لايمكنك أن تُقابل أحداً من حلب إلا وسيتمنّى لك في بداية ونهاية حديثه السلامة، ميت السلامة خيّو/أخوي والوجوه الحلبيّة حامية ودافئة وكلامهم عن المدينة والحرب يُشعرك أنك بحاجة لضمّ المدينة وأهلها، ببساطة هذه المدينة تمّ تخريبها، والحياة هُناك ثمّة من حاول تعطيلها لكنّ الهمّة الحلبيّة تتجاوز ذلك مع كلّ إشراقة صباح يتوجه فيه الحلبيون إلى ورشهم لإعادة تصنيع حياتنا، حلب هي مصنع سورية. في بعض المشاهدات أحاول إجمال المدينة كما لمستها هذه المرّة
1. الطريق إلى حلب أصبح أقصر مما نعتقد
في السنوات الماضية التي زرتُ فيها حلب كان الطريق مرهقاً جدّاً وطويلاً جدّاً، أما في هذه المرّة ومنذ إعادة تشغيل الطريق الدولي نحوها كاملاً أصبح آمناً وأصبح سهلاً بلا مطبات وبساعات أقل وعبر رحلات منتظمة للبولمان يمكننا مثلاً الذهاب من دمشق إلى حلب ذهاب أو عودة بمبلغ 4500 ل.س (للقرّاء من خارج سورية المبلغ يعادل أقل من 2$ في وقت كتابة هذه التدوينة) والسفر في كرسي مريح وعبر شركات متعددة، والمفاجأة الألطف أن تشغيل القطار مع دمشق سينطلق خلال أيام!
2. إلى “ورشة” لو سمحت
شريكي الأساسي في حلب هو أنطون مقديس، تعرّفت إليه منذ سنوات في دمشق وجمعتنا مشاريع وأحلام أجزم أننا لو أردنا تحقيقها سنحتاج قرناً جديداً على الأقل، وصلتُ ليلاً ودعاني أنطون لمقر ورشته الفنيّة والثقافية وسمّاها “ورشة” دخلت إلى المكان الذي فاجأني بديكوره البسيط والمبتكر، طاولة تتوسط الصالة على طريقة الورشات تحيط بها الكاميرات واللابتوبات والكتب، بالإضافة لبعض الأدوات القديمة التراثيّة، اسمعتُ إلى المجموعة التي تحضّر حلقة جديدة من برنامج “بلا معنى” ودارت نقاشاتنا المعقدة الطويلة المؤجّلة منذ سنة على الأقل. استطاع أنطون خلق أجواء لإنتاج ثقافي يشبه المدينة ولعلّ قصته المطبوعة “مغامرات جوري” باكورة مهمّة من هذا النتاج إلى جانب مجتمع سماور وبرامج ورشة الأخرى.
3. خيو هي مفتاح البيت، صرت جاري
رغم أنّ الوقت كان قد تأخّر إلا أنّ والدة أنطون ريما وهي صديقتي أيضاً كانت ما تزال تنتظرنا، تأكدت أنّ لديّ ما أحتاج للنوم في المنزل المجاور الذي سأقطنه خلال تواجدي في حلب، وكان لابدّ من بانوراما للحياة في حلب قبل وخلال الحرب على ضوء الشموع ومع رائحة دخان أنطون (الكريهة) حمرا طويلة. هذه العائلة رفضت الرحيل رغم إمكانيّته، ريما تتنفّس حلب كما عائلتها.
4. باركود للمراسلات في ديوان وزارة التربية
في الصباح توجهت إلى مديريّة التربية لإتمام أوراقي الرسميّة التي تمكنني من حضور صفوف مدرسيّة كجزء من أدوات رسالة الماستر الخاصة بي، اللطيف أن مديرية حلب هي الوحيدة بين المديريات التي زرتها و يتضمن ديوانها المركزي باركود تمّ إلصاقه على الكتاب، وبالتالي تخلّصوا هناك بالفعل من سجلات الصادر والوارد وأصبح كل هذا ملف إلكتروني في صالة تبتسم لك الموظفات فيها بتهذيب على طريقة شركات الإتصالات المتقدمة.
5. مساحة عمل رائعة في حلب!
أتابع إنجازات الأصدقاء وأعمالهم وكلّي ثقة بأهميّة ما يقومون به، ولكنني وبصدق لم أتصوّر أنهم تحدّوا ظروف كثيرة ليبدأوا مساحة عمل أنيقة في المدينة لاتفرق كثيراً في أهميتها عن مساحات العمل في المدن التي زرتها خارج سورية، إلا أنّ ما يميّزها أيضاً أسعارها المعقولة والكراسي المريحة، الانترنت كان ممتازاً والكهرباء لاتنقطع، كما أنها مساحة للقاء أصدقاء وزملاء عمل جمعهم انقطاع الكهرباء وربما إحدى صالات الإجتماعات المتاحة. المثير أيضاً أنّ الصورة التي وضعتها من الخان وجد فيها بعض الأصدقاء المسافرين واجهات مكاتبهم السابقة أو بيوتهم في نفس الحارة تماماً، هذه حلب في كلّ جزء منها يتشارك الكثيرون الذكريات والحاضر والمستقبل. زوروا صفحة الخان على فيسبوك
6. سهرة البربارة الدافئة
في ليلة البربارة كنّا على موعد مع سهرة دافئة في بيت أنطون، حيث دعت العائلة أصدقاء أولادهم وتحلّقنا حول الشيمونيه لتناول المأكولات اللذيذة التي صنعتها والدة أنطون، وكوني نباتيّاً فلم يكن من الصعب إيجاد أطباق تناسبني رغم حفلة الشواء على الأسطوح، السليقة كحلوى تقليدية تصنع في هذا اليوم المبارك كانت حاضرة أيضاً ورغم انقطاع الكهرباء التي جاءت أخيراً فقد جعلت حرارة العيد وابتسامات الأصدقاء من تلك الليلة ليلة مميزة وحنونة.
7. معلّمة وطنيّة تتحدى ظرف ال60 طالب في الصف
لم يخطر لي على بال أن تكون المدارس التي قصدتها تضمّ أكثر من 60 طالب في كلّ صف مدرسي، لقد كانت مفاجأة غير سارّة رغم مرور سنوات على استعادة المدينة ووجوب إصلاح المدارس المتضررة. الجميل أنّ مدرّسة مادة تربية وطنيّة فاجأتني بأنها تعلّم دروسها وفق طرق تعلّم حديثة كاستخدام مجموعات العمل والبطاقات الملونة، وبشخصيتها الجميلة تستطيع ضبط صف يضم هذا العدد الكبير، اذاً هذه معلّمة تحدّت ظرفاً صعباً وتستطيع من خلال ساعاتها في المدرسة تحقيق ما نحلم به جميعاً من صفوف غير تقليدية تعتمد العمل الجماعي.
8. عند مطعم أبو آغوب وحنّا كعدة في مقهى الشباب
ربّما أكثر ما يميّز حلب حتى اليوم قدرتها على الصمود، والصمود هنا ليس ذلك المستخدم في الأخبار بل هو صمود الحوانيت والمشارب والمقاهي والمحلات الشعبيّة في وجه نمط الحياة الحديث والفخم والذي بدأت معه دمشق تفقد هويّتها، في حلب ما تزال هذه الفضاءات متاحة لكلّ الناس، رخيصة، ممتعة بدون تكلّف، منتشرة، وتتعاطى مع الزبائن كأصدقاء، على سبيل المثال قضينا سهرة ممتعة وضاحكة وعشاء لذيذ عند أبو آغوب، كما كانت لنا صباحيّة مهمّة في مقهى الشباب ونحن نرى مجموعات المتقاعدين تتحدث بشؤون البلد وتخلطها مع شؤنهم الخاصة بصوت عالي، وكأن المقهى طاولة واحدة، أيضاً كان هناك من جلب الياسمين منذ الصباح ليقرأ مجلّة الموقف الأدبي.
9. القلعة لجميع الناس
في جولة صباحيّة لمحيط قلعة حلب يوم الجمعة استرعى انتباهي رحلة مدرسيّة لمدرسة مختلطة من ريف المدينة، كانوا يرقصون على موسيقى شعبيّة تُعجبهم، في مكان آخر بائع القهوة المرّة بلباس تقليدي يضرب شعراً مع كلّ فنجان ويغيّر فيه حسب اسم الشارب، في مكان آخر ثمّة من يستمتع بهدوء ويشرب قهوة، مصور جاء مع مودل لتصوير بجانب القلعة، في الأفق أولاد عادوا لتوّهم من فرن الخبز، أما نحن فقد جلسنا للتأمل وأحد ما طلب اسبريسو مع النستله! أيّ مشروب هذا! اذا القلعة للجميع يفعلون بها ما يحلو لهم ويحبونا بطرقهم المختلفة.
10. بيانو حلب، لا أحد يستطيع إيقاف الأفكار الجميلة
بدأنا بيانو (لقاءات إسلاميّة مسيحيّة) منذ سنوات، وأقيمت نسخ متعددة من بيانو في محافظات مختلفة، كان أنطون شريكاً أساسياً واليوم يقوم بعدّ نسخ بيانو الحلبيّة والتي جاءت مختلفة بعض الشيء، إنّ الأفكار الجميلة تنتشر وهذا ما يجعلني سعيدٌ دوماً أنّ ما ننجزهُ يبقى ويستمر ويتوسع أثره ولا بُدّ أنه يصير أغنى في كُلّ مرّة ومع كلّ شخص وكلّ مجموعة.
هذا ليس كُل شيء عن حلب، لاتكفي حلب مدونات طويلة ولكنّها مجرّد مشاهدات وخبرات أحببتُ تشاركها، ومية السلامة يا جماعة.
وسيم السخلة – شتاء 2020