كان الزمن جميلاً. هذه خلاصة بسيطة تماماً ومباشرة، لم تكن حلقات الصراخ والحماس حول تلفزيوننا الصغير الرمادي والبيج والموصول إلى لعبة أتاري متواضعة عبثاً، كانت الحياة، هذه المتعة الخالصة لم تعد تضاهيها متعة أخرى الآن، بالنسبة لي على الأقل.
الشرائط الصفراء غالباً والرمادية أحياناً كنّا نحملها كما نحمل اليوم أغلى ما نملك، الشرائط قد تعلّق وترتفع حرارتها فنعاجلها بالنفخ على طرفها، ثم نعيد النفخ ونعيد، حتى تعاود العمل، كم تملك من الأشرطة؟ هذا كان رصيدنا في تلك الحياة الماضية، ولربّما كُسر أحد هذه الأشرطة يوماً فاكتشفنا نقطة سوداء على دارة الكترونية خضراء حسبناها في البداية عطل أصابه لنكتشف لاحقاً أنّها الشريط أصلاً؟
لم يكن الحصول على لعبة أتاري – وهذا اصطلاح شعبي لكل أنواع الأتاري من انتاج سيجا ونتيندو وأتاري وكوليكو وغيرها- إلا غاية الغاية لنا، كنا ننجح بالمدرسة لأجلها، نعم كنّا ننتظر علامات جيدة ليس لأننا نحبّ العلم بل لأن الأتاري وعدٌ يُستحق في حال النجاح، حتى دخلت سبيستون ونيو بوي بعدها وغيرت حياتنا، أو لربّما كبرنا فجأة وصرنا نذهب لنقتل بعضنا في ألعاب كاونتر ستراك وهايف لايف ولندمر دولنا بالسلاح النووي الذي حرّمناه في بداية اللعبة حتى نبني مدناً عسكرية تصنّع الجنود في لعبة ريد أليرت طويلة.
الأتاري ليست لعبة فرديّة، كنّا نجتمع سبعة وقد نصل لعشرة أو أكثر، البناء الذي نسكنهُ في دمشق لم يكن بناءاً تماماً، ترك جدّي الشاغور واشترى أرضاً في دمّر، عمّر بيتاً كبيراً تقريباً في هضبة متوسطة تسمّى اليوم الحارة الجديدة وتحيط به أرض الديار وبحرتها كانت تعمل في أغلب الأوقات، ثم قرر جدّي تزويج أعمامي فاقتصّ كلُ واحد منهم جزءاً من السطح وأنشأ عائلة، كنا محظوظين بالتأكيد أن عائلتنا الصغيرة هي من سترافق جدّي وتبقى في البيت الكبير، لم يكن يوماً بيتنا لوحدنا، كان بيت العائلة ولهذا أرض الديار كانت للجميع وكان أولاد العم يملؤونها نهاراً حتى يصيح جدّي من شباكه أو يُخرج عكازه من الشباك ذاته مهدداً، فيهرب كلّ منهم إلى بيته، لم يكن الشارع ملعبنا، كانت أرض الديار وصالون بيتنا الحارة الأساسية لأولاد العائلة جميعهم.
إلى منزلنا حضرت الاتاري لأوّل مرّة من أولاد عمّنا في بيروت، كانت سوداء فيها زرّين أزرقين، واحد للتشغيل والآخر لإعادة التشغيل، لا أعرف لماذا استغنوا عن زرّ إعادة التشغيل في الأجهزة الحديثة اليوم، من كان يضع يده على زر إعادة التشغيل كان يهدد كلّ اللاعبين ليحظى ربّما بدور “دق بالإصطلاح الشعبي” ولهذا فإن أي طفل يضع يده كان يهددنا بالفعل وخاصة اذا كنّا قد وصلنا وختمنا مراحل متعددة أو كان التنافس في أشدّه، هل تذكرون تلك اللحظات التي يهدد بها طفل أصغر منكم أهم ما تقومون به في حياتكم الماضية؟!
كان بيت عمّي رياض أوّل من يحضرون الأجهزة الحديثة في العائلة، من الكومبيوترات والموبايلات والمكيفات وغيرها، أحيّ عمّي رياض أجرئ من في العائلة لتجربة الأشياء الجديدة، كانت لديهم الأتاري السوداء ماركة أتاري الكبيرة الأصلية مع يد التحكم التي تشبه “فرام الإيد” وكان لدى بيت عمّي طارق أتاري نتيندو لونها خمري، أما نحن بعد السوذاء فقد اشترينا الكيبورد البيج والرمادي عندما تفوّق أحدنا في صفّ مدرسة، على الأغلب اشتريناه من مضايا ولكنه لم يزد شيء عن السوداء القديمة سوى بأزرار الحروف و برشاش نصوّبه إلى الشاشة ونقتل البطات التي كانت تطير بسرعة، فيخرج منه ضوء ليزر أحمر قيل لنا وقتها أنه يصيب بالسرطان ولذلك علينا استخدامه باتجاه الشاشة فقط.
كان يبلغ سعر الشريط في بدايات الألفية في سورية حوالي 60 ليرة سورية، ما يساوي اكثر من دولار في وقت كان مصروفنا اليومي العادي يتراوح بين 10 و25 بحسب اليوم، أيضاً يوم الخميس كنت أحظى ب 50 ليرة على الأقل لممارسة تسالي نهاية الأسبوع، هذه ال50 ليرة كانت تكفي سهرة كاملة دورين كاونتر سترايك ” تيمين بالإصطلاح الطفولي!” مع شبرقة على سندويشة سناك جاهز أو كولاية تنك مندرين وغالباً على طعم الفينيتو!
كانت الفرحة بشراء شريط جديد، تساوي ضعفي فرحتي عندما اشتريت أوّل جهاز أيفون منذ سنوات، الفرق البسيط أنّه كان يمكنني في كل أسبوع تقريباً الشعور بهذه النشوة ولكنني قد أحتاج سنة كاملة لمجرّد التفكير اليوم في تبدل جهازي الأيفون بآيفون أحدث منه.
الأتاري لم تكن لعبة، كانت تجربة حياة، ولم تفلح كلّ ترجيات أهالينا لنبعد عن الشاشة لأجل عيوننا، إلا عندما اشترينا يدين للعب أشرطتها طويلة ولكن لم نبتعد كثيراً فشاشة تلفزيوننا صغيرة أما التلفزيون الكبير في علبة الخشب من ماركة سيرونيكس كان في غرفة جدّي وهو مخصص للقنوات الإخبارية والفضائية السورية في مقدمتها وخصوصاً نشرة ال8:30 مساءاً من كلّ يوم.
لعب الاتاري علّمتنا الكثير! كيف ذلك؟
الصبر فقد كنا ننتظر موت شريكنا في اللعب في ماريو مثلاً لأكثر من ثلث ساعة ونراه يتقدم على شخصية لوجي في المراحل! كانت موسيقى الاتاري مميزة، بسيطة رنّانة تُفرحنا عدا نغمة خسارة اللعبة غييم أوفر! الاتاري علّمتنا تقاسم المتعة، لن تستمتع اذا جلست وحدك! علّمتنا المشاركة أعيرني أشرطتك لأن اليوم لدينا أولاد خالتي مثلاً وأنا أعيرك أشرطتي عندما يزوركم ضيوف معهم أولاد.
الاتاري علّمتنا الاقتصاد، لن يشتروا لنا أكثر من أتاري واحدة هذا الصيف، علّمتنا التوفير، وفر من مصروفك لتشتري أشرطة جديدة وتباهي بها، علّمتنا الكثير عن شخصيات أسيوية وصينية وربّما أسماء، كما أنّ ألوانها المحدودة والفاقعة غالباً ستبقى تعني لنا لذّة اللعب والمتعة دوماً
الاتاري كانت في وقت مضى.. كلّ شيء
وسيم السخلة، خريف 2020
Leave a Reply