صورتي في البطاقة المدرسيّة 1999

منتصف أيلول، 1999 دمشق

استيقظتُ يومها مُتسائلاً، ماذا ينتظرني؟ كان الشتاءُ قد حلّ ووالدي يُشعل مدفأة المازوت في صالون منزلنا، ناداني جدّي إلى غُرفته، كانت قناةُ الجزيرة ساعتها تبثُّ إعادةً لإحدى برامجها وكان الصوت مرتفعٌ جداً كما العادة، فتح جدّي درجه الصغير، وكان فيه طاسة صغيرة فضيّة يضعُ فيها قطعاً نقديّة، ناولني قطعتين مُذهبتي الأطراف من فئة ال25 ل.س مُشجعاً ايّاي على أن أكون مجتهداً في المدرسة.

فرحت بال50 ليرة، فقد كانت تُساوي الكثير يومها، بجانب المدفأة ساعدتني ماما ببعض الكلمات التشجيعيّة، ياعيني والله وكبرت يا سمسم وصرت بالمدرسة، كذلك فعلت مروة شقيقتي التي تكبُرني بسنتين، كانت تُهيئُ نفسها للمدرسة بحماس.

الجميع من الأقارب الذين كانوا يتجمّعون في بيتنا كُلّ مساء كانوا يحكون عن المدرسة، حتّى أحسستُ أنّهم يتوعدوني بها. لشهور عدّة حاولت العائلة تسجيلي في إحداى مدارس “الأونروا” القريبة من منزلنا وكان ذلك يتطلّبُ توسطاً عند أحد النافذين، فقد أوقفت هذه المدارس قبول السوريين في مدارسها بعد تنامي الأعداد المُقبلة عليها نظراً لجودة تعليمها العالية. 

ومع هذه الخيبة تمّ تسجيلي في واحدة من المدارس الحكوميّة في مشروع دُمّر، مدرسة سعد بن عبادة. ريثما تتمكّن العائلة من توسّط شخصيّة “أنفذ” لقبولي في مدرسة “الأونروا”، وهذا ماحدث بعد سنتين.

لبستُ بنطالاً أسود دافئ اشتريناهُ من مؤسسة يا هلا للألبسة الموحدة في مشروع دُمّر ومازلتُ أتذكرُ كم كانت مُنتجاتهم مُميّزة حتى دهبتُ للجامعة، مع البنطال لبستُ صدريّة رصاصيّة لها جيبُ مربّع في طرفها، وزنارٌ قُماشي من نفس لونها، المشهدُ جديد، في الروضة كان لباسنا بيجاما صيفيّة وشتويّة، وهذه المرّة الأولى التي ألبسُ بها صدريّة وكانت أزرارها البُنيّة في احدى طرفيها، بعد أن زرّرتُ كًلّ الأزرار بقي واحد، فجاءت ماما وأعادت فكّهم وزرّهم.

وضعتُ الفولار البرتقالي حزمتهُ ماما بجوزة (عقدة) بُنيّة اللون محفورة، الفولار مُحاطٌ بإطار كحلي، وعليه شارةُ طلائع البعث التي تُمثل شخصيّتين لتلميذ وتلميذة ويشُعّ منهما نور والشعارُ يُشكل ملامح درع. 

أيضاً لبستُ السيدارة، كُحليّة اللون وتخترقُها خطوط برتقاليّة وفي مُقدمتها طبعةٌ صغيرة لشعار الطلائع. 

أخذتُ الحقيبة الجديدة، كان لونها كحليّ ومُحاطةٌ بحدود حمراء، ملأت والدتي مقلمة الجينز الكلاسيكيّة من ماركة شيكّو وكان لدينا اثنتين، كحليّة لي وصفراء لمروة. إلى جانب السندويشات الناشفة من جبنة الشرق كانت الحقيبة شبه فارغة مع دفتر وحيد يومها، وكأسٌ بلاستيكي يُمكن فتحهُ بحلقات وإعادهُ إغلاقه، ولهُ ميزة وحيدة أنه قابل للطي، ولهُ سيئةٌ أكيدة أن سيطوى بين يديك وأنت تشربُ منه، فتتخلصُ منه خلال أيام.

اصطحبني أبي بسيارة عمّي الكولت ميتسوبيشي القديمة، في الطريق إلى المدرسة مررنا بروضتي، روضة البراء النموذجيّة، وهي أجملُ ما شاهدت عيني وعاشت ذاكرتي! 

وصلنا للمدرسة كان لها باب كبيرٌ أسود، يُشبهُ بوابة سجن كبيرة، لم أكن أعرفُ سجناً من قبل، لكنّني لمحتُ هيئته في واحد من المسلسلات السوريّة رُبّما كان مسلسل عودة غوار.

تطابق المشهد تقريباً، خلف الباب الأسود بناء شاهق مُخيف بلون تُرابي صحراوي، بلاط الباحة كان باهتاً جداً وكان تراكباً لمجموعة مربعات متداخلة، ساريُة العلم ترتفعُ كثيراً، الطلاب يصدرون أصواتاً وضجيجاً دون أن يحركون شفاههم. 

بدأتُ أشعرُ بالقلق، ها أنا في عالم جديد كُليّاً بعد 3 سنوات من روضة البراء، حيثُ العُشب الأخضر، والبناء البديع، والزهور الكثيرة، وألعاب الرمل والمراجيح والمسبح والدراجات الكثيرة والأبواب الملونة وكلّ تفاصيل الأناقة والجمال. 

صاح المعلمُ ترادف، صاح الجميعُ “ثورة” ثمّ وضع أحدهم يده على كتفي فنظرتُ إليه مستهجناً، بلحظة أدركتُ أنّ الجميع يفعلُ هذا ففعلت.  

في هذه الوقفة ردّدتُ للمرة الأولى أمة عربية واحدة.. ذاتُ رسالة خالدة، لقد حدثتنا المعلمة كثيراً عن الأمة الواحدة لاحقاً لكن لم يُحدثنا أحد عن الرسالة الخالدة.

بعد عمليّة فرزٍ مُعقدة انتظمنا في الصفوف، وكان الصفُّ الأول الشعبة أ، المكانُ غريب عليّ، فالمقاعدُ حديديّة، خشبُها مليئٌ بالذكريات والكتابات، الشبابيكُ مسوّرة بإحكام، الجدرانُ بلونين أسوأ من بعضهما، رمادي ورمادي غامق حديدي، يالله أين أنا؟ 

كان آنسةُ الصف الأول “ماجدة حربة” مدرّسة قديرة مشهود لها بالحزم والجديّة وكانت شقيقة صديق والدي المقرّب جداً رحمهُ الله، رحبت بي بحرارة وجديّة، وأجلستني في المقعد الأول، وكان والدي ينظُرني عند باب الصف الموارب، بدأت المعلمة بضرب الطاولة أمامها للفت انتباه الطلاب ومنع الضوضاء، وهُنا انفجرتُ تماماً بالبُكاء. 

لم أكن أصرخ كُنت أبكي فقط، دخل والدي وجاءت الآنسة لقربي تسألني لماذا أبكي، عجزتُ عن اختراع جُملة أجيبُ بها وعيناها تنظرُ إليّ بتودُّد، بدّلت لي نُسخة الكُتب القذرة التي وضعت أمامي بأخرى أكثر جدّة بطلب من والدي، لكنّني استمريتُ في البكاء.

حزن والدي كثيراً لأنّهُ لم يعرف ماذا يفعل بالضبط، أما أنا فكنتُ أبكي هذا المشهد الباهث بعد روضة البراء التي تخرجتُ منها وصارت ماضياً لايُمكن استعادته. 

استمرت موجة البُكاء حصّة كاملة، ثم جفّت الدموع على الأغلب، بدأتُ بفتح الكُتب يالله كم كانت ناشفة وكريهة، كتبت الآنسة على اللوح المطلوب منّا احضاره، دفترٌ يُجلّدُ باللون الأحمر اسمه دفتر نهاري 100 طبق، ودفتر مجلّدٌ باللون الكحلي أو الأزرق اسمهُ دفتر ليلي 100 طبق أيضاً، قلم رصاص، ممحاة، مبراة، مسطرة.

كما حذرتنا من احضار الأقلام الزرقاء أو أقلام الحبر أو حتى أقلام الرصاص ذات الرؤوس القابلة للتغيير. قالت لنا بالحرف: بكير عليكن. 

نزلنا إلى الباحة كان والدي قد غادر بالفعل، رأيتُ التلاميذ يشترون من شُبّاك صغير، توجهت لأفعل مثلهم، فشلت وبقي القطع النقديّة في جيبي! 

كان الإزدحامُ شديداً وفجأة رنّ الجرسُ مُعلناً انتهاء الفرصة، صعدنا إلى الصف، أكملت المُعلمة تعريفنا بالمدرسة والحفاظ عليها والحفاظ على الكتُب، ضاع الوقت وهي تسألنا عن أسمائنا وسكننا وماذا يعملُ أهلنا، علّمتنا ضرورة الوقوف عند دخولها الصف أو دخول المديرة. 

انتبهتُ أخيراً إلى طفل مسكين إلى جانبي، كان أنفهُ يسيل قليلاً وبقي كذلك كُلّ السنة، لم يكن لهُ همٌّ أبداً، حسبتهُ قضى حياته السابقة في المقعد نفسه، كان لاينزلُ إلى الفرصة بل يكتفي بالتهام سندويشة يُمسكها بيديه الاثنتين، ومازلتُ أتساءل لماذا لا يفلتُ يدهُ الأخرى؟ 

اكتشفتُ لأول مرّة وجود لغة أخرى غير العربية، كان يحكي بها بعض التلاميذ بينهم، سألت والداي في المنزل عن معنى الكرديّة، ولا أتذكرُ جوابهم اليوم! 

صار لي أصدقاءاً كُرد، أحببتُ ذلك، عرفتُ في الأيام التالية أنّ عليّ مُصادقتهم، لأنهم يحمون بعضهم بعضاً، كانوا نصف المدرسة.

هكذا اذا مضى اليوم الأول، كانت احدى عيناي ترى الصف والمعلمة وعيني الأخرى ترى الماضي وتُقارن بين حديثين، وبين بنائين، وبين صفين، ولاحقاً حياتين.

وجدتُ والدي في الخارج مع عمّي أيضاً، أمسك والدي الحقيبة عنّي وصار يسألني فلا اُجيب، بماذا أجيب؟ 

كان يوماً طويلاً بدموع كثيرة

وسيم السخلة