أبدأ بتدوين هذا الحديث من مقهى عتيق في وسط دمشق، مقهى الكمال الصيفي، من النافذة الكبيرة هُنا أستطيع رؤية خطوط سكة الترامواي التي أوقف العمل بها قبل نصف قرن. إلى جانب المقهى سينما الكندي التي افتتحت مطلع القرن الماضي وتعلن عن حفلتين لعروض سينمائية يوميّاً لكنها في الحقيقة فارغة يوميّاً، حتى أنّ الباحثين عن مكان مظلم لا تستقبلهم، فالمسؤول عنها يعرفهم من وجوههم، كما قال لي مرّة.
*كُنت قادراً على استخدام الصور لكل جملة من الآتي، لكنني أفضل ترك تصور ذلك لخيالكم، فأنتم أيضاً أهل وسكان المدينة وتعرفونها، كما أفترض، وإن كان هذا الحديث عن دمشق فإنه ينسحب على مختلف المدن في سورية حسب ما اختبرت.
تغيّرت المدينة، تضيقُ يوميّاً المدينة التي نتخيّلها، فتعالوا نُلاحظ معاً ما حدث ويحدث.. قد تكون التكملة ترفاً فإذا شعرتم بذلك توقفوا عن القراءة، قد تكون مُملّة..
لقد ضاقت الأرصفة وصارت عالية!
جربوا المشي اليوم في المدينة، كم تستطيعون الاستمرار؟ هل ما زال التجول مُمكناً؟ لقد ضيّقوا الأرصفة القديمة التي كانت تُناسب تجول أربعة أصدقاء إلى جانب بعضهم، اليوم كُل الأرصفة الحديثة لا يستطيع فيها رجل وزوجته أن يتجاورا في المشي، على أحدهما أن يسبق الآخر..
لقد قطّعت أوصال الأرصفة وصارت جزراً ولم تعد مساراً متصلاً، أيضاً نقلوا الأشجار لوسط الرصيف فصار لزاماً النزول إلى الشارع والصعود منه مع كل شجرة، ولم يكتفوا بذلك، بل قلّموا الأشجار جيداً ويواظبون على ذلك أكثر من تنظيف المصارف المطرية، وبعد أن يقلموها يختفي الظلّ تماماً ويصيرُ المشيُ في هذه الأرصفة المليئة بالحفريات مرهقاً في الصيف، مستحيلاً في الشتاء.
كانت الأرصفة تعلو الشارع بارتفاع موحد، اليوم لكل رصيف معاييره، وبات التنقل من الرصيف إلى الشارع يحتاج انتباهاً أكثر خصوصاً إن كنت تسير مع أطفالك، بالمناسبة اذا كان ابنك رضيعاً وقررت التنزه معه أو الذهاب إلى موعد ووضعته في عربته قد يكون هناك خطورة، العربة لا مسار لها فالرصيف ترتفع وتهبط بلاطاته الشاحبة (التي كانت ملونة) ـ حكماً ستهتز العربة بشكل مزعج، لا تستهِن بذكريات الصغار عن هذه اللحظات، فانا أتذكر كيف كان بعض الأطفال يرموننا بالحجار ونحن داخل القطار ذاهبين إلى عين الفيجة.
أيضاً تختفي الحواف من الأرصفة، لقد تمّ تحطيمها أو بناء جدار محلّها أو وضع الحديد الشائك عليها بحيث لم تعد الاستراحة ممكنة وأكثر شعور يتملّكك أنه عليك المشي بسرعة ولا يمكنك التمهّلُ أبداً، رغم أن الاستمتاع في المدينة جزءٌ منهُ مشي فيها..
بالمناسبة، كُل هذا هو عمّا بقي، فالأرصفة تختفي يوميّاً، إن لم يأكلها الرصيف فتأكلها السيارات التي تعتبر الرصيف كراجاً لها، ولا تتوقف الوقاحة بتجاوز بعض الرصيف، بل بأخذه بكامله لصالح السيارات في كثير من الشوارع، أيضاً بعض الناس يسرقون أطاريف الأرصفة وأحجارها!
ليست السيارات فقط، أيضاً البسطات المكررة، وكراتين البسكويت وبرادات الكولا والأكشاك التي تتجاوز المساحة المرخصة لها بعشر أضعاف.. جرّبوا محاولة المشي من جسر الرئيس إلى البرامكة مثلاً، اذا استطعتم المشي بدون تحرّش أو تعثّر أو مشكلة، فأنتم مُباركين.
يكفي الحديث عن الأرصفة، تعالوا نحكي عن الحدائق، مادامت المدينة قد توسعت كثيراً، فلماذا بقيت الحدائق محدودة؟ ولماذا بقيت على المخططات في المناطق الجديدة؟ وما الذي تغير في الحدائق القديمة؟
أبواب الحدائق الكبيرة التقليدية مغلقة دوماً، ستجد فقط بابا صغيراً فتح إلى جانب الباب الأصلي، الباب لا يرحب فيك تجد عليه لوحة عليها تعليمات تشبه التعليمات الامتحانية في جامعاتنا..
ممنوع إدخال الكرات! ممنوع إدخال الحيوانات الأليفة! ممنون المشي على العشب! ممنوع إدخال الطعام والشراب! ممنوع إدخال الدراجات! ممنوع قطف الزهور، وممنوعات أخرى.. المسموح فقط هو الدخول والجلوس في كرسي غير مريح أبداً، يبدو أنّهُ تمّ تصميمه ليكون غير مريح!
كانت الحدائق في الماضي تضمّ طاولات حجريّة حولها مقاعد أو قعدات نصف مدوّرة، وفي أسوأ الأحوال كانت توضع الكراسي العريضة الخضراء إلى جانب بعضها، فكان من المُمكن أن تأتي عائلة او عائلتين للاستمتاع في الحديقة العامة. اليوم كراسي أقل لا تتقابل ولا تتجاور كأنها منافي فردية، أسوار عالية للحدائق وهذا لا يعني بالطبع أنها آمنة..
كُل هذا عما بقي من حدائق أصلاً، بعض الحدائق احتلّت المطاعم والنوادي أجزاء واسعة منها كحديقة تشرين وبعضها تمّ نبشهُ لأجل كراجات طابقيّة، وبعضها تغيّر للأبد. بعض الحدائق باتت موصومة بأنها بؤر غير أخلاقية، بالتالي بعد أن كانت الحدائق للجميع صار الجميع يهرب منها، وبات نادراً أن تواعد صديقك في الحديقة أو تأخذ أطفالك للتنزه فيها فأنت لا تحب بالطبع أن يُشاهد أطفالك شاب وفتاة يقبلون بعضهم، (نعم نحنُ نقبل ذلك فقط على الانترنت لكننا نُحاولُ تجاهله عموماً فيهرب العُشاق إلى دور السينما والحدائق، هرباً من محيطهم).
بالمناسبة، حتى مناهل مياه الفيجة النظيفة الجميلة التي المخصصة للشرب في الحدائق باتت محدودة جداً، أو معطّلة، بالمقابل فإن أي حديقة ستجد على بابها كشكاً يبيع المياه المعبأة بضعفي تسعيرتها.. حتى أنها تحمل نفس اسم النبع الذي يسقي كُلّ المدينة.. مياه الفيجة.
لقد تغيّرت الأماكن الدينية أيضاً، المساجد صارت للصلاة والدروس المحدودة فقط، كانت المساجد منارات مفتوحة دوماً، اليوم تفتح وتغلق قبل وبعد دقائق من الصلوات، وكذلك الكنائس. أيضاً التكايا وسبق الخيل (أرض المعرض القديم) التي أوقفت لترحب بالعابرين صارت مطارح للاستثمار وأسواقاً تقليدية وبازارات وهياكل فارغة.
وأين المقاهي الشعبية، إنها تختفي لتتكاثر المقاهي الجديدة، المكلفة!
كانت المقاهي متنفس الناس للقاء والتجمّع والحديث والتسلية وتداول الأخبار وتأسيس الجمعيات والتفكير المشترك والسرد القصصي، وكانت دوماً رخيصة وأسعارها مقبولة لأي شخص ولو كان عاطلاً عن العمل، ولم يكن فيها تمايز طبقي كبير، فهي في نهاية المطاف طاولات خشبية وكراسي من الخيزران وكان يمكن أن يتواجد في جلسة واحد أكثر من عشرة شخص يضمون طاولاتهم إلى بعضها بدون اذن فهذا ما كان عادياً وهم قادرين على سماع بعضهم البعض وليسوا مضطرين لدفع ضرائب أو دفع مبالغ زيادة على مشاريبهم وأراجيلهم.
اليوم باتت المقاهي الجديدة بطاولات أعرض تجعل سماع الشخصين المتقابلين مشوشاً أحياناً، وأكبر طاولة يمكنها أن تتسع 6 أشخاص وهم حكماً لا يستطيعون سماع بعضهم بشكل جيد، فالكراسي لم تعد ضيقة، بل بات لها أطراف وأحياناً تكون الكراسي عبارة عن كنبات عريضة لا يمكن معها أن يجلس أكثر من 4 أشخاص لمائدة واحدة.
صارت المياه في المقاهي مدفوعة بعد أن كانت أباريق مجانيّة، وصارت اجبارية (لا يحدث هذا في الدول الأخرى بالمناسبة)، كما صارت هناك حدود دنيا أحياناً وصار زبون الطعام مقدماً على زبون الشراب، وفي مناسبات معينة صار الاحتفال بميلاد صديق تلحقه تكاليف خدمة وفي بعض المناسبات تجد تسالي رمضان الإجباريّة، انا لا أعرف شعباً مجبراً على التسلية مثلنا!
يطول الحديث عن تحولات المدينة، الساحات الكبيرة عديمة الفائدة، التصاميم والمشاريع التي صرفنا عليها لسنوات طويلة وفشلت كساحة العباسيين، الشوارع التي اشترت نصفها شركات خاصة وصارت مصفّات مدفوعة ووصلت إلى جوار المنازل، المنشآت الرياضية التي تحولت أجزاء منها لمحال بيع السندويش والدجاج، أنفاق المشاة المظلمة منذ تمّ إنشائها، التصاميم الغبية في فصل الشوارع كما في منّصف شارع الثورة، ألوان الأضواء المتنافرة (إن تمّ تشغيلها)، روافد الأنهار التي صارت مكبّات زبالة، أدراج الجسور التي صارت ملك المتسولين وباعة الدخان، النهر الذي ما عاد نهراً وصار ساقية لشهرين في السنة، وعشرات التحولات الأخرى.
مع الأسف في زحمة صعوبات الحياة تُباع المدينة برضا سكانها ومشتروها هم أيضاً سكانها بالمناسبة، أهمل الناس حقوقهم في المدينة، وظنّوا أن بيع المساحات العامة أو التحايل في بيعها شرط لازم لتطوّرها، ففي الوقت الذي تشكل المساحات العامة فيه أهم مميزات المدن تجدنا نتخلّى عنها ونضيّقها يوماً بعد آخر.
في المدن القديمة والتاريخية يفتخر الناس بالأنهار التي تقطعها والحدائق والساحات والشواطئ وباحات الأماكن الدينية الواسعة، أما نحن فباتت المجمعات التجارية والمقاهي الغربية والمباني البشعة الزجاجية التي لا تشبه المدينة هي ما يدلّ الناسُ عليها ويعتقدون أنها الأفضل.
سندرك عندما نستريح أن الرجوع إلى الوراء صار مستحيلاً والمدينة باتت مجرّد فوضى لا تشبهنا، وهذا قد يُفسر اتجاهنا في مواقع التواصل الاجتماعي لمشاركة صور المدينة في تاريخها الحديث الأنيق، هذه المشاهد يُمكننا استعادتها وليس البكاء عليها فقط.
وسيم السخلة
دمشق 2023
Leave a Reply