع قصص كلاسيكيّة أوروبيّة بأصوات سوريّة مهمّة.

من عرض أمسية الغناء الأوبرالي في مسرح قصر الثقافة

هذه المشاهدات ال11 ربّما هي جزء بسيط من مشاهدات أخرى حظيت بها على الرغم من الوقت القصير في المدينة لأن الزيارة كانت لأغراض دراسيّة هذه المرّة، في كلّ مرّة يزيد شعوري بالتعلّق أكثر في هذا البلد المشرقي الجميل كما كان يسميه دكتورنا الراحل سمير اسماعيل.

وسيم السخلة / شتاء 2020

قبل أن تدخل سبيستون، كانت الأتاري

كان الزمن جميلاً. هذه خلاصة بسيطة تماماً ومباشرة، لم تكن حلقات الصراخ والحماس حول تلفزيوننا الصغير الرمادي والبيج والموصول إلى لعبة أتاري متواضعة عبثاً، كانت الحياة، هذه المتعة الخالصة لم تعد تضاهيها متعة أخرى الآن، بالنسبة لي على الأقل.

حصلت على هذه الرائعة بالأمس بعد 20 سنة مرّت

الشرائط الصفراء غالباً والرمادية أحياناً كنّا نحملها كما نحمل اليوم أغلى ما نملك، الشرائط قد تعلّق وترتفع حرارتها فنعاجلها بالنفخ على طرفها، ثم نعيد النفخ ونعيد، حتى تعاود العمل، كم تملك من الأشرطة؟ هذا كان رصيدنا في تلك الحياة الماضية، ولربّما كُسر أحد هذه الأشرطة يوماً فاكتشفنا نقطة سوداء على دارة الكترونية خضراء حسبناها في البداية عطل أصابه لنكتشف لاحقاً أنّها الشريط أصلاً؟

لم يكن الحصول على لعبة أتاري – وهذا اصطلاح شعبي لكل أنواع الأتاري من انتاج سيجا ونتيندو وأتاري وكوليكو وغيرها- إلا غاية الغاية لنا، كنا ننجح بالمدرسة لأجلها، نعم كنّا ننتظر علامات جيدة ليس لأننا نحبّ العلم بل لأن الأتاري وعدٌ يُستحق في حال النجاح، حتى دخلت سبيستون ونيو بوي بعدها وغيرت حياتنا، أو لربّما كبرنا فجأة وصرنا نذهب لنقتل بعضنا في ألعاب كاونتر ستراك وهايف لايف ولندمر دولنا بالسلاح النووي الذي حرّمناه في بداية اللعبة حتى نبني مدناً عسكرية تصنّع الجنود في لعبة ريد أليرت طويلة.

الأتاري ليست لعبة فرديّة، كنّا نجتمع سبعة وقد نصل لعشرة أو أكثر، البناء الذي نسكنهُ في دمشق لم يكن بناءاً تماماً، ترك جدّي الشاغور واشترى أرضاً في دمّر، عمّر بيتاً كبيراً تقريباً في هضبة متوسطة تسمّى اليوم الحارة الجديدة وتحيط به أرض الديار وبحرتها كانت تعمل في أغلب الأوقات، ثم قرر جدّي تزويج أعمامي فاقتصّ كلُ واحد منهم جزءاً من السطح وأنشأ عائلة، كنا محظوظين بالتأكيد أن عائلتنا الصغيرة هي من سترافق جدّي وتبقى في البيت الكبير، لم يكن يوماً بيتنا لوحدنا، كان بيت العائلة ولهذا أرض الديار كانت للجميع وكان أولاد العم يملؤونها نهاراً حتى يصيح جدّي من شباكه أو يُخرج عكازه من الشباك ذاته مهدداً، فيهرب كلّ منهم إلى بيته، لم يكن الشارع ملعبنا، كانت أرض الديار وصالون بيتنا الحارة الأساسية لأولاد العائلة جميعهم.

إلى منزلنا حضرت الاتاري لأوّل مرّة من أولاد عمّنا في بيروت، كانت سوداء فيها زرّين أزرقين، واحد للتشغيل والآخر لإعادة التشغيل، لا أعرف لماذا استغنوا عن زرّ إعادة التشغيل في الأجهزة الحديثة اليوم، من كان يضع يده على زر إعادة التشغيل كان يهدد كلّ اللاعبين ليحظى ربّما بدور “دق بالإصطلاح الشعبي” ولهذا فإن أي طفل يضع يده كان يهددنا بالفعل وخاصة اذا كنّا قد وصلنا وختمنا مراحل متعددة أو كان التنافس في أشدّه، هل تذكرون تلك اللحظات التي يهدد بها طفل أصغر منكم أهم ما تقومون به في حياتكم الماضية؟!

كان بيت عمّي رياض أوّل من يحضرون الأجهزة الحديثة في العائلة، من الكومبيوترات والموبايلات والمكيفات وغيرها، أحيّ عمّي رياض أجرئ من في العائلة لتجربة الأشياء الجديدة، كانت لديهم الأتاري السوداء ماركة أتاري الكبيرة الأصلية مع يد التحكم التي تشبه “فرام الإيد” وكان لدى بيت عمّي طارق أتاري نتيندو لونها خمري، أما نحن بعد السوذاء فقد اشترينا الكيبورد البيج والرمادي عندما تفوّق أحدنا في صفّ مدرسة، على الأغلب اشتريناه من مضايا ولكنه لم يزد شيء عن السوداء القديمة سوى بأزرار الحروف و برشاش نصوّبه إلى الشاشة ونقتل البطات التي كانت تطير بسرعة، فيخرج منه ضوء ليزر أحمر قيل لنا وقتها أنه يصيب بالسرطان ولذلك علينا استخدامه باتجاه الشاشة فقط.

كان يبلغ سعر الشريط في بدايات الألفية في سورية حوالي 60 ليرة سورية، ما يساوي اكثر من دولار في وقت كان مصروفنا اليومي العادي يتراوح بين 10 و25 بحسب اليوم، أيضاً يوم الخميس كنت أحظى ب 50 ليرة على الأقل لممارسة تسالي نهاية الأسبوع، هذه ال50 ليرة كانت تكفي سهرة كاملة دورين كاونتر سترايك ” تيمين بالإصطلاح الطفولي!” مع شبرقة على سندويشة سناك جاهز أو كولاية تنك مندرين وغالباً على طعم الفينيتو!

كانت الفرحة بشراء شريط جديد، تساوي ضعفي فرحتي عندما اشتريت أوّل جهاز أيفون منذ سنوات، الفرق البسيط أنّه كان يمكنني في كل أسبوع تقريباً الشعور بهذه النشوة ولكنني قد أحتاج سنة كاملة لمجرّد التفكير اليوم في تبدل جهازي الأيفون بآيفون أحدث منه.

الأتاري لم تكن لعبة، كانت تجربة حياة، ولم تفلح كلّ ترجيات أهالينا لنبعد عن الشاشة لأجل عيوننا، إلا عندما اشترينا يدين للعب أشرطتها طويلة ولكن لم نبتعد كثيراً فشاشة تلفزيوننا صغيرة أما التلفزيون الكبير في علبة الخشب من ماركة سيرونيكس كان في غرفة جدّي وهو مخصص للقنوات الإخبارية والفضائية السورية في مقدمتها وخصوصاً نشرة ال8:30 مساءاً من كلّ يوم.

لعب الاتاري علّمتنا الكثير! كيف ذلك؟

الصبر فقد كنا ننتظر موت شريكنا في اللعب في ماريو مثلاً لأكثر من ثلث ساعة ونراه يتقدم على شخصية لوجي في المراحل! كانت موسيقى الاتاري مميزة، بسيطة رنّانة تُفرحنا عدا نغمة خسارة اللعبة غييم أوفر! الاتاري علّمتنا تقاسم المتعة، لن تستمتع اذا جلست وحدك! علّمتنا المشاركة أعيرني أشرطتك لأن اليوم لدينا أولاد خالتي مثلاً وأنا أعيرك أشرطتي عندما يزوركم ضيوف معهم أولاد.

الاتاري علّمتنا الاقتصاد، لن يشتروا لنا أكثر من أتاري واحدة هذا الصيف، علّمتنا التوفير، وفر من مصروفك لتشتري أشرطة جديدة وتباهي بها، علّمتنا الكثير عن شخصيات أسيوية وصينية وربّما أسماء، كما أنّ ألوانها المحدودة والفاقعة غالباً ستبقى تعني لنا لذّة اللعب والمتعة دوماً

الاتاري كانت في وقت مضى.. كلّ شيء

وسيم السخلة، خريف 2020

الغير مرئي كان أهم ما حدث، يوم التطوع العالمي 2019

سيدّة تراقب طفلاً في الحي وهو يقوم بطلاء جدار منزلها كجزء من مبادرة تطوعية 2017 @waseemz

في أشياء كان صعب ننتبهلا ونحنا جواتا، لما شوي بتتغير ادوارنا منبلش نشوف الشغلات من منظور مختلف، العمل الانساني والتطوعي بسورية خلال العقد الماضي ساعد الناس، هاد كان أهم شي قدم للناس دعم بأشكالوا المختلفة بس بالاضافة لهالشي في كم نقطة خطرولي بمناسبة يوم التطوع العالمي 05-12-2019 حابب شاركن

التجربة! متخيلين قديش في سوريين جربوا يعملوا شي؟ قانون الجمعيات القديم واولويات الحكومة ساهمت بغضّ النظر والتغاضي عن سنوات من التجارب بنجاحاتها وأخطائها عفكرة

التعرّف، قديش في سوريين تعرّفوا ع مناطق، ع بعض، ع اهالي، ع سورية، ع العادات والتقاليد واضطرّوا يفهموا ويفاوضوا

كسر احتكار جمعيات النخب الطائفيّة والمدينية (وهالشي إلو آثار ايجابية وسلبية معاً)

خلق مئات الجمعيات والمؤسسات الجديدة بعناوين وأهداف مختلفة إلى حد ما عن جمعيات العقود الماضية

بناء القدرات يلي صار لآلاف المتطوعين من كتابة سيرة ذاتية وحتى إدارة المنظمات غير الربحية، أجزاء كبيرة منن أعادت استثمار هي المهارات بأعمال خاصة وحياتا الأكاديمية والعملية

الاختلاف! فينا نتخيل حجم وعدد الانشقاقات يلي صارت بالفرق والجمعيات، وولدت لاحقاً كيانات جديدة كلّياً واكيد هالشي ما كان كلّو ايجابي بكل المطارح والأوقات

تعميم وتعويم شعارات جديدة، صار في ناس بمختلف المناطق تحكي مفاهيم متشابهة، هلأ في طرق فهم مختلفة أكيد بس في كتير مفاهيم أيضاً صارت بديهيات لمجموعات من الناس منتشرة

تدوير الأموال يلي صار، سواء بين برا وجوا او بين جوا وجوا هالشي خلق فرص عمل لآلاف الناس، بنفس الوقت يلي حسّس آلاف الناس بإنن قدموا زكاة وخُمس وتبرعات وخلافو

الابتكار، ابتكروا الناس كتيرأساليب ليوصلوا لمناطق ولشرائح، تعلموا شغلات جديدة كلّياً

خلايا العمل يلي تشكلت بكل مكان تطوعي، تقسيم المهام والمسؤوليات وحتى الانتخابات أومشاعر الناس بالتسلط  بكتير مطارح

مجالات عمل جديدة كلياً على عدد ضخم من الجمعيات، نفض الجمعيات وإعادة تشكيلها، زيادة اعداد أعضائها وزيادة تنافسن ع السلطة/المسؤولية فيها

اكتساب السوريين مهارات التجمع والحشد والتعبئة يلي رح تساعدن يبنوا أحزاب وحركات سياسية بس يكون المناخ أكثر ملائمة

العبور عن الطوائف وخاصّة بالتجمعات الشبابيّة، هلأ في كتير عالم رح يفضلوا يصنّفوا الجهود التطوعية بس بحالة معقدة متل سورية اختلط السياسي بالديني بالإنساني

السفر، قديش ناس سافرت واتعرّفت وتعلّمت، كان رح يكون صعب ع كتير متطوعين أخدو فرص سفر انن يكونوا قادرين يزور بلدان بقصد السياحة أو التعليم

مفاوضة السلطة، اختبروا كتير متطوعين كيف يفاوضوا السلطة بكل معانيها، الأهل، المجتمع، الحكومة، كيف ويشرحوا لعنصر الامن يلي جاي ع نشاطن بالحديقة مثلاً شو عم يعملوا، وهيك لحتى يقابلوا اعلى المسؤولين بالدولة والحكومة ويحاولوا يكسبوا مساحات جديدة وفرص تفاعل كل مرّة

كسر خطوط الصراع – أحياناً- من خلال المشاريع المشتركة بمختلف المناطق ولمختلف الناس

جلب ملايين الدولارات من الخارج يلي ساهمت بتغذية المصرف المركزي بالعملات الأجنبية وابقاء سعر الليرة أقل تدهوراً، أي أموال رسمية بتتحول لسورية بياخدا المصرف وبيحولا للمنظمات بالليرة السورية، أيضاً التمويلات عبر الحدود ساهمت بضخ عملات أجنبية بالسوق

تشكيل وخلق انتماءات جديدة وهالشي الو أبعاد سلبية وايجابية، التطوع ساعد الناس تتكتّل وتنظر لنفسها ككيانات متوازية واحياناً متنافسة

المشاعر الإيجابيّة يلي اتولدت من خلال شعور المتطوعين بالانجاز من الصور يلي أخدوا أو مشاعر الناس لما ساعدوا، هالشي ساهم بإنن يضلوا يحسوا بالقيمة رغم كل السواد يلي كان عم ينتشر

كان عقد قاسي وصعب بس كمان كان مليئ بالطاقة السوريّة، وبكفّي

 

وسيم السخلة
ناشط ومؤسس في عدّة كيانات مجتمعيّة سورية

© 2024 Waseem Al Sakhleh

Theme by Anders NorenUp ↑