*نُشر هذا المقال إلى جانب بعض المقالات المُختارة في كتيّب تم انتاجه في ختام المدرسة الصيفية 2020 حول المواطنة والحركات الإجتماعية والتي أقامتها جامعة القديس يوسف في بيروت، يمكن الإطلاع عليه من الرابط: اضغط هُنا

هل تُعيدُ الثورات إنتاج ما انتفضت عليه أحياناً من إقصاء للآخر وتفرّد بالقرار و شموليّة في التفكير وصهر للاتجاهات؟

هذا هو أكثر ما يشغلني الآن وأنا أرى ما يحدث من حولنا في الشرق، لأنني أتفهم الغضب الذي يدفع الملايين للتحرّك في كلّ مكان، وأعيش المعاناة التي يثورون عليها في كل ساعة فإنني أدرك أيضاً كيف يضمرُ فينا الإحساس بالآخر المختلف ونبدو كسيل جارف جماعي يريدُ خلاصاً سريعاً، وهذا السيلُ الذي هو نحنُ نؤمن جميعاً أنّهُ يحتوينا جميعاً ولكننا نغفل حقيقتهُ.

والحقيقة تبدو قاسية كما هي في كلّ مرّة، ليس الجميع متفقين على كلّ شيء، وهذه الحقيقة تحملُ إنسانيّتنا نحن البشر المختلفون، قد لانتفق على الثورة وقد نتفق عليها ونختلف في الوسيلة ونختلف في التوقيت، وقد لا يكون توصيفنا واحداً ولا هدفنا واحداً ولو تلاقينا في الشارع كلّ يوم ولو رفعنا لافتات ترضينا جميعاً..

المواطنون والمواطنات في كلّ مكان متنوعون في طرق اهتمامهم ومشاركتهم في المجال العام، منهم من يفضّل الأحزاب السياسية لذا فالقول أنّ زمنها انتهى هو محضُ وهم، منهم من يفضل الركون لمرجعية دينية أو طائفية ومهما ادّعينا  العلمانيّة فإنّها لم تنجز حتى الآن في الشرق، ومازال فهمها مشوهاً، وبكلّ أسف قد لا ننجزها في العقود القليلة القادمة.

هناك من يستخدمون الساحات الحرّة تماماً، وآخرون لديهم مصالح اقتصادية وبعضهم اتجاهات ثقافية، وهناك أجيال كبيرة وأجيال شابّة، مقيمون ومغتربون، من يخاف ومن يقلق، من الناس حولنا من هو منتفع ومن هو مُدان ومن هو متورّط، أن نقول أننا جميعنا ثائرون، هذا افتراض تكذّبه اليوميات التي نعيشها.

الأحداث الكبرى بتاريخ الأوطان لاتُحسمُ بأيام ولحظات ثوريّة فقط ولو بدت هكذا أحياناً ونحنُ نقرأ مقتطفاً تاريخيّاً، إنما النضال لأجل التغيير والتحرر قد يمتد عقوداً حتى تبدو عملية التغيير وقد أنجزت بالفعل وصارت في الضمير الجمعي للمواطنين والمواطنات، قبل أن تكون في حناجرهم فقط، لم يعد يكفي أن نقرر التغيير وأن نغضب بل هو الوقت الأنسب للتحرّك قبل أن نسقط جميعاً ومعاً، في معارك الأوطان لاتربح طائفة أو مجموعة وإنما نخسر وطناً أو نبنيه لنا جميعاً، بالمناسبة هذا ينطبق على كُل وطن في شرقنا الجميل.

هناك نظريات مختلفة في عمليات التغيير وآلياته، لا أودّ مراجعتها في هذا المقال البسيط بل أسعى للقول أنّ الثورة لاتكون ثورة إذا كنّا نراها فقط في الساحات وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، هي ثورة في المكان وفي كلّ مكان، ثورة في عقولنا لتحريرها من رواسب فكرية، وهي ثورة في العائلة الأبويّة وثورة في العمل الذي ينتهك الحقوق وفي الجامعة التي لاتحترم العقول وثورة على كلّ ماهو ظالم وكلّ ما هو اقصائي وشمولي، الثورة فعلٌ ضميريّ أولاً ولو بدا هذا الشعارُ مثالياً جداً، لنغيّر ما حولنا يجب أن نغيّر ما بداخلنا.

لكي نبني أوطاناً نرضاها علينا أن نفهم الآخر المختلف، الذي لا يشاركنا اللحظة ولكنه يشاركنا المعاناة، لربما كان ضحيّة ما نحاربهُ نحن فبدا أنه جزءٌ منه، علينا أن ندرك أننا مسؤولون عن انخراطه معنا وليس النظر إليه كخصم وطرف الآخر، كيف نختلف على الوطن معهُ؟ إنّ واجباً على كلّ ثائر في أي سياق أن يأخذ بيد الآخرين وخاصة إذا كانوا من نفس البيئة التي ينتمي إليها و يتشاركون معه المواطنة والحقوق والواجبات، صناعة الأوطان العادلة لا تقوم بها فئة دون أخرى ولا حركة اجتماعية واحدة، بل هو مدّ الأيادي بين الجميع لخلق واقع ومستقبل جديد، الأجيال القادمة ترتّبُ علينا مسؤوليات أخلاقية فيها تنازلات وفيها تضحيات يجب أن تأخذنا نحو إرادة جمعيّة نعمل فيها معاً ونرتّب المستقبل سوياً.

ما أراهُ وأسمعهُ اليوم وكلّ يوم يجعلني أكثر قلقاً على وحدة البلد أولاً في ظل بعض الطروحات الإنفصالية، ويقلقني أكثر على استقلال البلد ونحن نرى الارتماء والاستقواء في الأجندات الإقليمية والدولية، كما أننا نخاف جميعاً من اشتعال حرب أهلية كان الناس يتغنّون منذ أشهر أنهم قد دفنوها إلى الأبد عندما نزلو معاً. التغيير في بلد وظروف معقدّة يحتاج لتعاطي استثنائي، هناك فرص متعددة، بدءاً من الانتخابات البلدية والنيابية مثلاً، كيف ينظم المنتفضون أنفسهم لهذه الاستحقاقات القادمة؟ هل تُترك الساحات مرّة أخرى للأحزاب والجماعات الدينية المنظمة والتي تحترف هذه الآلية الديموقراطية لدرجة أننا جميعاً نشعر أنها ليست في أيدينا ولا فائدة مرجوّة منها؟

إنّ النهج الإقصائي الذي بدأ يظهر في خطابات بعض من نصبّبوا أنفسهم متحدثين باسم الثورة أيضاً يهدم ولا يبني، كيف نكذّب الناس الذين نزلوا في كلّ مكان والذين كانت مطالبهم واضحة وجليّة وباتت تُختصر الثورة وأهلها ببعض حسابات وسائل التواصل الإجتماعي ممن لديها قدرة على تمويل ودعم وصول المنشورات؟ هل باتت مجموعة من محترفي استخدام وسائل التواصل الاجتماعي هي الثورة؟ التي تقسّم وتُقصي وتسيء وتتفاوض لدرجة أنّ الخطاب الإقصائي بين بعض القوى المدنية بات أسوأ من خطابات السلطة وهي تأكُل بعضها.

كان قدرُ الحراكات الشعبيّة دوماً أن تحميل وزر الانهيارات، ويتم تحميلها مسؤوليّة الهشاشة الإجتماعية وهذه الخطابات التقسيمية أحياناً والإتهاميّة مرّات كثيرة، ولهذا على الثورة أن تنقذ نفسها، ولابدّ من التحضير للاستحقاقات القادمة، إن الركون لتأثير وسائل الإعلام ووسائل التواصل الإجتماعي على الناخبين هو رهانٌ غير محسوم في بلاد تحكمها الطوائف، فلا يجب نسيان أنّ الأحزاب السياسية التقليدية لديها أجهزتها ومؤسساتها الطائفيّة\ الحزبية\ المناطقيّة ولا يمكن تجاهل حجمها وأدوارها بل يجب السعي يجديّة هذه المرّة لتكون الانتخابات فرصة الثورة فتزيح بها بالقانون والدستور ما أزاحته الساحات من خوف وقلق بين الناس، لم يعد هناك رفاهيّة للانتظار، هذا زمنُ الحرائق، كلّ شيء حولنا يحترق فلنعمل معاً لأنّ الحريق يمتد، وهذا قدر جيلنا انها معركة الهويّة الوطنية الجامعة والتي لم تُنجز سابقاً فهل ننجزها اليوم في أوطاننا؟

 

وسيم أكرم السخلة \ بيروت 2020

غلاف الكتاب الصادر عن المدرسة الصيفية