يعاني العمل المجتمعي في سورية من نقاط ضعف مختلفة وقيود متعددة لأسباب متعددة اهمها داخلية على الأكيد، وخارجية أيضاً مثل عدم وضوح هويّة ودور العمل المدني وتعريف المجتمع المدني عالميّاً، والإرث السوري المتعلق والممتد بهذا المجال يعود إلى حوالي قرن ونصف على الأقل عند بدايات تأسيس الجمعيات الإغاثية والأدبية والدينية في البدايات ومن ثمّ تطوّر هذا المجال في نهاية العهد العثماني حيث ارتبط ظهور التجمعات بحركة التنوير والعروبة في مواجهة سياسات العثمانيين ولهذا كانت كثير من هذه الجميعات مستوردة الأفكار والآليات، وهذا نتيجة طبيعية لتأثر المتنورين في وقتها ودراستهم في الغرب أو في تركيا العثمانية نفسها مع انتشار عصر القوميات في أوروبا وكذلك الجمعيات الإنسانية الملحقة بالكنائس والتجمعات الدينية
انتقلت باكراً أفكار هذه الجمعيات إلى سورية وقد كانت أكبر مساعد للعثمانيين على سدّ الإحتياجات الناشئة بين السكان نتيجة المجاعات المستمرّة والامراض والحروب، ظهرت دور الأيتام والأوقاف كمؤسسات خيرية والكشاف والهلال والصليب الأحمر وغيرها. كان القانون الناظم لها آواخر العهد العثماني هو قانون الجمعيات العثماني 1908 وهو ما يزال سارياً في لبنان حتى الآن وترخيص أي جمعية لايحتاج لأكثر من علم وخبر لوزارة الداخلية
في زمن الإنتداب الفرنسي كان له مصلحة في كسب طبقة النخبة في المجتمع السوري من خلال حفلات ثقافية وعروض فنية تم احضارها لدمشق مع كتّاب وأفكار، أيضاً كان تأثير الجامعات والإرساليات في لبنان وتمثّل بتأسيس جمعيات علمانية ونسائية تعددت وسائلها (كانت جمعية نقطة الحليب تقيم حفلاً راقصاً سنوياً لجمع التبرعات مثلاً)، ولاشك أن هذه الجمعيات كانت مدعومة من زوجات الطبقة السياسية المدينية أو هنّ اللواتي أسسنها بالفعل، أيضاً في ذات الوقت كانت الجمعيات الإسلامية تُقدّم لها التبرعات والزكاة وكان لديها اوقاف تحصّل من خلالها أموالاً غير قليلة وبالتالي كانت هذه الجمعيات توزع المساعدات كما كان لها مواقف سياسية مرضية للمجتمع وخاصة بالنسبة للقضية الفلسطينية بالتالي كان من السهل إعادة تجميع هذه الجمعيات الخيرية لتكون حركات إسلامية سرعان ما انخرطت بالسياسية واللعبة البرلمانية
ترافق وجود هذه الجمعيات مع ظهور الأحزاب السياسية السورية وبالتالي أصبح جزءاً منها هو جمعيات ملحقة بالاحزاب أو العكس، وهذا ما جعل دولة الوحدة تصدر القانون 93 لسنة 1958 الناظم لعمل الجمعيات والمؤسسات الخاصة حتى اليوم! أي أنّ كل هذا التطور في العمل المجتمعي لم يدفع المشرّع السوري سوى لإدخال تعديلات بسيطة جداً على قانون عمره اليوم 62 سنة وأرى بالطبع أنهُ قد حان وقت تقاعده
أغلقت كثير من الجمعيات كما الصحف والأحزاب في عهد الوحدة، هذه الأدوات التي برع السوريون في التحرك من خلالها خلال العقود الماضية للوحدة تم حلّ أغلبها بتوقيعات سريعة وتمّت محاولة إعادة تجميع أعمال هذه الجمعيات في مصالح حكوميّة وموجهة، بالطبع لم تستطع سدّ الإحتياج المجتمعي المتزايد (الحديث هنا ليس في سد الإحتياجات الغذائية والطبية فقط بل أيضاً في مجال الفكر والثقافة والفنون والسياسية فهي حاجات إنسانية)
بعد نهاية تجربة الوحدة دخلت سورية في إنقلابات عسكرية متتالية تعطّلت خلالها كثير من حيوية ومرونة السوريين وبالتالي عاد الإستقرار بعد 1970 وبعد هذه المرحلة تم الإعتماد بشكل ممتاز على ما يُسمى اصطلاحاً "المنظمات الشعبية" لتحل محلّ كثير من الجميعات السابقة كالإتحاد النسائي، مُنحت المنظمات الشعبية أوضاعاً خاصة وصلاحيات كبيرة في المدارس والجامعات
كما أن هذه المنظمات الشعبية في كثير من التفاصيل حصرت العمل الشباب والمجتمعي من خلالها فقط، وطبعاً الوظيفة الأولى لهذه المنظمات لم تكن إلا وظيفة سياسية للحشد والتعبئة وبالتالي أغلق هذا الباب أمام ظهور التجمعات الشبابية او المنظمات أو الجمعيات إلا لأهداف وغايات معينة تخصصية في أغلبها (سرطان، تنظيم أسرة، سل..) كما تُرك الباب مفتوحاً أمام الجمعيات الخيرية وهي الملحقة بالكنائس والمساجد في معظمها، بالتالي شكل هذا جموداً كبيراً في العمل المجتمعي وخاصة بعد أحداث الإخوان المسلمين والقلق من أي تجمعات غير مضبوطة كما حصل مع كشاف سورية الذي تم ايقافه عن العمل رغم وجوده في سورية ابتداءاً من 1912 وتم أخذ معظم التقاليد الكشفية ليُعاد تكييفها في منظمة طلائع البعث
منذ 1970 بدأت المنظمات الشعبية بالقيام بأدواراً حصرية لتعبئة وتوجيه كل فئات المجتمع وفق رؤية القيادة السياسية لما يحدث من تطورات في مختلف الصعد ولكن هذه المنظمات تراجعت في تأثيرها على المجتمع السوري فهي التي ترفع شعارات البعث نفسها أصيب كوادرها بالخيبة التي رافقت الجميع بعد عشرات السنين على طرح شعارات لم يستطع أحد تحقيقها
بدأت المنظمات الشعبية تتراجع في تأثيراتها الفعليّة في أوساطها منذ التسعينيات ومردُّ ذلك إلى الطرق التقليدية التي تحاول هذه المنظات الوصول بها إلى الشرائح الهدف وجمود الخطاب الفكري الذي تنتهجه اضافة لدور التعبئة المحتّم عليها أخذه في عملها، هذه المنظمات هي المسؤول الأول عن ملئ الساحات الكبرى في أي فعالية تقرّها القيادة السياسية ولو كانت ذات طبيعة فنيّة أو رياضية وتوظف لهذه المنظمات أموال موجّهة من القيادة القطرية للحزب والوزارات كما تنتشر مكاتبها ومقراتها في كل المحافظات وأبعد القرى في سورية
لعبت هذه المنظمات أدواراً كبيرة في بناء وصهر الجيل الشاب وفق رؤية وتوجه معين أراده البعث، كما كانت ذراعاً أساسياً استخدمته الدولة السورية في أي مواجهة من أي نوع وربما التنظيمات الشبابية المقاتلة التي ولدت عن هذه المنظمات و التي حاربت إلى جانب الدولة الاخوان المسلمين كانت المثال الأبرز عن الدور المتغيّر التي يمكن لهذه المنظمات العقائدية أن تقوم به، كما لم تتردد القيادة السياسية بحظر أي مؤسسة أو جمعية أحسّت بخطرها وتأثيرها على هذه المنظمات
2000-2010
بعد سنة 2000 بدأت مجموعة من المفكرين والكتاب محاولات لإعادة المرونة للمجتمع السياسي/المدني من خلال بيانات موقّعة وصالونات ثقافية فُتح لها الباب لعدّة أشهر وربّما كان خطأ هذه المنتديات التي جاوزت ال100 خلال أشهر في مختلف مناطق سورية أنها أرادت معارضة النظام السياسي ككتلة واحدة وطرح فكرة التغيير لتكون من الاعلى للأسفل دون الإنتباه أن العمل على توعية المجتمع بأكمله وليس النخب فقط هو ما يُنتج تغييراً ممكناً في ظل خطط الإصلاح التي طُرحت في خطاب القسم الرئاسي وقتها
في بدايات الألفية بدا أنّ هناك اتجاهاً جديداً لفتح العمل المجتمعي من خلال رعاية السيدة الأولى لعدد من الجمعيات بل وإطلاقها بالفعل وهذا ما شجع كثير من الناس على تقديم طلبات ترخيص لجمعيات ومؤسسات في معظمها خيرية ومحلية كجمعيات في القرى والأرياف او أحياء بعينها كما بدأت بعض هذه الجميعات تتلقى دعماً أوضح من رجال أعمال سوريين فتوسعت اعمالها، معظم الجمعيات الناشئة قبل 2011 كانت خيرية وبيئة وقليل جداً منها الجمعيات الثقافية أما جمعيات الوعي المدني أو مراقبة الإنتخابات أو التثقيف السياسي فلم يكن لها أي فرصة بالظهور وكان هناك قلق مستمر من تجاوز الخطوط الحمراء في بعض الجمعيات مثل الجانب الإقتصادي، لهذا فضّل كثير من الفاعلين المجتمعيين العمل في البيئة والمساعدات الغذائية مثلاً على التعرض للمسائلة الأمنية
تمويل هذه الجمعيات والمؤسسات والفعاليات التي تقيمها لم يكن حكراً على جهة معينة فقد تسابقت الشركات الخاصة الكبيرة ورجال الاعمال لدعم هذه الجمعيات وأنشطتها وذلك كنوع من تثبيت ولائهم لتوجهات الدولة الحديثة، وبدأت بعض الجمعيات تستقطب دعماً خارجياً من الاتحاد الاوروبي وبرامج شراكة مصادق عليها من قبل الحكومة فيما بقيت أي برامج منح مالية ومساعدات أميركية محظورة تماماً، وتشير تسريبات من "ويكليكس" نشرت في جريدة الاخبار اللبنانية إلى رسائل متبادلة بين السفارة الأميركية بدمشق والخارجية الأميركية تشير لرفض الحكومة لكل عروض وكالة التنمية والتعاون الاميركية
ظهرت مشاريع متعددة بدعم من السيدة الأولى أعيد تجميعها تحت مظلة الأمانة السورية للتنمية والتي كانت نموذجاً يُرتجى اتساعه و توسع أعماله، ورغم فتح مشاريع في مجالات متعددة لكن بقيت الصورة المجتمعية أن هذه المنظمة بعيدة وتخصّ المدن والنخبة رغم وجود برامج تنموية لها في الأرياف! هذه الصورة كان لها أسباب متعددة لعل أبرزها عدم وجود حامل إعلامي تنموي على قدر وحرفية العمل في الأمانة السورية للتنمية، كما أنّ الوضع القانوني للأمانة غير واضح بالنسبة للمجتمع السوري فهل هي مؤسسة سورية تتبع لوزارة الشؤون أو منظمة تتبع مباشرة للقصر الرئاسي، تبقى هذه الأسئلة بحاجة للإجابة دوماً لتمكين الأمانة من العمل مع الآخرين وتمكين الآخرين من العمل معها
المنظمات الشعبية تضاءل هنا حجم وارداتها ومخصصاتها من القيادة القطرية لحزب البعث ولم تغيّر كل المؤتمرات التي عقدتها هذه المنظمات بالواقع الحقيقي لها فالخطط والتوجيهات العليا بقيت هي الموجه لسير عملها وربما لم تراعي هذه التوجيهات اتجاهات الجيل الجديد بل على العكس حاولت تثبيت المنطلقات القديمة وبدأت عمليات اعادة انتاج للذات في مواجهة الوضع الجديد في سورية وكأنها حاولت الهروب للخلف معتمدة على ارث قديم ووصفات لم تعد صالحة وفيما كانت التقارير الوهمية والاعداد غير الحقيقية ترفع من القيادات الدُنيا للعليا حول أعداد الاعضاء والمشاركين والفعاليات والأنشطة بقيت قيادات هذه المنظمات في اطمئنان مستمر لا يضطرّها إلى وضع رؤى وآليات جديدة، فمن الطبيعي أن تتشابه خطط ثمانينيّات القرن الماضي مع خطط هذه المنظمات والتي كان تشكيلها في ظروف ثورية استدعت شكلاً معيناً لتسلسل قياداتها، ومع انتقال البلاد عدّة مراحل بقيت هذه المنظمات على نهجها القديم تزداد تمسكاً به وتعمل على تعزيز صلابته بدلاً من الاتجاه نحو ليونة أكبر مع الواقع الجديد
تصاعد دور المنظمات من خلال الانفتاح الاقتصادي والاجتماعي، وكثُرت الفعاليات الثقافية الممولة من السفارات والمراكز الثقافية وانتشرت في المحافظات السورية المهرجانات العربية والدولية وبرامج الشراكة في مختلف المجالات واستطاعت الجمعيات والمنظمات الناشئة ايجاد تأثير فاعل من خلال أعداد كبيرة من الشباب عملت على تأهيلهم ليكونوا الحامل الجديد لعملية التنمية في سورية. ترافقت هذه الجميعات الوليدة والامانة السورية للتمية مع تحولات ملحوظة في المجتمع من خلال إلغاء نظام التربية العسكرية في المدارس وتسابق رجال الأعمال لأخذ مسؤوليتهم الإجتماعية في دعم هذه الجمعيات تقرّباً من السلطة أو تقرّباً من المجتمع
2011 ومابعدها
الأزمة السورية كانت نقطة التحوّل الغير محسوبة والتي غيرت كثيراً في كل مفاصل الحياة في سورية وبالطبع كانت لها تأثيرات جليّة واضحة على النشاط المجتمعي والمدني فلم تبدأ الأزمة حتى انطلقت معها عشرات التجمعات الشبابية التي حاولت دعم موقف الدولة والاعلام والجيش السوري، وفي شكل مسيرات او تجمعات ووقفات شموع شارك آلاف من الشباب السوري في هذه المبادرات بدعم من منظمات الحزب والنقابات المختلفة ورجال الاقتصاد المقرّبين للدولة
على المقلب الآخر ظهرت تنسيقيات ومجموعات عملت على التخطيط والقيام بالتظاهرات والحركات الاحتجاجية وبعضها مارس منذ البداية أنشطة عنفية كالتهديد لاغلاق المحال التجارية، آخرون اهتمّوا بتوفير المواد الغذائية وغيرها، ولايخفى على متابع مستوى التمكين الموجود لدى هذه المجموعات والتي يبدو أن تمكينها واعدادها بدأ قبل أي نشاط احتجاجي في سورية، فقد صوّروا المظاهرات والاحتجاجات وافتتحوا وأداروا صفحات ومواقع اجتذبت آلاف المتابعين، ولقد كانت برامج أميركية قد عملت على تمكين ناشطين منذ 2005 وتمليكهم بعض أدوات الحراكات المدنيّة مثل التدوين وغيرها.
عن المبادرات الموالية للدولة تنوعت أشكال دعم هذه المبادرات منها من كان شعبياً خالصاً من قبل متحمسين لدعم الدولة ورافضين لما يحدث ضدّها، ومن هذه المبادرات من كانت مشاريع للظهور لشخصيات اقتصادية واجتماعية على شاشات التلفزيون وأوراق اعتماد لدى بعض مسؤولي الحكومة للترشح للبرلمان و دعمه لاحقاً، شكل ذلك فرصة لرجال الاعمال السوريين لتثبيت ولائهم فصرفت الملايين على مسيرات سيارات ولافتات وملابس واعلام وحفلات للتأكيد على الوحدة الوطنية
لم يكتف الشباب الموالي بالتظاهر أمام السفارات العربية والأجنبيّة المحميّة بل طُليت سلل القمامة والحاويات بشعارات قنوات إعلامية وأسماء المحرضين على قلب الأوضاع في سورية وتحولت الساحات العامة في بداية الأزمة لساحات يومية للتظاهر إلى جانب الحكومة .حاولت جهات حكومية وحزبية دعم فرق ناشئة لتصويرها كمبادرات شعبية خالصة، وفي فترة معينة تم تنحية دور المنظمات الحزبية والنقابات لصالح هذه المبادرات إلا أن المنظمات سرعان ما عادت للعب دورها التعبوي ابتداءاً من النشاطات الفنية وليس انتهاءاً بتشكيل الفصائل العسكرية المقاتلة
مجتمعياً وبشكل خالص ودون توجهات سياسية كانت هناك هبّة شعبية لاستقبال النازحين من المحافظات السورية واسكانهم وتأمين ما يلزمهم وقد بدأت هذه الهبّات مرافقة لموجات النزوح الأولى من ريف العاصمة وضواحيها ولم تكن الحكومة مهيّأة لأي طارئ من هذا النوع فقام شباب الأحياء والمخاتير بفتح المدارس المغلقة صيفاً أمام هذه العائلات وعمّت الفوضى هذه المراكز فكان المجتمع المحلي يغدق المعونات الغذائية والمادية على الاهالي في هذه المراكز وكانت الجمعيات المحلية تحاول تنظيم هذه المراكز ودعمها محلياً دون أي تدخل من منظمات الأمم المتحدة في وقتها
لم تستمر هذه الحالة طويلاً فسرعان ما بدأت منظمات الأمم المتحدة الاستجابة وبدأ الهلال الأحمر السوري يأخذ دوره الطبيعي في أزمة من هذا النوع فشكلت لجان حكومية للاغاثة ضمت الشركاء المعنين وانتزعت ادارة المراكز من المجتمع المحلي لصالح منظمات أخرى تحت رعاية ودعم الحكومة ولم تتردد الحكومة في توفير كل ما يلزم لهذه المراكز من حراستها أمنياً وحتى تأمين كل الخدمات الاساسية وعملت منظمات الأمم المتحدة على توفير مواد الاغاثة من خلال شركاء محليين وبدأ توزيع الاختصاصات بين المنظمات بجوانب صحية وتعليمية وغذائية وتنموية وغيرها
بدات أزمة النزوح بالتصاعد ولا تخفي معلومات الاحصاءات البسيطة التي حاول ناشطون القيام بها أن معظم النازحين لم يذهبوا لمركز ايواء بل توجهوا لمنازل أقربائهم، فبات من الطبيعي جداً أن تسكن عدّة عائلات تحكمها القرابة والنسب منزل صغير متهالك وبالتالي تضاعفت أسعار ايجارات البيوت في العاصمة وغيرها من المدن الآمنة نسبيّاً وبات النزوح الأكبر متركزاً في الاحياء الشعبية وخاصة بعد نزوح كثير من العائلات من مناطق بعيدة عن العاصمة من حمص وادلب وحلب وغيرها
في هذه الأجواء المختلطة صارت المبادرات والمشاريع الخيرية أصعب من أن يتم احصاءها وتوثيقها، بالطبع كثير من هذه المبادرات كان تأصيلاً للفساد المنتشر بالمجتمع السوري وصورة حقيقة له ولكن بالمقابل عملت كثير من هذه المبادرات والمشاريع على سد نقصٍ لم تستطع الحكومة ولا منظمات الامم المتحدة الوصول له وقدمت خدمات لأماكن من الصعب الوصول لها ووصلت للفئات الأكثر احتياجاً ولكنها بكل تأكيد بقيت قاصرة عن توفير كل الاحتياجات في كل الاوقات، وهذا أمر طبيعي أمام مجتمع فتي تماماً تجاه هذا النوع من الأزمات
تنوعت الفعاليات التطوعية من اغاثية و ثقافية وفنّية ورياضيّة وغيرها حاولت اعادة الحياة والفرح للمدن السورية التي أرهقتها الحرب وانتشرت مئات الفرق التطوعية في الاحياء والقرى وعملت لفترات طويلة بدون تراخيص أو موافقات لكن سرعان ما اتخذت وزارة الشؤون الاجتماعية أدواراً جديدة لتنظيم عملها وترخيص بعضها فظهرت المئات من الجمعيات والمؤسسات الوليدة والنشيطة
عملت منظمات الامم المتحدة على تأهيل وتدريب هذه المبادرات والفرق فأقيمت آلاف ورش العمل والدورات في تخطيط المشاريع وادارة مراكز الايواء مثلاً وتم اعداد آلاف المتدربين على مواضيع الاسعاف الاولي والدعم النفسي والتثقيف الصحي وكان نصيب العاصمة الأكبر من هذه الفرص نظراً للأعداد الهائلة من النازحين ونظراً لتركز نواة مجتمع مدني أكثر خبرة وانتشاراً
مع انتقال الأزمة لمستويات أعقد ظهرت الحاجة للعمل على المجال التنموي فالمجتمع لم يعد بحاجة لسلل غذائية وحقائب صحيّة وملابس فقط، بل بات العمل على مشاريع ذات استمرارية توفر الدخل وترفع المستوى الاقتصادي والاجتماعي بعد فقدان الآلاف لمصادر دخلهم أولوية حقيقية، لكن بالطبع بقي حجم النشاط التنموي خجولاً حتى الآن نظراً للتحديات الكبيرة والاعداد الهائلة من العاطلين عن العمل وعزوف رجال الاعمال عن الاستثمار داخل البلاد وهروب الآلاف نحو أوروبا حلماً بواقع أفضل
في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة تعمل كل المنظمات غير الحكومية العالمية بحرية متباينة من جغرافيا لأخرى بحسب السيطرة المختلفة، فتدرّس مناهج تعليمية مختلفة وتقدم أشكال مختلفة من الدعم الاغاثي والطبي وتعمل منظمات الامم المتحدة في مخيمات اللاجئين في البلدان المجاورة، وبالطبع ظهرت في مناطق المعارضة مئات الجمعيات والمؤسسات الاغاثية والتنموية والتي تبقى أسيرة السياسات المختلفة بحسب داعميها
في أوروبا ودول الجوار واللجوء خلقت مئات الجمعيات والمنظمات للتعامل مع اللاجئين السوريين وهي تتلقى الدعم من جهات مختلفة دولية كمؤسسات كبيرة أوسفارات دول، لدى معظم هذه الجمعيات برامج تأهيل عالية المستوى وخبرات متراكمة نتيجة العمل مع الشركاء الدوليين والفرص والتدريب، كما ان العشرات منها تعمل عبر الحدود مع جمعيات وفرق محلية على مشاريع مختلفة دون تراخيص نظامية أو من خلال غض نظر محلي من جهات أمنية او حكومية
اليوم تخضع عمليات ترخيص أي جمعية ومؤسسة لسلسلة إجراءات طويلة ومرهقة وكذلك تمويل أي مشروع ضمن جمعية مرخصة، كما أن تعميمات صدرت من وزارة الشؤون الإجتماعية والعمل قيّدت مؤخراً عمل الفرق والمبادرات الغير مرخصة أصولاً ومسجلة في الوزارة وهذا فيه تضييق للعمل المجتمعي بشكل أو بآخر
فوضى من المشاريع والمبادرات والجمعيات الوليدة لم ترسم إلى اليوم معالم المستقبل القادم للمجتمع المدني داخل سوريةعلى الأقل، فكل طرف يحاول استثمار واستغلال هذه النوافذ المجتمعية، وبغياب تشريع ينظم عمل هذه المشاريع تبقى المتغيرات اليومية هي المسيّر لهذا الواقع، فالقوانين لم تعدل وفقاً للدستور الجديد 2012 ومازالت سيطرة المنظمات الشعبية تعمل وفقاً للمراسيم والتشريعات القديمة والتي تحكم الرجوع لهذه المنظمات في أي عمل شبابي أو تطوعي مجتمعي، أمّا في مناطق المعارضة فالأمر مرتبط بالحاكم الفعلي لتلك المناطق بين متشددين يعتقلون الناشطين والاعلاميين وفصائل عسكرية تسمح بهامش من الحريات للعمل المدني
رغم كل ذلك يبقى المجتمع المدني السوري حتى اليوم مشروعٌ لم يزل في بدايته رغم كل هذه السنين، فإلى اليوم لم تظهر مؤسسات مجتمع مدني حقيقية وإلى اليوم لم تشكل أجسام سياسية مدنية مستقلّة قادرة على خلق التغيير وصناعته والتأثير في صناعة القرار بمختلف مستوياته ليس المجتمع المدني هو سلل غذائية كما يعتقد الكثيرون من العاملون في هذا المجال فالمجتمع المدني هو المؤهل الحقيقي لقيادة عملية التغيير الحقيقية والانتقال نحو واقع أفضل في كل الصعد
* هذا المقال ليس مقالاً علمياً ولا توثيقياً بل محاولة بانورامية لفهم أجزاء من الصورة المعقّدة للعمل المدني في سورية
وسيم السخلة - حزيران 2020