يلزمُ سورية أشياء كثيرة، من أبرزها تجربة المستخدم وأسميها هُنا تجربة المواطن، تغيب مع الوقت وتُنسى تماماً في بلد مأزوم منذ تأسيسه، مُحاصر دوماً يعيشُ مواطنوه الانتظار أبداً.
تعرفُ تجربة المستخدم بأنها كلّ ما يرتبط بسلوك وموقف وإحساس المستخدم حيال استخدامه منتجاً أو نظاماً أو خدمةً معيّنة. وأنا هُنا أقترحُ تعريفاً لتجربة المواطن يشبهُه، فهي كلّ ما يرتبط بسلوك وموقف وإحساس المواطن حيال تعاملاته الحكوميّة والرسميّة.
ولكي لانغرق في التنظير الإداري لنأخذ مثال تحدّي النقل العام في سورية، وهذا تحدٍّ لايُدركهُ مسؤولوا بلد يُقدّم سائقين وسيارات وقسائم محروقات مُجزية لكثير من موظفيه في المؤسسات العامّة والمنظمات الشعبيّة أيضاً. كما يمنحُ الوزراء وغيرهم من المسؤولين قي مستويات مختلفة صلاحيّة التصرّف في توزيع السيارات الموجودة في المؤسسات باعتبارات مختلفة ومتنوعة، منها الولاء ومنها الضرورة ومنها المحسوبيات نفسها.
هذا مثال بسيط يجعلُ من استخدام وسائل النقل العامة في سورية مسألة تخصّ العامة فقط، فالمسؤولون بالفعل لايدرون عن التحديات اليوميّة للتنقل في سورية، حتى معظم أولادهم يحظون بسائق فلا يمرّون في هذه التجربة وإلا لما كان الوضع عليه!
كذلك هُناك من يُنجزُ للموظفين الحكوميين معاملاتهم الرسميّة أغلب الأحيان، فلايُدركون صعوبة مشي شارعين لإحضار طابع أو العودة في اليوم التالي، أو انتهاء الدوام بالنسبة لموظف عند الساعة 12 أو لتصوير هويّة للمرّة الألف، أو لشراء مُصنّف سحاب أخضر مقيت، لانحنُ نُحسنُ استخدامه، ولا نحنُ نلغيه ولو وصل التحول الرقمي مواصيله.
الأمرُ لايتعلّقُ بالمسؤولين بالمعنى المُسلسلاتي السوري للكلمة أي أصحاب المناصب والبدلة الرسميّة والمكاتب الخشبيّة العريضة والجرس الالكتروني، بل نعني هُنا كلّ مسؤول في كلّ مستوى، المُعلّم مسؤول الصف الذي لم يجلس مرّة واحدة في مقعد طالبه، والمديرُ في المدرسة الذي لم يُجرّب مرّة استخدام حمامات المدرسة، وشرطي المرور الذي لم يُجرّب مرّة أن يوقفهُ شرطي لأجل اللاشيء بلا أسئلة بلا أجوبة بلا تحيّات فقط لأخذ رشوة باتت أهمّ من مُرتّبه.
كذلك مسؤلوا المنظمات الشعبيّة الذين نسيو فور انتخابهم أو تعيينهم أن يُمثلون الشرائح لا الحكومة، ومشاكلهم التي يسعون لحلّها هي مشاكل من انتخبهم، لا من انتقاهم، وكذلك المسؤولون المحليّون في البلديات، هؤلاء مالذي حصل لعيونهم؟ فلا ترى الحُفر في الطرقات ولا تسوءها القمامة وتراكمها ورائحتها ولا تعنيهم مشاكل الأحياء الكثيرة التي كانوا يعرفونها جيداً ويعتبرون حلولها تحصيل حاصل وصاروا يحتاجون توجيهاً لحلّها أو استقبال وفد شعبي لوعده بحلّها، دون حلّها أبداً.
ينقُص المسؤولون في سورية اجراء تجربة المواطن، أي أن يتخلّوا عن مكانهم ليوم واحد، لساعة واحدة، لاختبار اجراء معاملة في مديرياتهم أو وزاراتهم، ليختبروا تعامل بعض الموظفين، ليختبروا صعوبة الذهاب والعودة والانتطار وتعطّل الشبكة وغياب الكراسي وقذارة الممرات وصعود الأدراج المظلمة وطلبات الموظفين وروائح سجائرهم الكريهة وقدرتهم على استلاب أموالك ووقتك ومواطنتك، نعم فحُبُّ سورية يهزّهُ موظف حكومي يدفعُ بك بعيداً لأنه مشغول بدردشة تافهة أو مهمّة على الواتساب في وقت عمله، أو لأن مديره المباشر زجرهُ أو لأن زميله أخذ اجازة طويلة وهو يقوم بأعماله مُكرهاً.
بالفعل لو توجه المسؤولون لتجربة المواطن لما احتاجوا اجتماعات كثيرة للتخطيط والإدارة، ولا لزمهم خبراء ومستشارون ودورات داخليّة وخارجيّة، لو ينزلوا إلى مؤسساتهم نفسها ويمشون أمتاراً قليلة لصاروا قادرين على معرفة المشكلات وكلّ الحلول، ولما لزمتهم الاجتماعات الطويلة المريرة، ولاستغنوا عن سماع تقريع النواب والصحافيين صباح مساء.
قال رئيس الحكومة قبل أيام داعياً وزراءه لضرورة التفكير خارج الصندوق، وهذا أمرٌ حسن، لكن ماذا لو فكّروا من داخل الصندوق أولاً، من مباني وزاراتهم نفسها، ومن مديرياتهم القريبة والبعيدة، ماذا لو أحصوا كمّ أطنان الأوراق المهدورة، والمصنفات الضائعة، والحبر المُسال اسرافاً في صور هويّات وأختام وتواقيع وتصديقات لا أحد يُدققها ولا يُصدّقها، ماذا لو أدركوا حقيقة المنصات الالكترونيّة للخدمات وجرّبوا اصدار جواز سفر بدور عادي يتعذّر اصدارهُ إلا بواسطة سمسار، الكتروني هذه المرّة وربّما لكلّ مرّة قادمة.
نعم، المسؤولون في سورية أبناء مؤسساتهم وهيئاتهم ومنظماتهم نفسها على الأغلب، لكننا لاندري ماذا يحصلُ معهم منذُ اليوم الأول للسلطة، انهم لايتغيّرون فحسب بل ينسون تماماً ما اختبروه وهذا أمرٌ مُريب على الحكومة التعاقد مع خبراء طاقة وإدارة لمراجعته، هل هو مسٌّ حكومي أو هو فايروسٌ سلطويّ، أم انهُ ضغط عمل كبير يلزمُ مسؤولاً بتوقيع آلاف الأوراق كلّ يومين؟ واذا كان كذلك فمتى تفوّض السلطات؟ ومتى لا تكون حاجة لدوام مسائي يداومهُ بالفعل أكثر موظفو الدولة سواء في مكاتبهم أو في مكاتب الآخرين.
إنّ تجربة المواطن ليست اختراعاً جديداً بل عرضها مسلسل تلفزيوني محلّي منذ 1996 باسم يوميات مدير عام، منذ 28 سنة لليوم، كم مسؤول حكومي فعلها؟
وأنا أُتابِعُ بعجز أخبار الحرائق التي تأتي على غابات الساحل السوري والحراج والمزارع في هذه السنة والسنوات الماضية تذكرتُ دفتراً صغيراً لديّ، دوّنت فيه ذات مرّة بعض الأحلام الصغيرة، ورغم انّني حكيتُ عنها هُنا وهُنا فإنني رغبتُ بكتابة بعضها هُنا، علّها لاتكون أحلاماً فقط!
كل طالب يزرعُ شجرة!
مع التراجع الكبير للغطاء النباتي والمساحات الخضراء في سورية ماذا لو فُرض كشرط لدخول أو اجتياز أي مرحلة تعليميّة (التعليم الأساسي، الثانوية، الجامعيّة، الدراسات العُليا) فلا يتخرج الطالب دون أن يزرع شجرة، فيرُدّ شيئاً من دين البيئة التي استهلك مواردها خلال دراسته، ولتكن هُناك طرق متنوعة لتأكيد هذا التراكم، بحيث تطلقُ الزراعة والتعليم العالي تطبيقاً يُحدّدُ مساحات فارغة في أطراف المدن لزراعتها، ويُمكن لأي طالب تنفيذ هذا الأمر بنفسه ومع عائلته أو من خلال شركات طُلابيّة تُنشأ لهذا الغرض بتكلفة رمزيّة كما هي أسعار الغراس والشتلات، فتزرعُ شجيرة باسم كل طالب ويمكنه معرفة رقمها ومكانها فيزوره في المستقبل مع أولاده، وهكذا مع كُلّ خرّيج لدينا شجرة، وتخيلوا ملايين الخريجين من المراحل الدراسيّة كلّ سنة لدينا.
رحلات توأمة مدرسيّة
جرت العادة أن تكون رحلات المدارس رحلات ترفيهيّة إلى الساحل أو تدمر أو الغوطة، أو إلى القلاع والبانوراما والحدائق، لكن ماذا لو فكرنا برحلات ثقافيّة بين السوريين أنفسهم؟ ماذا لو كان هُناك رحلات توأمة مطلوبة بين مدارس المحافظات السورية، فيزور الطلاب من بلدة في محافظة ما طلاب محافظة في ريف أخرى، وهدف الزيارة التعرّف على اللغة والعادات والأغاني وربّما الطعام والأفكار والمعتقدات، وتُردُّ الزيارة ويعود الطلاب للتواصل من خلال دروس مشتركة أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، فكيف نطلبُ من أجيالنا أن تحبّ بعضها وتكون أقلّ سخرية وتنمراً وهي لاتعرفُ بعضها أصلاً، ماذا لو كانت هذه الرحلات طريقهم الممكن للتعرّف على بعضهم البعض وتقديم أنفسهم، كما نفعلُ مع الأجانب حينما نُبدي أفضل ماعندنا من عروض وفقرات وضيافة، ألسنا أولى بذلك بين بعضنا؟
كل عائلة تُقدّم سلّة مهملات
تبدو مسألة النظافة العامة في شوارعنا ومساحاتنا العامة مقلقة، فلم يعد ينفعُ معها حملات التوعية التقليديّة والإعلانات التلفزيونية والطرقية، ولايُمكن للبلديات بالطبع تخصيص عامل نظافة لكل مواطن، ولايمكنُ أيضاً حملُ المواطنين والسكان على تنظيف الشوارع بشكل يومي أو مُحاسبتهم بشكل عرضي، فلماذا لاتكون كلّ عائلة مُلزمة بتقديم سلّة قمامة توضع في الشوارع والمساحات العامة، نعم هناك نقص كبير في هذه الحاويات لتكلفة تأمينها من جهة ولتخريبها وكسرها من جهة أخرى، وربّما عندما تدفعُ كُلّ عائلة تكلفة سلّة فإنّها تعوّد أطفالها على البذل والمشاركة، وتتوضح أكثر أهميّة الأسرة والفرد كفاعل مجتمعي مفيد ولازم وضروري لتكون الحياة أفضل في محيطنا، ولربّما تُؤخذ هذه المشاركة مع أي فاتورة خدمات عامة وحصراً عبر الدفع الالكتروني.
كُلّ مدرسة تصيرُ مكاناً مُنتجاً
رغم قُبح الأبنية المدرسيّة لدينا في تصميمها الموحد لكنّها أبنية وظيفيّة بالفعل تؤمن مساحات مناسبة للتعليم والتدريب والأنشطة والفعاليات لو أُحسن استثمارها، ولقد جرت العادة أن تعمل هذه الأبنية بأقل طاقتها فتفتح عدّة ساعات باليوم وتغلق، وقليل منها فقط من يُستثمر بعض قاعاته في فصل الصيف، لماذا لانعيد التفكير بهذه المساحات لتكون مُنتجة ورابحة فتُردّ عائداتها لصندوق المدرسة وليس إلى الخزينة العامة، فيُصرفُ منهُ على تحسين وضع المعلمين ومساعدة الطلاب المحتاجين وتحسين البيئة المدرسيّة، لماذا لا نفتحُ في مدارسنا في القبو قاعات سينما محليّة مأجورة برسوم مناسبة تأتيها العائلات في ظلّ انقطاع الكهرباء وتعزز مفهوم العائلة، ليست موسميّة بل في أيام دوريّة أسبوعيّة محددة، لماذا لا نستثمر باحة المدرسة فنؤجرها مساءاً لاقامة الأعراس وحفلات الخطوبة المحليّة والتعازي والاحتفالات الأهليّة، لماذا لا نؤجر قاعات مجهزة في المدارس لإقامة التدريبات والورشات للمعاهد والجمعيات خارج أوقات الدوام، هُناك الكثير من الأشياء المُمكنة التي تدعم العمليّة التعليميّة بموارد موجودة، مُهملة ومنسيّة، هي تحتاجُ لإدارة وفكر ومتابعة.
خُطبة الجمعة والخدمة المجتمعيّة
ماذا لو طلب خطيبُ جمعة من المُصلين التوجه بعد خطبة تحفيزيّة عن دعوة الإيمان للنظافة لتنظيف الحي أو النهر القريب أو المساحات العامة المجاورة، كم سيكون المشهدُ بديعاً لو توجه من يرغب من المؤمنين لتحقيق انجاز محلّي في وقت واحد، لتنظيف الحي، أو لصيانة الأرصفة المتكسرة وتبديل الإنارة المُهملة أو لتنظيف نهر تراكمت فيه الفضلات أو أراض زراعيّة ممليئة بالأعشاب الضارة أو غابات فيها مخلفات قابلة للاشتعال أو مدارس مخرّبة، ماذا لو توحدت خُطبة الجمعة مرّة كلّ شهر لتكون لهذه الغاية، أليست النظافة من الإيمان؟ وكذلك عظاتُ الكنائس بالطبع والمناشبات الدينيّة المتعددة والكثيرة لدينا، ماذا لو فعلنا ذلك، ألسنا بحاجة؟
أسواق الأهالي
مادُمنا فخورين بمطبخنا السوري فلماذا لا نتذوّقهُ كما يجب، فلنُنشئ سوقاً مؤقتة أسبوعيّة ولتكن يوم عطلة كالسبت تحجزُ فيها بعض العائلات أركاناً وطاولات لمشاركة طبخاتها المنزليّة التي هي تعبير ثقافي في النهاية عن انتماء هذه العائلة وأصولها وعاداتها، كل المحافظات السورية مختلطة بالتالي سيكون لكل سوق مساحة منظّمة متنوعة جداً وغنيّة جداً ويمكن زيارة السوق ودخوله بتكلفة مناسبة للوجبات، الهدفُ ليس ربحي تماماً ولو أنهُ مُربح بل هو تشغيلي، العائلاتُ تودُّ مشاركة أفضل ما عندها من وصفات وخصائص واختراعات واضافات، طلاب الجامعات والسياح والأهالي يريدون تجربة أصناف مختلفة بأسعار مناسبة بعيدة عن المطاعم وقوائم الطعام الجاهزة، وليكن المكان كراج سيارات فارغ أو ملعب رياضي أو باحة مدرسة، سيكون الجميع سعداء، ولتنظمهُ البلديات مع الجمعيات وليُعطي الزوار نُقاط تقييم لكل ما يتذوقونه ولتكن هُناك جوائز محليّة انها أهم من أي تصنيفات عبر الانترنت.
QR code عند كُل مَعلَم
في المُدن التاريخيّة تضعُ البلديات لوحات تعريفيّة أمام الشوارع والأبنية والمعالم الدينيّة والثقافيّة والتاريخيّة، وهذه اللوحات تكون غالبا حجريّة أو حتى معدنيّة وهي بحدّ ذاتها أعمالاً فنيّة بديعه تعيشُ لسنين طويلة وكثيراً ما تُختصرُ الزيارات عندها، لربّما نحنُ غير قادرين على تكاليف كهذه حالياً لكننا نعرفُ تاريخنا وتاريخ المكان لدينا أو على الأقل هكذا ندّعي، فلماذا لا نضعُ على الأقل رموز الاستجابة السريعة بجانب معالِمنا، فيعرفُ السوريون أولاً عنها ثم المهتمّون وليس أخيراً السياح والزوار، مع الوقت والهجرة بدأ الناس لايعرفون ماتمثل المعالم والشخصيات التي سُميت بأسمائها شوارع وساحات وحدائق سورية، وتبدو مقاطع الفيديو المُحدثة الreels تقدّم معلومات ليست دقيقة بالضرورة بل ومغلوطة أحياناً، فليكن هُناك بنك سوري لمعلومات المعالم والأعلام (الشخصيات)وليكن لدينا في كّلّ شارع وكلّ بناء تاريخي وغير تاريخي حتى QR cood يُمكن استخدام للوصول لمعلومات موثوقة تزيد من علاقتنا بالمكان، نحنُ أهل المكان لايجدرُ بنا أن لانعرف فلان من فلان.
في النهاية ما أودُّ قوله أنّ هذه الأحلام الصغيرة، مُمكنة! ترونها كذلك؟
منذ سنوات تبدو وزارة الإعلام لدينا غائبة أغلب الوقت، قد يأتي وزراء إعلام ويرحلون دون أن يظهروا ولو لمرّة واحدة في الإعلام، تمضي سنوات أحياناً دون سماع أي تحرّك أو تأثير فعّال لهذه الوزارة، على الرغم من ضخامة جهاز الموظفين التابع لها، أيضاً تتبدّى تعقيدات علاقة الوزارة مع الهيئات التابعة لها أمام الجمهور في كثير من الأحيان.
في ذات الوقت ترزح هذه الوزارة دوماً تحت وطأة الانتقادات وغياب الدور بالنسبة للمواطنين والمعنيين، الذين كثيراً ما يسألون سؤالاً بسيطاً، ماذا تفعل هذه الوزارة؟ وماذا نفعلُ لأجلها؟
بعض الأشياء التي أدونها هُنا هي بديهيّات، وبعضها متعلق بالحالة السورية، ليست كافية، ليست مُرتّبة، لكنها مترابطة، وصار العملُ على تطبيقها اليوم ضرورة لا خيار، هُناك دول متعددة تخلّت عن فكرة وزارة الإعلام واستبدلتها بهيئات أو مؤسسات رشيقة، وقد خطَت سورية هذه الخطوة قبل سنوات لكن سُرعان ما تراجعت عنها، عندما أسّست للمجلس الوطني للإعلام وألغتهُ لاحقاً.
مع تولّي وزير جديد للإعلام مشهود بمهنيّته ومُثابرته ينتظر العاملون في الصحافة والإعلام إدارة أذكى للواقع الإعلامي في سورية، وخلق فضاءات تفاعليّة تحوّل الوزارة من حال إلى حال، نرجو ألا يكون مُحال.
هويّة بصريّة للدولة السورية
رغمّ أنّ القانون 37 لسنة 1980 يُحدّد شعار الدولة وخصائصه إلا أنّ العُقاب يُستخدم بأشكال متعددة، الرئاسة تستخدم شعاراً خاصاً، قريبٌ منهُ المستخدم في مجلس الوزراء وبعيدةٌ عنهُ أحياناً تلك الشعارات التي تستخدمها الوزارات والهيئات الحكوميّة، بعضها لديه logo وبعضها ليس لديه، ويُمكننا إحصاء أكثر من 10 أشكال وألوان للشعار الرسمي تستخدم في كلّ مكان!
المطلوب ليس فقط الشعار وتعميم مواصفاته، بل أيضاً الخطوط والألوان والقياسات لهذا الشعار والهويّة البصريّة الكاملة بدءاً من تصميم الجلاء المدرسي وليس انتهاءاً باللوحات الإعلانيّة لمباني المؤسسات العامّة والمدارس، علينا توحيد الهويّة البصريّة للوزارات مع تخصيص كلّ وزارة ببعض الألوان وغيرها، فهذه الحالة المنتشرة تقول أنّ كلّ مؤسسة مستقلة وليست ضمن حكومة واحدة. من الممكن اطلاق مسابقة وطنيّة، فالإعتماد على الكوادر الحكوميّة الحاليّة قد لايفي بالغرض، (راتب أي موظف حكومي لا يكفي لشراء نسخة أصليّة من برنامج تصميم) الدول في رسم هويّاتها البصريّة تستعين بمصممين وخبراء من مختلف البلدان، وهناك سوريون ساهموا في تصميم هويّات بصريّة لحكومات دول متعددة، فلنبحث عنهم!
البوابات الحكومية الإلكترونيّة
اليوم تعتبر المواقع الالكترونيّة صورة الدولة، وبوابة الدخول إليها، يتعامل معها الملايين ويستخدمونها، ومع كُلّ هذا الوقت منذُ ظهورها فإننا لانملك مواقع رسميّة بواجهات مرتبّة، بل مواقع فوضويّة وعشوائيّة، معظمها لايتمّ تحديثه، أكثر الروابط فيها مُعطّلة وتأخذك لصفحات فارغة، مواقعنا مشغولة بطرق بدائيّة ليس فيها الأساسيات المطلوبة مثل هياكل الوزارات وقوانينها ومعلومات التواصل، ليس فيها أخبار محدّثة، ولا بيانات ولا مصادر معلومات، أكثرها تمّ تطويره لمرّة واحدة ورُبّما كان عقد تصميمها غير مصاحب لعقد صيانتها وتشغيلها.
حتى أنك تجد أرشيف الوزارات موزعاً في تطبيقات التواصل الإجتماعي التي تحذفهُ باستمرار وتقلّلُ وصوله وتخفّض دقّتهُ وكثيراً ما تتعرّض الحسابات الرسميّة إلى الاختراق وهُناك بعض الصفحات المزوّرة يتابعها الملايين وتنشرُ باسم الحكومة ماتراهُ مناسباً، في نفس الوقت الذي تعجزُ فيه الحكومة عن مواجهتها أو تفنيدها، فالناس يتبعون الأرقام الكبيرة والأخبار المثيرة وهذا ما يتقنهُ الآخرون. إنّ انشاء مواقع الكترونيّة مفيدة، تضمّ كلّ شيء ممكن عن هذه المؤسسة أو الوزارة بات أمراً أساسيّاً ومهمّاً وضروريّاً، بما في ذلك رئاسة الجمهوريّة، فالمواقع الاجتماعية تُغلق وتقيّد باستمرار الحسابات الحكوميّة، وفي لحظة ما قد تُقرّر ادارات هذه المواقع وهي احتكارات أميركيّة بمعظمها انهاء وجودنا الرسمي أو تقييدهُ تماماً، فماذا نحنُ فاعلون وقتها؟ إنّ بعض الوزارات لاتملكُ أرشيفاً لسنة للوراء، وكلّ أرشيفها في صفحات الفيسبوك التي يصعُبُ الرجوع إليها، بالمناسبة أين أرشيف وكالة سانا؟
إعادة الإعتبار للصحافة السوريّة
لسنوات طويلة ومريرة، كانت الصحف السورية جامدة متشابهة حدّ التطابق، مع زوايا وصفحات جريئة مُتبدلة بحسب الأحوال والأهوال، وفي مواسم الصحافة الالكترونيّة بُلينا بمئات المواقع الاخباريّة المتشابهة أيضاً، غاب الابتكار وانتشر التكرار، حتّى حلّت السنوات الماضية التي أوقفت فيها طباعة الصحف بحجة تقليل انتشار فيروس كورونا وهو مالم تفعلهُ أيّ دولة حتّى، وصارت بعض المؤسسات الإعلامية التي يعملُ فيها المئات تصل موادها للعشرات فقط.
تأخرت الصحافة السورية الحكومية والخاصّة في محركات البحث لتحلّ في ذيل قوائم المُتابعة، فحلّ محلّها المواقع المدعومة من سفارات دول غربيّة، والمواقع التي تتلقى تمويلات مجهولة المصدر مع بعض المواقع والاذاعات المحليّة التي تُحاول وتحاول بصعوبة. المطلوب هو اعداد استراتيجيّة جديدة للصحافة الرسميّة، وإعادة إصدار للصحف الورقيّة ولو بنسخ محدودة، والمطلوب تبديل العقول التي تدير العمل الإعلامي، لقد انتهى زمانُ التعتيم والتجاهل والقفز من فوق الأحداث، انهُ زمن التفاعل واحترام الجمهور وقول الأشياء على حقيقتها والرّدُ على ما يُطرح ويُقال ويُشاع وليس نسيانهُ وتجاوزه. إنّ كثيراً من الإعلاميين العاملين في المدن الإعلامية اليوم كانوا خريجي هذه المؤسسات، لكن ثمّة من قدّم لهم أجوراً كريمة وهامش حريّات معقولة، ونظماً اداريّة مرنة، فماذا نحنُ فاعلون؟
مكتبةٌ وطنيّة للبيانات والمعلومات
أيّ مُتابع للشأن السوري وأي صحافي يُعاني من توافر البيانات الحكومية وغير الحكوميّة، مالذي يجعلُ الحكومة تُقفلُ الباب على أرقامها أو تُصعّب الوصول إليها؟ في زمن تسعى فيه الحكومات لكشف كُلّ أرقامها بغية أن تكون حديث الإعلام وتستفيد من متابعته وأفكاره ونقده ومُطارحاته! حتى وزاراتنا قبل عقود كانت تُصدر كتباً سنويّة ونصف سنويّة دوريّة عن أعمالها وأرقامها ومشاريعها، اليوم على الصحافيين أن يدقوا الأبواب لعشرات المرّات لكي يحصّلوا رقماً أو احصائية من البديهي أن تُنشر وتُحدّث باستمرار في المواقع الإلكترونيّة، لقد خلقنا حُراس بوابات لهذه المعلومات والبيانات أسميناهم المكاتب الصحفيّة، فبدلاً من تزويد الصحافة بالمعلومات صاروا يزوّدونها بالأعذار.
نحتاجُ مكتبة وطنيّة الكترونيّة للبيانات والمعلومات، تصبُّ فيها المؤسسات والهيئات والوزارات مالديها، وقتها نستطيع أن نتطلّع لرسائل ماجستير واطروحات دكتوراه وأبحاث أكاديميّة مفيدة لفهم الحاضر ورسم المستقبل، وقتها يكون لكل مواطن حقّ الوصول للمعلومات فلا يكون عرضة للتلاعب والتضليل كلّ ساعة، على افتراض أنّ اعلامهُ المحلّي سوف يُتقنُ مشاركتهُ الحقيقة.
خطّة تواصل مع المواطنين
على الحكومات المتعاقبة أن تتوقف عن التعاطي مع السوريين كسكان، عليها التعاطي معهم كمواطنين يُحدّدُ الدستور حقوقهم وواجباتهم، بالتالي من واجب الحكومة تحقيق أقضل تواصل ممكن مع مواطنيها، فلتعامل الحكومة (وهذا أضعف الايمان) المواطنين كعملاء لخدماتها ولتُفكّر بخدمة العملاء كما تفكّر أي شركة، ماهو المشهد الذي سينتُج من هذا؟
المواطنون أذكى من الحكومات، في هذا الزمان صار صعباً اخفاء المعلومات والتحايل على المواطنين واعطائهم تصريحات غير مفيدة، هذا زمان الشراكة، والمواطنون شُركاء عندما تشرحُ لهم الموقف بحرفيّته وتشاركهم البيانات الدقيقة سيحملون معك، ويبدون أفكارهم وجهودهم للمساهمة في دعمك وتقويتك، والعكس صحيح، كلّما ابتعدّت عنهم زاد لومهم وخسرت ودّهم وضعف انتمائهم. اذاً خطّة تواصل وطنيّة تجمع خطط تواصل فرعيّة، تتضمن توعيّة رقميّة ومشاركة مواطنيّة وترويجاً للنجاحات وفهماً أفضل للاخفاقات ومساحة مفتوحة للحوار والنقاش والاقتراحات، خطة احترافيّة يصنعها الخبراء بمشاركة المواطنين أنفسهم.
بُنية تشريعة للإعلام والنشر
تتعدّدُ القوانين الناظمة، كان من المفروض أن تُسهّل الأعمال والممارسة لكنها تحولت لضوابط تمنعُ الابداع وتقيّد الحريات الدستوريّة وتطردُ الأفكار والخبرات، حتى القوانين الجديدة سرعان ما يتمّ تجميد موادها، بالنسيان أو التناسي أو التلاعب بالتعليمات التنفيذيّة، كيف نؤسس صحيفة؟ كيف نرخص موقعاً اعلامياً؟ كيف نفتح دار نشر وكيف نبدأ مركز دراسات؟ عندما تتضح الأجوبة عن هذه الأسئلة البسيطة ويتمّ حصرها وتنظيمها بعيداً عن التدخلات الشخصيّة وغيرها نكون أمام بيئة تشريعيّة تحترم الإعلام والنشر وتنظّمه.
علينا حصر قوانين الاعلام والنشر والصحافة في تشريع موحد عصريّ، لايُصنعُ في مكاتب مغلقة بل في مساحات حوار وتفاعل حقيقيّة لا تحتاج سنوات ولاحتى شهوراً طويلة، مجرّد أسابيع من الجديّة والشراكة والتفهم والفهم المتبادل والايمان الحقيقي بفكرة الحوار وليس التلاعب فيها، ولنستفد من تجارب الدول الأخرى، يكفينا اختلاق خصوصيات وأعذار، علينا المُسارعة للحاق بالمستقبل بدلاً من انتظاره.
ميثاق وطني للمؤثرين
أعجبنا أم لم يُعجبنا صار الرأي العام يُحرّك من المواقع الاجتماعيّة، وصار يلعبُ هذا الدور نجوم وفنانين ومُراهقين وأفراد من سويّات اجتماعيّة وأخلاقيّة مُتباينة، وصارت السطحيّة والتفاهة طريق الوصول الكبير للملايين، وصار التفكير والتحليل العميق متروكاً وهامشيّاً يحصلُ على اعجابات معدودة وتعليقات نادرة.
المطلوب من الوزارة التفكير بشكل مختلف، فمالذي يمنعها من إطلاق ميثاق أخلاقي للمؤثرين من داخل سورية على اختلاف محتواهم، يتعهدون فيه بعدم الترويج للأشياء المنافية للأخلاق والمخالفة للقانون والمضيّعة للمراهقين، يتعهدون فيه بعدم المساس بالخطوط الحمراء (ويمكن تعدادها لاتمويهها) التي تهدد النسيج المجتمعي والأخلاقي، وليكن ميثاقاً اختياريّاً طوعياً وليس فرضاً اجبارياً، وليستمدّ قوّتهُ من بنوده وموقعيه. وليُدرك المتابعون أنّ كُلّ من لم يوقع على هذا الميثاق هو خطر محتمل على أبنائهم فتخلقُ ردّةٌ مواطنيّة تجاه المسيئين فيحظرون محتواهم ويلغون مُتابعتهم ويركزون على صنّاع المحتوى النافع لهم.
حمايةُ الصحفيين والصحفيات
علينا البدء من اتحاد الصحفيين وتطوير عمله ليكون حامياً ومدافعاً وداعماً عن كلّ صحافي في سورية مهما كانت وسيلتهُ التي يُمارس فيها الصحافة والإعلام، ولتكن الوزارة قائدة هذا التطوير، ورائدته ولتكن الوزارة المُدافع الأول ونحنُ هُنا لانخترعُ أدواراً جديدة بل نكرّس واجبات الوزارة ومواد الدستور.
علينا التطلع للصحافيين كلّهم، وليس صحافيي الإعلام الرسمي فقط الذين تضيق هوامشهم كُلّ يوم أكثر، علينا أن لانسمع مُجدداً عن اعتقال صحافيّ على اثر مادة كتبها إلا بعد تحرّ حقيقي، ولا اثر رأي شاركهُ في المواقع الاجتماعيّة أو في وسيلته الإعلاميّة، فالدستور كفل ذلك لكلّ مواطن أصلاً، هل تستطيعُ الوزارة حماية الصحافيين واطلاق رقم ساخن لشكاويهم واصدار تعميم مشترك من الجهات المسؤولة للحصانة وعدم التعرّض أو الاعتقال إلا بعد التنسيق مع الوزارة والتحرّي بشكل جيّد قبل اتخاذ أيّ اجراء من هذا النوع الذي يُخالف الدستور ويتمُّ فيه الافراط في الامتثال لتطبيق المواد القانونيّة.
السوق الإعلاميّة المحليّة
مالذي يمنع سورية من التحول إلى فضاء جاذب للإعلام والإعلاميين، مثلاً من خلال مدينة اعلاميّة حرّة يكون لها قوانين وشروط خاصة، ماذا لو بدّلت سورية والسوريين العمل عن بعد كجزر انتاج وتصميم وكتابة ومكاتب خلفيّة للقنوات العربيّة والأجنبيّة (كما يعمل الالاف داخل سورية حالياً) إلى شركات إعلاميّة بمكاتب معروفة وواجهات صريحة وضرائب محددة وتبادل خدمات بالعملات الأجنبيّة مع الخارج بشكل مشروع؟
لماذا لانفهم الإعلام كسوق رابحة ونُصرّ دوماً على تحميل عبئه وخسائره للموازنات العامة المُتعبة أصلاً، لماذا نحتاجُ كُلّ هذه الطوابق الفارغة للمؤسسات الإعلاميّة بدلاً من استثمارها؟ ولماذا هذه الأعداد الألفيّة من الموظفين الذين لاعمل لهم ولا اختصاص، بل ويُركّبون عبئاً يوميّاً في نقلهم ورواتبهم مهما كانت زهيدة ومكاتبهم التي يشغلونها بلا عمل؟ لماذا لانُفكّر بتشغيل هؤلاء برواتب كريمة وبانتاجيّة مدروسة ومؤشرات قياس واضحة.
فضاء اعلامي مفتوح
يعني ذلك أن لا وسائل إعلام ممنوعة من العمل في سورية إلا وفقاً للقانون، يعني ذلك وصول الصحف والمجلات العالمية، الحجب صار شيئاً من الماضي، كل شيء موجود اليوم على الانترنت فلماذا لانجدهُ في أكشاك بيع الصحف التي أقفل معظمها؟ لماذا نودُّ دوماً المشاركة في الملتقيات والمؤتمرات والمنتديات الإعلاميّة في الخارج لنُناقش قضايا البيئة والمرأة والمساواة والذكاء الصناعي وغيرها ونحنُ لاندير ولا نفتح ولا نوافق ولاندعم نقاشات وحوارات محليّة حول أولوياتنا في كلّ مكان من سورية، متى نُغيّر طريقتنا من التأثّر للتأثير، علينا أن لانخاف من فتح الحريات الإعلاميّة بل احتضانها وحمايتها، لنُسهم في تهيئة مواطنين أكثر وعياً وتفكيراً نقدياً وشراكة حقيقيّة مع المؤسسات العامة والخاصة والمدنيّة على حدّ سواء.
ربّما أغفَلت النُقاط العشرة السابقة عشرات القضايا ومئات الأمثلة وآلاف الأمنيات، لكنّها مجرّد مساهمة في التفكير وتأمّلات مرجوّة تُساعدنا في فهم الواقع المُعقّد وتفكيكه، وذلك بهدف تطويره وتحويله باتجاه مستقبل يكون فيه لكلّ مواطن دور ليس في أخذ حقوقه كاملة فقط بل وفي أداء واجباته وحبّة مسك.
لأنّني أعلم أنّ كثيراً من الأشياء التي سأذكُرها هُنا يتمُّ مواربتها بشكل مستمر وتجاوزها، ولأنّني أعلمُ أن بعض الوزراء غير قادرين على الإعتراف ببعض الهزائم في مستويات مُتعددة أدوّن بعض عذه النُقاط علّها تُلحظ في البيان الحكومي الذي لم يُراجعهُ أحد مرّة واحدة، على الأقل منذ خلقت قبل 30 عاماً.
استعادةُ الهويّة
هذا ليس عنواناً للفت النظر، الهويّة السورية تمزّقت وتلاشت في بعض السياقات، من مسؤوليات الحكومة الجديدة استعادتها، ليس بشكلها القديم، فهي تغيّرت، بل بشكلها المُرتجى، الاستعادة هذه ليست عمليّة بسيطة صوريّة من خلال اجتماعات لخبراء أو أكاديميين، إنها اعترافٌ بالحال وابتعادٌ عن المُحال، لنصنع الهويّة من جديد، بعيداً عن القوالب الجاهزة والإدعاءات المُرضية، لنستمع للأصوات الأخرى لأنّ هذه الهويّة يحملها الملايين وعليهم أن يعيشوها من وسط العاصمة وحتّى أبعد مخيّم ومهجر يعيش فيه سوري.
نطلبُ الاحترام
هل يبدو هذا بسيطاً؟ إنّهُ معقد جداً، يعاني الشباب في سورية من قلّة الاحترام، فالتلاعُبُ بأحلامهم قلبها أوهام، يكفينا استغلالاً لهذا المفهوم، الشباب مازالوا بعيدين عن مطارح صُنع القرار، ومازالت القوانين تُفرّغُ من مضامينها، ومازالت الكلمةُ شطّاطة ومطّاطة، نضيّقُ عُمر الشباب لأجل أحدهم ونوسعهُ لأجل الآخر، الشباب لايريدون معاملة تفضيليّة بل معاملة مواطنيّة، ولايريدون زجّهم بكلّ تصريح ودعاية حكوميّة، بل يحتاجون لخطوات عمليّة، نحنُ أجيال البرامج الزمنيّة والغايات المُحققة والأهداف الذكيّة لا أجيال الشعارات الكبيرة المستهلكة.
التفكير بالتنظيمات
في سورية تنظيمات عدّة ترعى (من المفروض ذلك) مصالح الشباب، لكنّها أشبهُ بمؤسسات رسميّة عجوزة أحياناً لاتعني للشباب شيئاً، وفي سورية مئات التنظيمات من مؤسسات غير حكوميّة يقودها الشباب ويعملون فيها في ظروف أقلّ ما يُقال عنها أنها معقّدة، تخيّل جهد اليافعين والشباب في أخذ موافقة لتنفيذ نشاط ما ولو كان حملة نظافة قرب منازلهم، نريدُ مستوى آخر من التعاطي، نريدُ قيادات وموظفين يستطيعون فهم ما يتحدثُ به الشباب اليوم، واغناءه وليس تعطيله، وتوسيعه وليس تقزيمه، فلنُعد صياغة المستقبل ولنبدأ من هُنا، فلا نترك أحداً خلفنا.
الخدمةُ الوطنيّة
هذا الأمر الذي يُشكل مقدّساً لايجوز الاقتراب منه للكثيرين هو عُقدةُ العُقد هذه الأيام، الدستور يفرضُ علينا خدمة العلم نعم، هذا أمر هام لكن كيف نستثمره؟ يُمكننا الاستثمار بطاقات الشباب فليعمل أصحابُ المهن في الخدمة العامّة، والأكاديميون في الجامعات والمقاتلين في العمليات العسكريّة والتقنيين في الإدارات التقنيّة ولتكن المؤسسة العسكريّة أكثر رشاقة وانتاجيّة، ولنبتعد عن جعل خدمة العلم كابوس طويل مظلم، ولتكن مرحلة لتختبر فيه المؤسسات الحكوميّة مهارات الشباب فتوظفهم أو تتعاقد معهم بعدها، علينا التفكير من جديد هل الخدمة فقط بدلة عسكريّة وحقل رمي وحياة قاسية وغربة واجازات متباعدة؟ لماذا لاتكون مختلفة؟
القادةُ المحليّون
لسنوات طويلة كان الأمرُ عشوائياً صرفاً، اليوم صارت الحياة أسرع وأدقّ، والدول باتت تُركز على برامج مُكثفة وأخرى مديدة لإعداد القادة، فلا تنتظرُ فلاناً لخمسة عقود حتّى يشغل مسؤوليّة حكوميّة، انها ببساطة تصنعُه، أما نحنُ فنقسو كثيراً، يهجُرنا الشباب ليقودوا مشاريعاً في دول أخرى، فيبقى معنا أصحابُ الفُرص الأقل والتعليم المُغلق والأفكار المكرورة. لقد تخلّت الدولة عن منظماتها التقليديّة وباتت هذه المنظمات هائمة بين ماض كبير وحاضر مشوّه ومستقبل مجهول، علينا تأسيس مراكز وأكاديميات لإعداد القادة ولتكن قيادتها وادارتها مختلفة وذكيّة تفكّر بالمستقبل لا تخافُه.
تأميمُ المخاوف
لسنوات طويلة اُمّمت الأحلام والأعمال والأموال في سورية، حان الوقت لتأميم المخاوف والتحديات، لماذا لايُفكّر كلّ مسؤول بمخاوف الشباب كما يُفكر بمخاوف أبناءه وبناته، ولماذا يُتركُ الشباب لقلقهم وحيدين، لماذا لاتحملُ الحكومة همّاً واحداً، تؤمن السكن بشروط انسانيّة مُمكنة مثلاً، هل هذه وظيفةُ الحكومة؟ نعم، فالمطلوب ليس سكناً مجانياً ولكن ممكناً، والمطلوب ليس سيارات يتمّ توزيعها بل نقلاً عاماً محترماً، والمطلوب ليش استيعاباً جامعياً (راقبوا بشاعة الكلمة استيعاب) بل استثماراً جامعياً، والمطلوب ليس وظائف جاهزة بل وظائف كريمة، والمطلوب كثير!
خطٌّ اقتصادي
ألم يشتهر خلال السنوات الماضية مصطلح خطّ عسكري؟ تعالوا نُنشئ خطّاً / مساراً اقتصادياً للشباب، فلايمُرّون فيه على تعقيدات الماليّة والضرائب، ولايُراجعون عشرات المؤسسات، ولا تلزمهم مُراجعات أمنيّة ليؤسسوا مشروعاً صغيراً ومتوسطاً، تعالوا نُنشئ نافذةً اقتصاديّة يُطلّ منها الشباب على الفرص فلا يذهبون ببعض أموالهم وارثِ عائلاتهم لتأسيس شركات (خلال دقائق) في دول أخرى بل يُمارسون هذا في بلدهم، ولايخافون بيع الخدمات للخارج بالعملات الأجنبيّة بل يسعون لذلك بشفافيّة، ولايقلقون من الربح والمُحاصصة بل يسعون للمنافسة، هل يُمكننا؟
لنُرحّب بالعائدين
نعم هرب الشباب خلال السنوات الماضية لأسباب كثيرة، لكنّ أهمّها أنّ الحكومة فشلت بإدارة كلّ ما سبق من الأولويات، اليوم قد يرجعُ الكثيرون لظروف مختلفة، فلنحسن استقبالهم، من ابتسامة موظف الهجرة على الحدود وحتى انجاز معاملة التجنيد، علينا خلقُ فرص استثماريّة ليس للمستثمرين بل لجذب الشباب الأذكياء والحرفيين، مُدن ذكيّة تقنيّة، عروض خاصّة على الاستثمار الزراعي، معادلات جامعيّة للشهادات أبسط، فضاءات لمشاركة الخبرات أوسع. لنُنشئ في جامعاتنا مراكز التعليم المستمر لمن فاتهم التعليم ولنُخصص تذاكر طيران ونقل بأسعار مخفّضة ومراكز رياضة وترفيه أيضاً.
صندوق وشرعة وطنيّة
نطلبُ إعادة صياغة وقوننة مفهوم الشباب في سورية، وليكُن ذلك عبر شرعة وطنيّة وحزمة قوانين تصيغُ الحاضر والمستقبل، ولنؤسس صندوقاً وطنياً لتمويل المشاريع المخصصة للشباب، والمشاريع التي يقودها الشباب وليكن صندوقاً مفتوحاً للمساهمة من المغتربين، عائداتهُ الأساسيّة من مشاريع رياديّة، ولتكن
سياحيّة وثقافيّة وبيئيّة وزراعيّة وتقنيّة، ولتكن الشرعة وطنيّة بالخالص لامستوردة يُشارك بها السوريون من كلّ مكان فلا يضعُها من جرّبناهم ومن يئسنا منهم، ولنتعلّم من تجارب الآخرين بشجاعة بدلاً من الحديث دوماً عن خصوصية مجتمعنا فبعضُها أوهام.
العملُ لأجلنا
فلينطلق كُلّ دبلوماسيّ سوري لاستحضار الفرص للشباب السوري، فلتعمل كلّ مؤسسة على مراسلة المنظمات والجامعات والمنتديات، فلنفتح برامج ثقافيّة وتبادل طلابي، ليذهب الشباب السوري في برامج مشتركة وليتعلّم من الشعوب الأخرى وليستحضر نماذج عملها، والا ماذا تعني عبارات الدول الصديقة؟ هل هي صديقة سيئة؟ أم أننا لم نُحسن رسم العلاقة معها؟ لقد صار بيننا وبين العالم فجوة ولو تُركت فهي تزيدُ كلّ يوم وتتعقّد، من المهم ألا نبقى منفصلين ومُنفصمين عن العالم، فلتبدأ كلّ سفارة وقنصليّة وملحقيّة ببحث الفرص حيثُ هي، ولنضع هدفاً وطنياً للتعرّف على الآخر ومبادلتهُ الفائدة.
هذه الأولويات التي شاركتها مطلوبة من الحكومة نعم ولكن بمشاركتنا ودعمنا، وهي أولويات شبابيّة لم أُضف لها أولويات العائلات والفئات الأخرى، أما نحنُ فلو شرعت الحكومة في هذه الأولويات فنعرفُ ما هو مطلوب منّنا، ونحنُ قادرون بالفعل، لكنّ أحدا لم يلتفت إلينا بشكل حقيقي وليس صوري، أيتها الحكومة منكِ الاهتمام والرعاية ومنّا العمل والاجتهاد الكثير.
بينما أكتب هُنا وأنتم تقرأون يكون الوزراء الجُدد يفتحون التهاني التي وصلت إليهم سواء عبر الاتصالات الشخصيّة أو الرسائل في المواقع الإجتماعيّة وقد يتفاعلون مع بعضها القليل بحسب المُرسل، ولاشكّ أن هذه التهاني تتلقاها عائلاتهم القريبة والبعيدة ومحيطهم المقرّب.
لا تخلو هذه التهاني من كلمات جاهزة وتمنّيات صادقة، وأخرى كاذبة، كما أنها لاتخلو من الغمز واللمز عن مجموعة المُنضمين إلى نادي الوزراء السابقين، الذين سيعودون لشغل مسؤليات غير مرئيّة في غالب الأحيان، وربّما تفرّغ بعضهم لإدارة أعماله، وآخرون للتدوين في المواقع الاجتماعيّة للانتقاد والاقتراح، بعضهم فقط سيبقى على أمل أن تستعيدهُ الدولة في وقت ما لاحق، لشغل وزارة جديدة تختلف عن وزارته السابقة، أو لمهمّات استشاريّة، ورُبّما يُنسى إلى الأبد، فقد حصل هذا كثيراً.
في العودة للوزراء الجُدد فهُم ينتظرون اتصالاً لترتيب أداء القسم الدستوري، بالتالي فهم منذ الأمس يفكرون باختيار الطقم المناسب، ورُبّما استدعى أحدهم خياطهُ الشخصي مساء الأمس لأخذ القياسات الجديدة بعد أسابيع من الترقُب والانتظار.
غالباً ستكون ألوان الطقم الرسمي للثلاثين وزيراً متراوحة ببن الأسود والكحلي والرمادي، حالها حال البلاد، أما ربطات العُنق فلرُبّما تتحرّرُ قليلاً وتجنحُ نحو اللون الزيتي والخمري.
أيضاً الحلاق صار مستعداً، عليه الانتباه فقد يطلبهُ الوزير الجديد في أيّ لحظة ليكون لحظة القسم مستعداً جداً، فقد لاتتكرّرُ الفرصة للقاء الرئيس لبعضهم.
من الوزراء من حفظ القسم عن ظهر قلب، ومنهم من يُحاول، أما القصر الجمهوري فيُريحُ الجميع ويضعُ القسم مكتوباً بخطّ واضح أمام الوزراء الجدُد.
سيحضُر الوزراء اجتماعاً توجيهيّاً مع الرئيس، ويُحاولون تدوين المُلاحظات، سيُكثرون من الابتسامات بين بعضهم وأمام الكاميرات، ويكثرون من تقديم الشكر لمن كان سبباً في هذا، طلب التوفيق من الله.
يتوجّهُ الوزراء إلى مكاتبهم، يستقبلهم موظفوا الوزراة كما في مسلسل مرايا، بينما يُفرغُ السابقون حاجاتهم، يحملون الصور الشخصيّة من المكاتب، يجمعون ما تبقى من أغراضهم، ويأخذون كلّ ما جاء إليهم مثل علب الضيافة والشوكولا والحلويات والأقلام وغيرها، سيتركون فقط الكُتب التي تزيّنُ المكاتب، ولو كان عليها اهداء باسمهم.
سيلتقي الوزيرانُ في المكتب ذاته، ويجلسون متقابلين، ستكون الفرصة السانحة لمدير المكتب السابق أن يقدّم القهوة بنفسه، سيتحدّثُ الوزيران بصوت هادئ ويفتحون مجاملات تقليديّة بينما يتجمّعُ الموظفون في ممرات الوزارة، سيخرجان مبتسمين ويأخذون صوراً تذكاريّة يبتسمُ بعضهم فرحاً ويبتسمُ بعضهم حزناً.
يبقى الوزيرُ الجديد وحيداً لدقائق، ينتقدُ ذوق سابقه في اختيار مفروشات المكتب، سيتعرّفُ لغرفة الاستراحة خلف مكتبه وويفتحُ دروج وخزانات المكتب جميعها، سيتعرّفُ إلى أجهزة الهاتف، سيعدُّ أربعة منها على الأقل ويُراقبُ أسلاكها، سيضبطُ كرسيّهُ الدوار ويجرّبُ الجلوس في المقابل.
سيطلبُ مدير المكتب السابق، الذي ينتظرُ بشدّة، حليق الذقن وطيّب الرائحة، سيبدو نشيطاً أكثر من أي مرّة، سيُجهزُ للوزير قائمة بالموظفين ومكاتبهم وأعمالهم، سيُجهّزُ أوراقاً كثيرة للإطلاع، ويأخذُ التوجيهات بالنسبة للتهاني وتحويل الاتصالات واستلام الهدايا.
أما الموظفون فيعودون إلى مكاتبهم، يأخذون اجازة من العمل ولو أنهم على رأس مكاتبهم، يقولون للمراجعين نحتاج بعض الأيام، يُحاولون جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات حول الوزراء الجُدد، أين كانوا يسكنون، أين درسوا، ماهي أوضاعهم المادية، ماذا يقول موظفيهم، من هم أصدقائهم، من أتى بهم، كيف سيتصرفون؟ يفتحون حساباتهم في المواقع الاجتماعيّة، بعضهم يشكر الوزير السابق، بعضهم يضع أغنية لإغاظته، بعضهم يستفتحُ خيراً بالوزير الجديد، وبعضهم يفعل كُلّ هذا.
سيُرتبُ الموظفون مكاتبهم، فهم يتوقعون زيارة من الوزير الجديد، سيُخفون كاسات الشاي والقهوة وعدّة المتّة، يضعون السخانات الصغيرة في درج المكتب الأخير، سيرتبون الأوراق لتبدو مُنجزة، ويطلبون من عامل التنظيفات تهوية المكان ورشه بملطف الجو، سيجهزون مقترحات لتطوير العمل، ربّما يطلبها الوزير الجديد مكتوبة وقد لايقرأها أبداً.
تمتلئُ ذاكرة التطبيقات الاجتماعية للوزراء الجُدد بالتهاني وتتراكم، كما تتراكم العُلب الخشبيّة الأنيقة للحلويات الدمشقيّة والحلبيّة، ستتحركُ الدورة الاقتصاديّة لبائعي الورود والأزهار أكثر من أيام عيد الحُب وعيد الأم مجتمعين.
أما متاجرُ الشوكولا، فستُبدع في تقديم الأفكار لتغليف الشوكولا مارأيك بالنسر (هو عقاب بالحقيقة)؟ ما رأيك بالعلم السوري؟ ماذا لو كتبنا مُبارك على كلّ حبّة..، المشترون سيرسلون سائقيهم ويصطفون في طوابير لاستلام العُلب فالتوصية تمّت عبر الهاتف، وسيطلُب الزبائن ألا تُشبه علبهم علب الآخرين، وقد يقوم صاحب متجر الشوكولا بالاشراف بنفسه على توزيع العُلب وتسريب الأنواع التي أخذها من عنده أحدُهم، إلى أحدِهم.
سيمُرُّ اليوم سريعاً، سيجدُ الوزراء آلافاً من الأوراق المتراكمة، سيُراجعون سجل الصادر والوارد عدّة أشهر للخلف، وقد يحملونه للمنزل، يعودون للمنزل وسيكون الغداء جاهزاً من مطعم ما، فالعائلة قضت يومها تتلقى التهاني والمطاعم قدّمت عروضها السخيّة.
في مثل هذا الوقت سيكون عشرات الآلاف من المتعاملين مع هذه الوزارة أو المستفيدين من خدماتها في حالة انتظار وترقُّب وتمنّي.
إنّ ما نحنُ ذاهبون إليه هي حالة الإضراب الصامت, ستُجرّب كل شريحة اتباع تكتيك معيّن يتماشى معها
سيمتنعُ بعض تجّار التجزئة عن قبول أصناف متعددة من البضاعة الجديدة لارتفاع أسعارها، سيُغلقُون بمواربة محالهم، ويُحاولون تخزين ما أمكن من مواد غذائيّة فيها لأيام أصعب قادمة.
موظفون سيتركون الوظيفة، سيتركونها بدون تبريرات صحيّة أو ظروف عائليّة، سيُغلقون هواتفهم في وجه إداراتهم العامّة والخاصة ويتركون لهم المرتّب الذي لم يعد يكفي لنصف طبخة ليوم واحد.
ستنتقل هذه الحالة بسرعة من الموظفين الصغار إلى الموظفين الكبار، ستقف عند حدّ معيّن لكنّهُ لايكفي للتشغيل، نعم هناك مصانع ودوائر ستفرُغ، مصانع وورشات بلا عُمال ورؤساء بلا مرؤوسين في دوائر اللاجدوى الحكوميّة.
أسواق الجملة ستُخفّضُ طلباتها اليوميّة من الكمّيات، مع الوقت سيذهبُ الناس باتجاه الأرياف للسكن وطلب المنتجات، سيكونون بالقرب من الفلاحين لشراء الخضروات والفاكهة، ستظهر أنماط جديدة من القوى والتحالفات المحليّة.
ستعودُ الحوالات لتتركز في السوق السوداء، تكثر المُشكلات المحليّة بأسباب مختلفة، ستتعطّل الجباية والحركة الماليّة، ستمتلئ المقاهي الشعبيّة القليلة جداً، يرتفع الدولار حتى يختفي من التداول، ستغلق محال الذهب وتبيع بالمواربة، ستبدأ بعض مظاهر التحرّش الطبقي تكسير مرايا سيارات، ثم واجهات مطاعم، وتتطوّر حتى تصل إلى كلّ ما لانتخيّله.
مهما كان هُناك من حلول ذكيّة فإنّها تحتاج لأسابيع، هذه الأسابيع غير مضمونة، مهما كانت الحلول يجب أن يُعطى الناس تنازلاً ما ليس أدنى من إقالة الحكومة وحلّ البرلمان.
إلى الآن الشارع منضبط، خلال أيام ستحكمهُ الشائعات تماماً..
كان جدّي العزيز جداً يُرسلني كلّ صباح لأشتري له الصحف اليوميّة المحليّة، كانت القاعدة أن أشتري ٢/٣ من الصحف الحكوميّة لأنه يعرف سلفاً تكراراتها. كما أشتري له صحيفة الاقتصادية الأسبوعيّة ومجلة أبيض وأسود والكفاح والمحرر العربي وغيرها من الصحف التي كانت ترضى الدولة عن توزيعها محليّاً والتي انضمت لها الوطن السورية في 2006. كان ينظرُ بقرف إلى سالب وموجب الفضائحيّة.
أيضاً كان أحد السائقين على خط بيروت – دمشق يُهرّب لجدّي بعض أعداد الصحف الممنوع بيعها محليّاً منها النهار وأعداد من البيرق والحياة والشرق الأوسط والسفير أحياناً وصحف أخرى..
ومازلتُ أذكر يوم بدأت صحيفة الدومري كيف أرسلني جدّي لاشتري 4 أعداد اضافيّة ليوزعها على ضيوفه، فقد فاجأتهُ جرأتها وقال يومها: انشالله يكفو هيك. لاحقاً تمّ ايقاف أعداد من الجريدة وسحب ترخيصها كما أذكر..
حديث الجرائد هذا كان في آواخر التسعينات وبداية الألفيّة، ولم تكن سنوات مثاليّة بالطبع لكن كان فيها بعض الأمل بالمستقبل والمشاركة، ما كنتُ ألحظهُ أنني بعد أن آخذ حصّة جدّي من الصحف كان صاحب المحل يحزمُ الأعداد كمُرتجعات، فهو يعرف زبائن الجرائد وكانوا يتناقصون باستمرار، وهكذا صار يحزمُ كلّ يوم عدداً أكبر ليُرجعه إلى مؤسسة توزيع المطبوعات صباح اليوم التالي، كانت المؤسسة تتركُ الصحف الجديدة أمام المحل وتأخذ المرتجعة باكراً قبل أن يفتح، كانوا مُطمئنّين أنّهُ لا أحد يسرقُ الصحف، لا أحد يهتم إلا وقت التعزيل، كان الجيران والأقارب يسألوننا عن جرائد قديمة لمسح البللور ووضعها تحت الطعام.
مع صحف جدّي تعرّفت إلى الصحافة، كانت زاوية قوس قزح للراحل وليد معماري وزاوية عادل أبو شنب أول عهدي بالقراءة الصحفيّة، كما كنتُ أنظر باحترام لتحقيقات جريدة الثورة في السنوات الأولى للألفيّة حيث كانت تحمل جرأة تسبقُ بها باقي الصحف المحليّة وكان كل أسبوع على الأقل هناك تحقيق استقصائي ضخم يُحرّك مياهاً راكدة.
على عكس ما يراهُ الناس عن تلك الحقبة -العقد الأخير قبل الحرب- كنتُ أشاهد صعوداً وهبوطاً في الصحافة المحليّة وليس صعوداً فقط، كانت بهدوء تتخلّى الصحافة عن أدوارها لصالح أخبار المسؤولين والمواد غير المُجديّة، حتى مرّة مرحلة كان التحقيق الصحفي فيها غائباً..
كُل هذه الذكريات أثارتها فيي هذه الصورة التي وضعتها غلافاً ل مدونة الشأن العام – سورية، كيف كان السوريون مشغولون بالمجال العام وكيف هُمُ اليوم مشغولون بالمجال الخاص، أحبُّ أن أُسهم في إعادة الإعتبار للشأن العام في سورية.
أبدأ بتدوين هذا الحديث من مقهى عتيق في وسط دمشق، مقهى الكمال الصيفي، من النافذة الكبيرة هُنا أستطيع رؤية خطوط سكة الترامواي التي أوقف العمل بها قبل نصف قرن. إلى جانب المقهى سينما الكندي التي افتتحت مطلع القرن الماضي وتعلن عن حفلتين لعروض سينمائية يوميّاً لكنها في الحقيقة فارغة يوميّاً، حتى أنّ الباحثين عن مكان مظلم لا تستقبلهم، فالمسؤول عنها يعرفهم من وجوههم، كما قال لي مرّة.
*كُنت قادراً على استخدام الصور لكل جملة من الآتي، لكنني أفضل ترك تصور ذلك لخيالكم، فأنتم أيضاً أهل وسكان المدينة وتعرفونها، كما أفترض، وإن كان هذا الحديث عن دمشق فإنه ينسحب على مختلف المدن في سورية حسب ما اختبرت.
تغيّرت المدينة، تضيقُ يوميّاً المدينة التي نتخيّلها، فتعالوا نُلاحظ معاً ما حدث ويحدث.. قد تكون التكملة ترفاً فإذا شعرتم بذلك توقفوا عن القراءة، قد تكون مُملّة..
لقد ضاقت الأرصفة وصارت عالية!
جربوا المشي اليوم في المدينة، كم تستطيعون الاستمرار؟ هل ما زال التجول مُمكناً؟ لقد ضيّقوا الأرصفة القديمة التي كانت تُناسب تجول أربعة أصدقاء إلى جانب بعضهم، اليوم كُل الأرصفة الحديثة لا يستطيع فيها رجل وزوجته أن يتجاورا في المشي، على أحدهما أن يسبق الآخر..
لقد قطّعت أوصال الأرصفة وصارت جزراً ولم تعد مساراً متصلاً، أيضاً نقلوا الأشجار لوسط الرصيف فصار لزاماً النزول إلى الشارع والصعود منه مع كل شجرة، ولم يكتفوا بذلك، بل قلّموا الأشجار جيداً ويواظبون على ذلك أكثر من تنظيف المصارف المطرية، وبعد أن يقلموها يختفي الظلّ تماماً ويصيرُ المشيُ في هذه الأرصفة المليئة بالحفريات مرهقاً في الصيف، مستحيلاً في الشتاء.
كانت الأرصفة تعلو الشارع بارتفاع موحد، اليوم لكل رصيف معاييره، وبات التنقل من الرصيف إلى الشارع يحتاج انتباهاً أكثر خصوصاً إن كنت تسير مع أطفالك، بالمناسبة اذا كان ابنك رضيعاً وقررت التنزه معه أو الذهاب إلى موعد ووضعته في عربته قد يكون هناك خطورة، العربة لا مسار لها فالرصيف ترتفع وتهبط بلاطاته الشاحبة (التي كانت ملونة) ـ حكماً ستهتز العربة بشكل مزعج، لا تستهِن بذكريات الصغار عن هذه اللحظات، فانا أتذكر كيف كان بعض الأطفال يرموننا بالحجار ونحن داخل القطار ذاهبين إلى عين الفيجة.
أيضاً تختفي الحواف من الأرصفة، لقد تمّ تحطيمها أو بناء جدار محلّها أو وضع الحديد الشائك عليها بحيث لم تعد الاستراحة ممكنة وأكثر شعور يتملّكك أنه عليك المشي بسرعة ولا يمكنك التمهّلُ أبداً، رغم أن الاستمتاع في المدينة جزءٌ منهُ مشي فيها..
بالمناسبة، كُل هذا هو عمّا بقي، فالأرصفة تختفي يوميّاً، إن لم يأكلها الرصيف فتأكلها السيارات التي تعتبر الرصيف كراجاً لها، ولا تتوقف الوقاحة بتجاوز بعض الرصيف، بل بأخذه بكامله لصالح السيارات في كثير من الشوارع، أيضاً بعض الناس يسرقون أطاريف الأرصفة وأحجارها!
ليست السيارات فقط، أيضاً البسطات المكررة، وكراتين البسكويت وبرادات الكولا والأكشاك التي تتجاوز المساحة المرخصة لها بعشر أضعاف.. جرّبوا محاولة المشي من جسر الرئيس إلى البرامكة مثلاً، اذا استطعتم المشي بدون تحرّش أو تعثّر أو مشكلة، فأنتم مُباركين.
يكفي الحديث عن الأرصفة، تعالوا نحكي عن الحدائق، مادامت المدينة قد توسعت كثيراً، فلماذا بقيت الحدائق محدودة؟ ولماذا بقيت على المخططات في المناطق الجديدة؟ وما الذي تغير في الحدائق القديمة؟
أبواب الحدائق الكبيرة التقليدية مغلقة دوماً، ستجد فقط بابا صغيراً فتح إلى جانب الباب الأصلي، الباب لا يرحب فيك تجد عليه لوحة عليها تعليمات تشبه التعليمات الامتحانية في جامعاتنا..
ممنوع إدخال الكرات! ممنوع إدخال الحيوانات الأليفة! ممنون المشي على العشب! ممنوع إدخال الطعام والشراب! ممنوع إدخال الدراجات! ممنوع قطف الزهور، وممنوعات أخرى.. المسموح فقط هو الدخول والجلوس في كرسي غير مريح أبداً، يبدو أنّهُ تمّ تصميمه ليكون غير مريح!
كانت الحدائق في الماضي تضمّ طاولات حجريّة حولها مقاعد أو قعدات نصف مدوّرة، وفي أسوأ الأحوال كانت توضع الكراسي العريضة الخضراء إلى جانب بعضها، فكان من المُمكن أن تأتي عائلة او عائلتين للاستمتاع في الحديقة العامة. اليوم كراسي أقل لا تتقابل ولا تتجاور كأنها منافي فردية، أسوار عالية للحدائق وهذا لا يعني بالطبع أنها آمنة..
كُل هذا عما بقي من حدائق أصلاً، بعض الحدائق احتلّت المطاعم والنوادي أجزاء واسعة منها كحديقة تشرين وبعضها تمّ نبشهُ لأجل كراجات طابقيّة، وبعضها تغيّر للأبد. بعض الحدائق باتت موصومة بأنها بؤر غير أخلاقية، بالتالي بعد أن كانت الحدائق للجميع صار الجميع يهرب منها، وبات نادراً أن تواعد صديقك في الحديقة أو تأخذ أطفالك للتنزه فيها فأنت لا تحب بالطبع أن يُشاهد أطفالك شاب وفتاة يقبلون بعضهم، (نعم نحنُ نقبل ذلك فقط على الانترنت لكننا نُحاولُ تجاهله عموماً فيهرب العُشاق إلى دور السينما والحدائق، هرباً من محيطهم).
بالمناسبة، حتى مناهل مياه الفيجة النظيفة الجميلة التي المخصصة للشرب في الحدائق باتت محدودة جداً، أو معطّلة، بالمقابل فإن أي حديقة ستجد على بابها كشكاً يبيع المياه المعبأة بضعفي تسعيرتها.. حتى أنها تحمل نفس اسم النبع الذي يسقي كُلّ المدينة.. مياه الفيجة.
لقد تغيّرت الأماكن الدينية أيضاً، المساجد صارت للصلاة والدروس المحدودة فقط، كانت المساجد منارات مفتوحة دوماً، اليوم تفتح وتغلق قبل وبعد دقائق من الصلوات، وكذلك الكنائس. أيضاً التكايا وسبق الخيل (أرض المعرض القديم) التي أوقفت لترحب بالعابرين صارت مطارح للاستثمار وأسواقاً تقليدية وبازارات وهياكل فارغة.
وأين المقاهي الشعبية، إنها تختفي لتتكاثر المقاهي الجديدة، المكلفة!
كانت المقاهي متنفس الناس للقاء والتجمّع والحديث والتسلية وتداول الأخبار وتأسيس الجمعيات والتفكير المشترك والسرد القصصي، وكانت دوماً رخيصة وأسعارها مقبولة لأي شخص ولو كان عاطلاً عن العمل، ولم يكن فيها تمايز طبقي كبير، فهي في نهاية المطاف طاولات خشبية وكراسي من الخيزران وكان يمكن أن يتواجد في جلسة واحد أكثر من عشرة شخص يضمون طاولاتهم إلى بعضها بدون اذن فهذا ما كان عادياً وهم قادرين على سماع بعضهم البعض وليسوا مضطرين لدفع ضرائب أو دفع مبالغ زيادة على مشاريبهم وأراجيلهم.
اليوم باتت المقاهي الجديدة بطاولات أعرض تجعل سماع الشخصين المتقابلين مشوشاً أحياناً، وأكبر طاولة يمكنها أن تتسع 6 أشخاص وهم حكماً لا يستطيعون سماع بعضهم بشكل جيد، فالكراسي لم تعد ضيقة، بل بات لها أطراف وأحياناً تكون الكراسي عبارة عن كنبات عريضة لا يمكن معها أن يجلس أكثر من 4 أشخاص لمائدة واحدة.
صارت المياه في المقاهي مدفوعة بعد أن كانت أباريق مجانيّة، وصارت اجبارية (لا يحدث هذا في الدول الأخرى بالمناسبة)، كما صارت هناك حدود دنيا أحياناً وصار زبون الطعام مقدماً على زبون الشراب، وفي مناسبات معينة صار الاحتفال بميلاد صديق تلحقه تكاليف خدمة وفي بعض المناسبات تجد تسالي رمضان الإجباريّة، انا لا أعرف شعباً مجبراً على التسلية مثلنا!
يطول الحديث عن تحولات المدينة، الساحات الكبيرة عديمة الفائدة، التصاميم والمشاريع التي صرفنا عليها لسنوات طويلة وفشلت كساحة العباسيين، الشوارع التي اشترت نصفها شركات خاصة وصارت مصفّات مدفوعة ووصلت إلى جوار المنازل، المنشآت الرياضية التي تحولت أجزاء منها لمحال بيع السندويش والدجاج، أنفاق المشاة المظلمة منذ تمّ إنشائها، التصاميم الغبية في فصل الشوارع كما في منّصف شارع الثورة، ألوان الأضواء المتنافرة (إن تمّ تشغيلها)، روافد الأنهار التي صارت مكبّات زبالة، أدراج الجسور التي صارت ملك المتسولين وباعة الدخان، النهر الذي ما عاد نهراً وصار ساقية لشهرين في السنة، وعشرات التحولات الأخرى.
مع الأسف في زحمة صعوبات الحياة تُباع المدينة برضا سكانها ومشتروها هم أيضاً سكانها بالمناسبة، أهمل الناس حقوقهم في المدينة، وظنّوا أن بيع المساحات العامة أو التحايل في بيعها شرط لازم لتطوّرها، ففي الوقت الذي تشكل المساحات العامة فيه أهم مميزات المدن تجدنا نتخلّى عنها ونضيّقها يوماً بعد آخر.
في المدن القديمة والتاريخية يفتخر الناس بالأنهار التي تقطعها والحدائق والساحات والشواطئ وباحات الأماكن الدينية الواسعة، أما نحن فباتت المجمعات التجارية والمقاهي الغربية والمباني البشعة الزجاجية التي لا تشبه المدينة هي ما يدلّ الناسُ عليها ويعتقدون أنها الأفضل.
سندرك عندما نستريح أن الرجوع إلى الوراء صار مستحيلاً والمدينة باتت مجرّد فوضى لا تشبهنا، وهذا قد يُفسر اتجاهنا في مواقع التواصل الاجتماعي لمشاركة صور المدينة في تاريخها الحديث الأنيق، هذه المشاهد يُمكننا استعادتها وليس البكاء عليها فقط.
هذه التدوينة ليست إدانة لنا جميعاً لأننا نمارسُ هذا الفجور بقصد أو بدون، لكنها محاولة للانتباه فالقادم كبير وقاسي.
يُرسل لي صديقي صورةً من داخل النادي الرياضي الذي احتلّ جزءاً من حديقة تشرين العامّة، ويغمزُ لي هازئاً “مازالت مساحة عامة، انظر إلى الناس يقتربون كثيراً من سور النادي”.
صديقي العزيز لم يُدرك حقيقةً جليّة، أن الذي يقترب من السور هو النادي، فهو الغريب المُشاد في مساحة عامّة كانت كُلها مخصصة للناس، قبل سنوات اقتُطع جزء واسع منها لصالح مجمّع يضمُّ مطاعم وصالة رياضيّة وبار على سطح مكشوف يُطلُّ على المدينة.
قبل 5 سنوات كتبتُ تدوينة أحاول فيها هزّ الوعي الجمعي الذي تجاهل احتلال حديقته الكُبرى في العاصمة من قبل رأس المال متواطئاً مع الجهات الرسميّة!
أعدّتُ البحث وقتها خلال الشهور التي تلت التدوينة فلم أجد إلا مقالاً يتيماً أشار إلى تدوينتي نفسها، وهكذا نسي أو تناسى آلاف الصحافيين والمستصحفين أيضاً وجامعي الإعجابات الوهميّة، والناشطين والحقوقيين والناس أنفسهم، هذا الإعتداء..
لا أودّ هُنا شرح الطبقات وإلا لكنتُ بدأت بتعريف وتأصيل مفاهيمي، لكنها مُحاولة للتذكير بمظاهر وصفها صديق آخر قبل أيام في حديث مشترك ب”الإباحيّة الطبقيّة” التي تنتشر من حولنا اليوم في سورية أكثر من أيّ وقت مضى.
على الرغم من أنّ الظروف الاقتصاديّة التي تعيشها الدولة والناس هي الأقسى على الإطلاق، على الأقل خلال القرن الماضي الذي شهد ولادة الدولة الوطنية في سورية، فإن الفارق الطبقي اليوم أكثر حدّة من أيّ وقت مضى أيضاً.. على الأقل كما يبدو لي.
نعم في كلّ البلاد الناس طبقات اقتصاديّة واجتماعيّة متعددة، تضيق وتتسع تبعاً لتقسيم الثروة وشكل السلطات وعلاقاتها والقوانين وتنفيذها، كما تؤثر الثروات وحدود الملكيات وعوامل أُخرى لست بوارد تصنيفها وترتيبها.
الجديد والوقح اليوم هو “الفجور الطبقي”، الذي بات وجهاً أساسيّاً من وجوه سورية، وهو المُلاحظة الأبرز لأيّ زائر من الخارج، اسأل أيّ أحد تعرفه يزور سورية سيقول لك أن هناك تناقض كبير، هناك سورية المُتعبة الضعيفة الفقيرة وهناك سورية الأخرى، ومع الوقت يا للأسف تحوّل هذا الفجور ليكون المُحرّك الأكبر لاقتصاد البلد وتكريس الفروقات الطبقيّة وانشطار الطبقات يوميّاً.
في الزمن الماضي -وأتركُ لكلّ قارئ تخيُّل نقطة نهايته- كانت المطاعم في سورية تنفتحُ إلى داخلها، فكانت الستائر الكتيمة تغطّي الواجهات، وكانت الطاولات لا تمتدّ إلى الخارج، فيبقى الرصيفُ رصيفاً وتبقى مسألة الاستمتاع بوجبة مُكلفة أمر شخصي وعائلي وليس موضوعاً للمشاركة والتقييم، اليوم فإن النوافذ المفتوحة والطاولات العريضة التي تحتلُّ الأرصفة والتي تجاور الشوارع التي تحتلها مصفّات المطاعم هي سمة المطاعم وميزتها الكبرى، وبات الممشى للناس ما تتركهُ الطاولات بينها من فراغات، بالمناسبة لقد أجّرت البلديات الأرصفة بطريقة رسميّة وبشروط كتبت على الأوراق فقط.
كان السوريون في زمن مضى أكثر حشمة في التباهي، فكانوا يسافرون إلى أي دولة ويعودون من أسفارهم ببعض ألبومات الصور المطبوعة حيث يُشاهدها المقربون وهم بالعشرات على الأكثر، أما اليوم فالحصول على فيزا أو تجديد جواز السفر أو عبور الحدود أو الانتظار في بوابة عاديّة في مطار بيروت والسفر بالطائرة ووجهة الطائرة وبوابة الفندق وتفاصيل البلاد الأخرى تستلزم الكثير من الصور والفيديوهات والحالات، وكُلّما زادت نجوم الأماكن حظيت بكمٍّ أكبر من الصور والتعليقات، بالمناسبة اليوم جمهور ومشاهدي ووصول هذه الصور بالآلاف لكن المتفاعلين معها بالعشرات، وكأنهُ صمتٌ طبقي بانتظار فرصة للصراخ.
في الماضي حمل الناس أكياس القُماش ليس لأجل البيئة والمناخ، بل كانوا يضعون فيها مُشترياتهم من الفاكهة والغذاء لكي لا تلفت الأنظار فهم لم يحرموا أنفسهم من التمتع بحشمة، وكانت الأشياء مُتقاربة ولا مجال كثير فيها للتفاخر، مثلاً كانت مُنتزهات الربوة وعين الفيجة في متناول الجميع تقريباً ولو لمرّة في الشهر، وكان سقفُ التفاخر أخذ علبة المحارم ووضعها على تابلوه السيارة، والمفارقة أنّ الجميع تقريباً كان قادراً على ذاك ومن الطبيعي أن يكون سائقو التكاسي والسرافيس وموظفي الحكومة من القادرين، أما اليوم فوجبة للعائلة في مطعم عادي لخمس أشخاص تعني 5 رواتب لموظف من الفئة الأولى..
في الماضي أيضاً، ولمّا كانت الأعمال أكثر استقراراً فقد ألحق أصحاب الأعمال استغلالهم لموظفيهم وعمالهم بجانبهم الأبوي الخيري، فكان العامل لديهم يطمئنُّ إلى عيديّة في العيد، وتكاليف عرس بسيط، ودعم للأولاد في المدارس، وكسوة شتويّة تُقدّم إليه كأموال زكاة رغم أنّ مجموع هذا قد لا يُلامس الحد الأدنى الإنساني للأجر!
لكن كانت معظم الأطراف راضية، اليوم فغياب الاستقرار يجعل من العلاقة بين أصحاب الأعمال وعمالهم نديّة جداً، كيف لا وراتبهم يفقد قيمته يوميّاً، ولهذا تضخّمت جداً السرقات وقلّة الأمانة، وأنا أقول لكم أنّ البعض يُمارس السرقة من عمله مُطمئنّاً وراضياً لأنه يعتقد أنّ حقه مسلوب، وكذلك علاقة صاحب العمل بالمؤسسات الرسمية وكذلك علاقتها بموظفيها وكذلك علاقة المُراجعين مع الموظفين الذين باتت الرشوة طريقهم الوحيد للحياة الكريمة أمام أطفالهم.
شكّل المُقتدرون في الماضي الجمعيات الخيريّة وباتت وصيّتهم لأولادهم لأنهم كانوا يُدركون بشكل جيد أنّ جُزءاً من هذا الإفقار الذي يتعرّض له الناس هم مُسببوه، وكانوا يحمون أنفسهم وأموالهم من انفجار طبقي يُنتقم فيه من ذواتهم، وكانت هذه الجمعيات تطبيقاً للزكاة وتحصيناً للمجتمع وأيضاً كان الجميع تقريباً راضين.
مع كُلّ الانقسام الطبقي كانت المدينة مُتاحة، فالأسواق الشعبية كانت ما تزال كذلك، والحدائق كبيرة وأنيقة وواسعة، والمهرجانات الشعبية من الزهور وحتى الفنون والمسرح كانت مجانيّة وللجميع، وكان الناس لا يشعرون بأنّ عليهم تغيير ملابسهم بحسب الشارع الدي يقطعونه، وكانوا لا يستحون أن يصطحبوا عائلاتهم للحدائق المجانيّة وألعاب الأطفال فيها، فكان للجميع ممارسات متقاربة وكانت الطبقات معدودة ومعروفة فيما هي اليوم كثيرة، كثيرة جداً ومتداخلة.
أعادت المواقع الإجتماعيّة مسألة الطبقات إلى الواجهة، فبعد أن أنجز الكثيرون نقاشاتهم الجادّة وتأكدوا من فشل الثورات واجهاضها من خلالهم أصلاً توجهوا نحو استخدام هذه المواقع للتمايز الاجتماعي، فباتت محاولاتهم الفاشلة لكسر الطبقات ممكنة، وبات الذهاب إلى أحد المطاعم فرصة لالتقاط الصور وجدولتها على مدار أشهر وهو أكثر أولوية من الحصول على وجبة جيدة أو لقاء الأصحاب أو العشاء مع العائلة.
اليوم يُمكنك ببعض الصور أن تعيد تعريف نفسك وطبقتك، فصورة لك من احدى المدن أو أحد الفنادق كفيل برسم صورتك بالنسبة للآخرين، كذلك ساعة تلبسها شرط أن تكون متقنة التقليد أو باب سيارة لمديرك في العمل أو صديقك الغني.
الذي حدث بالفعل هو انشطار الطبقات، في مراحل ماضية كان الناس يبذلون جهداً كبيراً للولوج إلى طبقة جديدة، فيما حدث اليوم انشطار سريع جعل من بعض أفراد نفس الطبقة ضمن طبقة أخرى مفترضة وقد تتحول إلى حقيقيّة، أتحدث هُنا عن استثمار الجسد وأحياناً بعض السماجة فقط في التحول إلى نجم في المواقع الاجتماعية يُحصّل من المال بفيديو قصير ما تحصّله عائلة كاملة تعمل في التجارة أو تمتهن الطبّ والهندسة! إنه انشطار فقد حدث في وقت سريع جداً وبلا مقدمات طويلة، وبقي هذا النجم وعلى الأغلب هي نجمة يعيش في منزل أهله لكنه منشطر تماماً عن طبقته وحيّه ومجتمعه.
جزء كبير من الانفجارات السورية الاجتماعيّة بدءاً من 2011 لم تكن لأبعاد سياسيّة، كانت تعبيرات طبقيّة ولو حاول الكثيرون إلغاء هذا الجانب، بعض الأرياف ثأر شبابها من أصحاب المعامل الذين كانوا يشغلونهم كعبيد، فعادوا إليها حرقاً وتحطيماً ولو لبسوا لبوس الدين أو البحث عن الحريات وغيرها من دعاوى العقد الماضي. وكما كان استثمار الآلاف وتحويلهم لمتطرفين سهلاً سلسلاً من خلال ليرات بسيطة بات اليوم أكثر سهولة من خلال قروش فقط!
خُلقت خلال السنوات الماضية طبقات جديدة، وبعيداً عن تسميات الناس لها بأمراء الحرب (كان لدينا طبقات ظهرت كأمراء سلام بالمناسبة) فإن هذه الطبقات باتت بحاجة لمطارح للمتع والترفيه، والفضاءات السابقة باتت قديمة ومهملة وغير مُلبّية للرغبات المُحدثة، فانتشرت أماكن جديدة للسهر وللرياضة والطعام الصحي والحفلات الشاطئيّة واستلزمت هذه المُتع مزيداً من العُمال بأجور زهيدة ومزيداً من الخدمات المحليّة بأثمان بخسة وهو ما جعل استثمار فقر الطبقة الأدنى فرصة مرّة جديدة للعمل بأجر منخفض والتشغيل الكبير وفق مبدأ الفرص القليلة أمام العرض الكبير للراغبين بالعمل.
ما اودّ قوله أن الشهور القادمة ستحمل أحداثاً هنا وهناك يمكن تصنيفها ضمن تحرّشات طبقيّة، ستكون لأسباب مباشرة متعددة لكنّ أسبابها العميقة هي أسباب طبقيّة بالمطلق، وستكبر هذه التحرشات وتنتشر وهي قد تؤخر قليلاً الانفجار الاجتماعي الكبير القادم حكماً، في هذا الانفجار إن لم نُحسن التدبير والعمل من الآن سنكون جميعاً مجرّد شظايا..
تبدو الاجابة البسيطة على هذا السؤال نعم، يمكن لأي شخص اليوم أينما كان أن يُنشأ حساباً وصفحات ومجموعات متعلّقة ويبث محتوى غير محدود. لكنّ إعادة التفكير في السؤال تضع مجموعة من الاعتبارات قد تجعل الإجابة مختلفة!
وهم الحضور المستمر
يفترض الكثيرون أنّ وسائل التواصل هي البديل الكامل للصحافة والاعلام والنشر، وهم يعتقدون بالفعل انهم مرئيّون للملايين، لكنّ الحقيقة أنّ هذا مجرّد وهم، فالمحتوى في هذه الوسائل يختفي تدريجيّاً نظراً للكمّ الهائل وقد تتراجع النتائج عن فكرتك لتسبقها ملايين النتائج عن كلمات متشابهة، وقد تختفي منصات بكاملها وتذهب فيها كل تجارب المشتركين بلا رجعة مثل موقع مكتوب، لابدّ أنّ الأوائل في الانترنت العربي كانوا يعرفونه جيداً.
المحتوى الاحترافي مدفوع!
في الماضي كان الناس يستكتبون الصحافيين والكتّاب حول تجارتهم ومصانعهم وحتّى أفكارهم ورغم غياب الكليّات والمعاهد الصحافيّة أو ندرتها فقد كان الإنتاج أكثر وضوحاً ومباشرة وبساطة، ولكم أن تراجعوا أرشيف أيّ صحيفة من مئات الصحف التي كانت تصدر في بلادنا في الخمسينات مثلاً لتتبيّنوا مواداً صحافيّة بسيطة تُشبه الناس أكثر ولا تكاليف فيها.
اليوم كُل شخص بات صحافيّ نفسه، فنجدُ أصحابنا وهم يحاولون شرح أفكارهم العلميّة مثلاً بصعوبة، أو نجدُ السياسيين يصرّحون تصريحات مضحكة وكذلك الأكاديميون يكتبون فيتفاعل معهم الآخرون بالضحك ونجد رجال الدين يحكون قصصاً ويردّون ويتناحرون دون وضوح في الأفكار وفي عالم من الفوضى، بعض هؤلاء فقط أدرك أنّ الكتابة والصحافة هي حرفة وبدأوا بالاعتماد على بعض من يُساندهم وهنا وقعنا في طامّة جديدة..
انتشرت وكالات التسويق الاحترافيّة لوسائل التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة، وهذه الوكالات (أو الأشخاص) مهمّتها زيادة الوصول والإعجاب والأرقام، فهي ليست وكالات إعلاميّة ومعظم من يعمل بها درس التسويق القادر على جذب المتابعين والتأثير فيهم ولكن ليس تحريكهم ايجابيّاً، على العكس هذه الطرق الاحترافيّة التي يعمل ضمنها المسوقون تشجّع على الكسل الفكري وتدفع الناس لأخذ مواقف وإعادة أخذها في وقت كانت هذه المواقف تحتاج وقتا مناسباً للتشكل في مدارس ومكتبات ومع آلاف الصفحات، فما أسهل اليوم أن تجد صديقك وقد أصبح يساريّاً فجأة أو جارك وقد اتخذ أقصى اليمين في قضيّة شائكة يعرف خبراً عنها أو قرأ عنها منشوراً مع صورة ضاحكة!
جمهورك يسأل عن لون عينيك!
لقد كان الصحافيون وهم من أكثر الفئات تأثيراً نادري الظهور، فلا تظهر صورهم إلا قليلاً وكان هناك مقالات تحرّك الآلاف دون أن يعرفوا عن كاتبها أكثر من اسمه، وربّما حاولت بعض الصحف وضع صور صغيرة لكتّاب الرأي إلى جانب عامودهم الصحفي لكنّ ذلك كان يحصل بعد عشرات السنين التي قضاها هؤلاء يكتبون آرائهم، لقد كانت الآراء مقبولة من المُخضرمين فقط وعلى الصحافيّين الجدد تجميع الأخبار والركض لحضور الأحداث على حسابهم الشخصي وكم كان الحصول على معلومة أو ملاحظة تفصيل ما أمر مُرهق ومُكلف!
اليوم لا يمكنك كثيراً ان تكون وهميّاً، إن حضورك مهم جداً وقد تحصل على آلاف المتابعين من وراء صورك الشخصيّة فقط أو لون عينيك، في المقابل يمكن أن تبقى تحاول أن تؤثر وتكتب لعشرات السنين دون أن يزيد عدد متابعيك عن العشرات فقط لأنّك غير مصنّف في سلّم المعايير الجماليّة التي هي معايير مفروضة بحكم العادة وهي متغيّرة من زمن لآخر، إنّ شكلك ولونك والماركات التي تلبسها أو تدعي لبسها قد يجعلك موثوقاً تماماً وقائد رأي لآلاف المتابعين في كلّ مكان.
لا أحد يُدقق وراءك
الجهل يُلغي الحريّة، لأنّ الحريّة تقوم على المعرفة، في وسائل التواصل الاجتماعي نتعرّض يوميّاً لمئات بل آلاف المعلومات والمواقف والأحكام والنظريات ونتائج الدراسات ولا يملك أحد الوقت والقدرة للتدقيق في كلّ ما يتعرّض له من معلومات، وربّما أعدنا مشاركة كثير من المعلومات المغلوطة دون قصد فباتت موثوقة للآخرين، وفي أكثر الأحيان يغلب تأثير الأخبار والمعلومات المضللة والمنقوصة لأنها تشعل الغرائز والاتجاهات (كونها مدروسة) ما يُشكّل لدينا مواقف تلقائيّة من بعض القضايا عن دون قصد، وما أكثر القضايا اليوميّة التي أصبحت عامّة، وبالتالي هنا فحرية وصول المعلومات هي حريّة وهميّة في كثير من الأحيان لأنها قابلة كثيراً للتلاعب.
تجميع المتشابهين
على الرغم من أنها فكرة طيّبة أن وسائل التواصل تساعد الناس على تجميع بعضهم في مجموعات أو ضمن صفحات معيّنة لكنّ هذا يزيد من تكتل المجموعات والأفراد حول أفكارها ويولّد تلقائيّاً جدران فاصلة بحسب الاتجاهات من قضيّة معيّنة، ويبدو هذا أمر طبيعي لكنّ الأمور لاتقف هنا، بل مع كلّ موقف تربح عدّة تصنيفات لن تستطيع أن تخرج منها مهما حاولت، فالناس يصنفون بعضهم في مجموعات غير قابلة للتفكيك، مثلاً اذا كنت تدعم البيئة والنباتات فلا بدّ أنّك تدعم قضايا المثلية الجنسية وهكذا، يرفض الناس التعامل مع الأفراد بأفكار محددة بل يطمئنون إلى تصنيفهم.
أنت مُهدّد دوماً
في لحظة ما قد تتحوّل لأضحوكة، قد ينشر لك أحدهم صورة قديمة في المدرسة، قد تجري مقابلة عرضيّة في الشارع وقد تشارك منشوراً خاصاً أو صورة شخصيّة تتحول فجأة لتكون مادّة للتنمّر والاستهزاء، وكثيراً ما تكون الأسباب معدومة وغالباً السبب الأساسي هو قلّة التربية لدى البعض التي تجعل من أيّ محاولة تنمّر محاولة ناجحة لتجميع الاعجابات والوصول أكثر، وهذه اللحظة التي قد تتحوّل فيها إلى حديث العامّة هي ذات اللحظة التي يجد كلّ شخص على الكوكب نفسه معنيّ بالتعليق عليها، واذا حاولت الهروب من هذه المواقع سيجدونك في الطرق وسيحاولون إعادة الكرّة لأنّك في لحظة ما كنت مادّة خصبة لقلّة أدب البعض وسذاجتهم.
عليك أن تدفع لتصل
في بداية انتشار وسائل التواصل الاجتماعي كانت منشوراتنا تصل بشكل كامل تقريباً لمتابعينا، ومع الوقت قلّلت كثير من الشركات نسب الوصول تدريجيّاً بغية حثّ المشتركين على الدفع مقابل وصول منشوراتهم مع مميّزات تفضيليّة لاختيار القطاع الجغرافي والجنس والعمر والاهتمام وغيرها، اذاً اليوم لا تستطيع الوصول بصفحة مهما كان محتواها إلا لنسب محدودة جداً جداً من متابعيك أصلاً دون أن تدفع ولا تنسى هُنا أنّ كثير من الشعوب اليوم معاقبة فلا تسطيع الاستفادة من هذه الخدمات ولو خصصت جزءاً من أموالها للوصول لجمهورها الذي تفاعل معها أصلاً، أي أنّ هذه المواقع رغم أن لك جمهور يتابعك تعود لتأخير ظهورك أمامه حتى دفع الأموال.
أنت مُحاصر بالتريندز!
في التحوّل لشخصيّة نشطة على وسائل التواصل أنت مطالب بأن يكون لك آراء في كل شيء يحدث في هذا العالم، وفي كل شيء لم يحدث بعد أيضاً، أنت مجبر، الجمهور ينتظر، لايهم رأيك بالفعل حيث سيقف البعض معك والبعض ضدك المهم أن تشارك موقفاً، ولن يتمّ أخذ موقفك بشكل شخصي، بل سيُسحب موقفك على المكان الذي تعمل فيه أو تنشط فيه أو على الديانة التي تعتنقها وربّما على البلدة التي ولدت فيها، لن تنجو!
فرصتك محدودة
أغلب الناس لاتضغط “عرض المزيد” وبالتالي لديك بعض الحروف المحدودة وربّما جملة أو جملتين، ولايتعلّق الأمر باحترافيّة كتابة هذه الجملتين لجذب المتابعين بل هي سهولة التجاوز ومزاج الجمهور، في أيام الصحافة الورقية كان يبقى الموضوع أمامك وقد تعيد قراءة الصحيفة والمجلّة عدّة مرات انت وأفراد أسرتك أو زملائك في العمل وقد تتناقشون حول نفس المادة الإعلامية، أما على وسائل التواصل فأنت معرّض لمواد ومنشورات مختلفة عن تلك التي يتعرض لها ابنك أو صديقك أو حتى زوجتك وبالتالي سيكون النقاش غير فعال ولو كان عن نفس الموضوع كون كل منشور يقدم بطريقة الجهة التي تصدره وليست القصة حول مضمونه فقط، هناك سياسات تحرير تجعل من ضعف خصوبة طائر اللقلق مسألة متعلقة بحزب سياسي ما.
عليك منافسة التفاهة
نعم في وسائل التواصل تنافس منشورات حول إطلالة الفنانين أو قياس شورتاتهم مقالات عن الاحتباس الحراري أو زلزال أو كارثة أو حرب كاملة، ليس هنالك من تصنيف أو ترتيب، قد تستيقظ يوماً وتجد الناس متضامنين مع الحرائق في غابات بلد لايعرفونه وقد تجد أخباراً حول كوارث طبيعية خطيرة في بلدهم لايعرفون عنها شيئاً، في بعض الدول قد تتابع مئات الأخبار حول تغريدات أحد السياسيين والتي قد يعود ليقول أن ابنه كتبها حين كان يلعب بالهاتف في الصباح، إنه عالم كامل من تعميم التفاهة وينسحب هذا على بعض الكتب والمنتجات التي يتمّ الترويج المدفوع لها والتي قد يشتريها الملايين دون أن يكونوا قادرين على كتابة تقييم حقيقي لها لأنّ الموجة السائدة المدفوعة تعارض ذلك!
مواقف لم تختارها
اذا كنت شخصاُ عادياً أو معروفاً على السواء فالمتابعين وغير المتابعين لايتقبلون منك حريّتك ف التعليق او عدم التعليق، وقد يتمّ زجّ حساباتك في مسائل شائكة تجعلك مضطرّاً للتبرير أو الحديث عنها، وقد يتمّ اختيار صورة قديمة لك وأنت تلبس ألوان مختلفة لتجد الأخبار تقول أنّك تروج للمثليّة الجنسية وقبل أن يسألك الناس عن موقفك وأنت حرّ فيه مهما كان ستجد آلاف الشتائم وبعض الدعم وكثير من التكفير وربّما التهديدات في حال كنت تعيش في بيئة محافظة في بلادنا وحتى في البلدان الأوروبية هذه الأيام.
هناك حدود لكونك مناصراً لقضايا محددة
ولو كان هذا مفاجئاً لكن هناك حريّة وهميّة في بعض القضايا الأساسيّة، مسألة دعم الحقوق وفلسطين مثلاً قد تكون انتهاك لمعايير المجتمعات في وسائل التواصل الاجتماعي، وقد يخطر لك أنّ هذا فقط يحدث تجاهنا لكنه يحدث تجاه كلّ الشعوب التي لديها قضايا ولكننا اصطدمنا بهذه التهم على شكل انتهاكات وكم من حسابات جادّة وصفحات كبيرة أغلقت في هذه التهم، وجاء النزاع الروسي الاوكراني فجأة ليجعل من طرف ما مع كلّ حساباته وصفحاته العامة موضع شكّ وتقييد واتهام.
خصوصيّتك مهددة دوماً
حماية الحسابات تبدو أكثر الأشياء التي تهتم لها الشركات التي تدير وسائل التواصل الاجتماعي، لكنّ الحقيقة أنّ الحسابات الموثّقة يدفع مقابلها البعض سواء من خلال الشركات الوسيطة أو بطرق أخرى، ولو كانت الشركات جادّة في حماية الخصوصية لجعلت مسألة التوثيق متاحة لجميع المشتركين، في أي وقت من الأوقات قد تجد رسائلك الشخصيّة منشورة وخاضع أنت للابتزاز حولها وكذلك المعلومات التي تتبادلها عبر الحسابات أو حتى الروابط التي يتمّ ارسالها من خلالك للآلاف لاختراق حساباتهم، نعم هناك توعية رقميّة تقلل جداً فرص حصول هذا ولكن من حوالي ملياري مستخدم لفيسبوك كم مستخدم لديه هذا الوعي الرقمي؟
فجأة قد تُصبح مُداناً
انتشرت في السنوات الأخيرة بعض القضايا التقدميّة التي تحمّس لها كثير من ناشطي المجتمع المدني والسياسي حول العالم، وبالطبع وجدت هذه القضايا مناصرين وعانى منها ضحايا في بلداننا فأخذ الكثيرون تدريبات وحاولوا تطوير أفكارهم حول قضايا محددة وأخذوا ينشطون فيها في مجتمعاتهم، ولاريب أنّ بعض الأمور كان يعاقب عليها القانون قبل عقود أصبحت اليوم حقوقاً، المشكلة هنا أن كثير من المستخدمين وقد يكونوا من الأكاديميين ومن أصحاب التغيير في العقود الماضية فاتهم قطار هذه القضايا ولم يتعرضوا لتجارب أو خبرات لتطوير مهاراتهم فوجدوا أنفسهم فجأة مُدانين ببعض القضايا التي تخصّ الحقوق والكراهية ليسوا لأنهم كذلك يعتقدون بل لأنهم لم يلاحقوا ماحصل في السنوات الأخيرة، فجأة وجد هؤلاء أنفسهم موضع اتهام وإدانة وربّما عملت مجموعات كاملة على التبليغ عن حساباتهم ومنشوراتهم. بالطبلع هذا لاينفي الجانب الإيجابي لتشكل مجموعات ضغط لصالح حقوق كثير من الفئات وإنهاء الانتهاكات بكل أنواعها تجاه هذه المجموعات.
أنت مراقَب وتحت الأنظار
الحكومات تتابع الناشطين، هذا لاينسحب على بلدان العالم الثالث بل على كلّ الدول، نعم أنت مراقب دوماً وهناك بعض الموضوعات لايُسمح بالخوض فيها تماماً، فالسلطات الدينية بالمرصاد وحتى العائلة وكم يتجنّب الكثير من الناس التعبير عن آرائهم قلقاً من وجود أفراد عائلاتهم في قائمة الأصدقاء ولو كانوا في دول بعيدة، أيضاً فإن حالات استدعاء الناشطين والتحقيق معهم ورفع القضايا عليهم باتت مسائل متكررة جداً في مختلف البلدان، وغالباً ما يفضل البعض إلغاء التعبير عن موقف أو سلوك عندما يعرفون أنّ التكلفة ليست قليلة وتشمل دعاوى ومحامين ووقت ولو كانوا على حق.
حرّاس المعبد الافتراضي
كما في كلّ مجتمع مجموعة من الشخصيات التي تسيطر على الفنون والأكاديميا والرياضة مثلاً فكذلك وسائل التواصل، لكل مجتمع او موضوع مجموعة من “حراس المعبد” الذين يتولون السيطرة على الأخبار ولو لم نلاحظ ذلك ويتولون التعليق عليها وتوجيه دفتها في الاتجاه المناسب لهم، وهؤلاء في الغالب لا يعملون لحسابهم بل لحساب أطراف ومشغلين محليين أو عالميين وهنا ليس تعميماً لنظريّة المؤامرة لكنّ هذا يحصل باسم التأثير والقضايا وكثيراً ما نجد هؤلاء “حرّاس المعبد الافتراضي” مكرّمين من منظمات دولية أو سفارات أو حكومات نظراً لجهودهم في الترويج لقضايا معرفة وأخرى غير معروفة.
كلّ هذه الاعتبار تعيد السؤال للبداية، هل هناك حريّة وفرص متساوية للتعبير في وسائل التواصل الاجتماعي؟ وهل هذه الاعتبارات تساعد على فهم معاناة الآلاف من رُهاب وسائل التواصل الاجتماعي فيكتفون بالإطلاع ويخافون من المشاركة أو دعم قضيّة أو التعبير عن آرائهم؟
نحن بحاجة لإعادة التفكير في هذه الاعتبارات ولو على المستويات المحليّة لكي لايفقد الإعلام الجديد دوره في الأخذ والرد بين الأطراف وكونه باتجاهين ولا يعود كما كان الاعلام التقليدي اتجاه واحد موجه بشكل كامل.