هالدّني بتساع الكل <3 - Life can accommodate everyone

Tag: syria

قبل أن تدخل سبيستون، كانت الأتاري

كان الزمن جميلاً. هذه خلاصة بسيطة تماماً ومباشرة، لم تكن حلقات الصراخ والحماس حول تلفزيوننا الصغير الرمادي والبيج والموصول إلى لعبة أتاري متواضعة عبثاً، كانت الحياة، هذه المتعة الخالصة لم تعد تضاهيها متعة أخرى الآن، بالنسبة لي على الأقل.

حصلت على هذه الرائعة بالأمس بعد 20 سنة مرّت

الشرائط الصفراء غالباً والرمادية أحياناً كنّا نحملها كما نحمل اليوم أغلى ما نملك، الشرائط قد تعلّق وترتفع حرارتها فنعاجلها بالنفخ على طرفها، ثم نعيد النفخ ونعيد، حتى تعاود العمل، كم تملك من الأشرطة؟ هذا كان رصيدنا في تلك الحياة الماضية، ولربّما كُسر أحد هذه الأشرطة يوماً فاكتشفنا نقطة سوداء على دارة الكترونية خضراء حسبناها في البداية عطل أصابه لنكتشف لاحقاً أنّها الشريط أصلاً؟

لم يكن الحصول على لعبة أتاري – وهذا اصطلاح شعبي لكل أنواع الأتاري من انتاج سيجا ونتيندو وأتاري وكوليكو وغيرها- إلا غاية الغاية لنا، كنا ننجح بالمدرسة لأجلها، نعم كنّا ننتظر علامات جيدة ليس لأننا نحبّ العلم بل لأن الأتاري وعدٌ يُستحق في حال النجاح، حتى دخلت سبيستون ونيو بوي بعدها وغيرت حياتنا، أو لربّما كبرنا فجأة وصرنا نذهب لنقتل بعضنا في ألعاب كاونتر ستراك وهايف لايف ولندمر دولنا بالسلاح النووي الذي حرّمناه في بداية اللعبة حتى نبني مدناً عسكرية تصنّع الجنود في لعبة ريد أليرت طويلة.

الأتاري ليست لعبة فرديّة، كنّا نجتمع سبعة وقد نصل لعشرة أو أكثر، البناء الذي نسكنهُ في دمشق لم يكن بناءاً تماماً، ترك جدّي الشاغور واشترى أرضاً في دمّر، عمّر بيتاً كبيراً تقريباً في هضبة متوسطة تسمّى اليوم الحارة الجديدة وتحيط به أرض الديار وبحرتها كانت تعمل في أغلب الأوقات، ثم قرر جدّي تزويج أعمامي فاقتصّ كلُ واحد منهم جزءاً من السطح وأنشأ عائلة، كنا محظوظين بالتأكيد أن عائلتنا الصغيرة هي من سترافق جدّي وتبقى في البيت الكبير، لم يكن يوماً بيتنا لوحدنا، كان بيت العائلة ولهذا أرض الديار كانت للجميع وكان أولاد العم يملؤونها نهاراً حتى يصيح جدّي من شباكه أو يُخرج عكازه من الشباك ذاته مهدداً، فيهرب كلّ منهم إلى بيته، لم يكن الشارع ملعبنا، كانت أرض الديار وصالون بيتنا الحارة الأساسية لأولاد العائلة جميعهم.

إلى منزلنا حضرت الاتاري لأوّل مرّة من أولاد عمّنا في بيروت، كانت سوداء فيها زرّين أزرقين، واحد للتشغيل والآخر لإعادة التشغيل، لا أعرف لماذا استغنوا عن زرّ إعادة التشغيل في الأجهزة الحديثة اليوم، من كان يضع يده على زر إعادة التشغيل كان يهدد كلّ اللاعبين ليحظى ربّما بدور “دق بالإصطلاح الشعبي” ولهذا فإن أي طفل يضع يده كان يهددنا بالفعل وخاصة اذا كنّا قد وصلنا وختمنا مراحل متعددة أو كان التنافس في أشدّه، هل تذكرون تلك اللحظات التي يهدد بها طفل أصغر منكم أهم ما تقومون به في حياتكم الماضية؟!

كان بيت عمّي رياض أوّل من يحضرون الأجهزة الحديثة في العائلة، من الكومبيوترات والموبايلات والمكيفات وغيرها، أحيّ عمّي رياض أجرئ من في العائلة لتجربة الأشياء الجديدة، كانت لديهم الأتاري السوداء ماركة أتاري الكبيرة الأصلية مع يد التحكم التي تشبه “فرام الإيد” وكان لدى بيت عمّي طارق أتاري نتيندو لونها خمري، أما نحن بعد السوذاء فقد اشترينا الكيبورد البيج والرمادي عندما تفوّق أحدنا في صفّ مدرسة، على الأغلب اشتريناه من مضايا ولكنه لم يزد شيء عن السوداء القديمة سوى بأزرار الحروف و برشاش نصوّبه إلى الشاشة ونقتل البطات التي كانت تطير بسرعة، فيخرج منه ضوء ليزر أحمر قيل لنا وقتها أنه يصيب بالسرطان ولذلك علينا استخدامه باتجاه الشاشة فقط.

كان يبلغ سعر الشريط في بدايات الألفية في سورية حوالي 60 ليرة سورية، ما يساوي اكثر من دولار في وقت كان مصروفنا اليومي العادي يتراوح بين 10 و25 بحسب اليوم، أيضاً يوم الخميس كنت أحظى ب 50 ليرة على الأقل لممارسة تسالي نهاية الأسبوع، هذه ال50 ليرة كانت تكفي سهرة كاملة دورين كاونتر سترايك ” تيمين بالإصطلاح الطفولي!” مع شبرقة على سندويشة سناك جاهز أو كولاية تنك مندرين وغالباً على طعم الفينيتو!

كانت الفرحة بشراء شريط جديد، تساوي ضعفي فرحتي عندما اشتريت أوّل جهاز أيفون منذ سنوات، الفرق البسيط أنّه كان يمكنني في كل أسبوع تقريباً الشعور بهذه النشوة ولكنني قد أحتاج سنة كاملة لمجرّد التفكير اليوم في تبدل جهازي الأيفون بآيفون أحدث منه.

الأتاري لم تكن لعبة، كانت تجربة حياة، ولم تفلح كلّ ترجيات أهالينا لنبعد عن الشاشة لأجل عيوننا، إلا عندما اشترينا يدين للعب أشرطتها طويلة ولكن لم نبتعد كثيراً فشاشة تلفزيوننا صغيرة أما التلفزيون الكبير في علبة الخشب من ماركة سيرونيكس كان في غرفة جدّي وهو مخصص للقنوات الإخبارية والفضائية السورية في مقدمتها وخصوصاً نشرة ال8:30 مساءاً من كلّ يوم.

لعب الاتاري علّمتنا الكثير! كيف ذلك؟

الصبر فقد كنا ننتظر موت شريكنا في اللعب في ماريو مثلاً لأكثر من ثلث ساعة ونراه يتقدم على شخصية لوجي في المراحل! كانت موسيقى الاتاري مميزة، بسيطة رنّانة تُفرحنا عدا نغمة خسارة اللعبة غييم أوفر! الاتاري علّمتنا تقاسم المتعة، لن تستمتع اذا جلست وحدك! علّمتنا المشاركة أعيرني أشرطتك لأن اليوم لدينا أولاد خالتي مثلاً وأنا أعيرك أشرطتي عندما يزوركم ضيوف معهم أولاد.

الاتاري علّمتنا الاقتصاد، لن يشتروا لنا أكثر من أتاري واحدة هذا الصيف، علّمتنا التوفير، وفر من مصروفك لتشتري أشرطة جديدة وتباهي بها، علّمتنا الكثير عن شخصيات أسيوية وصينية وربّما أسماء، كما أنّ ألوانها المحدودة والفاقعة غالباً ستبقى تعني لنا لذّة اللعب والمتعة دوماً

الاتاري كانت في وقت مضى.. كلّ شيء

وسيم السخلة، خريف 2020

فيق يا سُمسُم، قبل المدرسة بساعة

كما أبدو في اللباس المدرسي للصف السابع شتاء 2006

أغمض عيناي لدقائق ثم أدرك أنه لا فائدة، في تلك الأيام المبلولة من أيلول حيث كان من الممكن أن نستفيق على ارتطام حبّات المطر بشباك غرفتنا الكبير، كنّتُ أخدع الصباح وأبقي عينيّ مغمضتين مع أشعة الشمس المنكسرة نحو غرفتنا، كان الشبّاك على منور خلفيّ غطته بيناية حديثة بنيت بجانبنا. ثم يمضي الوقت بسرعة وأسمع صوت ماما تنده لي للاستيقاظ، أسوم، وسوم، سمسم يلا حبيبي يلا فيق، مروة يلا يا مروة يلا أمّي يلا

كان يرتفع صوت فيروز غالباً في الصباح بعدها بسنوات كان صوت القرآن الكريم أكثر ما يرتفع في صباحات بيتنا، وخاصة قناة المجد الخاصة بتلاوة القرآن، أمّا أكثر أغنية كانت تعلق بذاكرتي من تلك الصباحات هي حبيتك بالصيف.. حبيتك بالشتي.. وجسر اللوزيّة..
لم تكن مهمة أبي يوماً أن يوقظنا أنا ومروة قبل أن تولد صفا وأسامة، بل كانت مهمته الأساسية في صباح شتائي أن يُشعل الصوبيا، الصوبيا التي يمكن أن تنفض أحياناً فيلحقها بشتيمتين خفيفتين، كانت العنصر الأهم في تلك الصباحات، للصوبيا قاعدة في أعلاها نغلي فيها أوراق الكينا الخضراء التي نقطفها من أمام بيت جيراننا سكريّة، ولبوري الصوبيا ما يُشبه حبال الغسيل نجفف فيها الغسيل في الأيام الماطرة.

بعد أن أغسل وجهي كنتُ أقترب من المدفأة حتى أكادُ ألامسها وكانت لاتبخل بدفئها أبداً، مراقبة قطرات المازوت تخفيفها وزيادتها متعة خاصّة، بالعموم لن أتمكنّ من وصف مايحدثُ حول المدفأة في بيت شاميّ أكثر من صديقتي العتيقة منى الصابوني في مجموعتها القصصية “حول المدفأة”.

صوت أبي وهو يشربُ القهوة التي هي أوّل ما تهتم به ماما عندما تستيقظ، دلّة الميرمية أو الشاي التي كانت ماما تحضّرها في الصباح، الميرمية مشروب شتائي كان يُشعلنا دفئاً، طعمه المرّ لم يكن لذيذاً بل شتوياً فقط وكنت قليلاً ما أفطر، لم يكن الطعام شهيّاً أوّل الاستيقاظ بالنسبة لي، مكدوس وزيتون ولبنة مدعبلة هذه أبرز عناصر الفطور وإلى جانبها علبة كبيرة من جبنة الشرق الصفراء التي كانت ماما تلفّ لنا منها سندويشات المدرسة بخبز الفرن العادي ثم تقسّم السندويشات وتضعها في أكياس النايلون، وجود السندويشة في حقيبتك يُشعرك بالأمان كلما تناولت كتاباً لحصّة في المدرسة، قد لا آكلها خلال نهار المدرسة، وقد أتذكرها في طريق العودة وقد تلقطها ماما في يوم العطلة حيث تنظف الشنتة ثم نسمع بهدلة قصيرة لأن السندويشة نشفت ولم تعد صالحة للأكل فنراها وقد وُضعت في أرض الديار للعصافير.

غالباً اليوم هو يوم أحد، ماما تكوي الثياب التي تركت على بوري الصوبيا من الأمس، للكوي رائحة، الخيوط والحرارة العالية لابدّ لها من رائحة، ولدفء الصدريّة البنيّة (على طريقة النظام الكوبي لعسكرة الطلاب) أو القميص الأزرق السماوي المكويّ توّاً لذّة ساحرة، غالباً ما نطرق باب الحمام نستعجل بعضنا، ثم نلبس باقي الملابس نحمل الشنتة.

تلحقنا ماما بفرشاة الشعر، أنا لم أكن أستخدم المرآة، كانت ماما مرآتي، تمشّط لي شعري وتشدّ جوزة فولاري البرتقاليّ، ماما كانت تضع لي الساعة الجلدية التي أهداني إياها بابا من ماركة أوماكس، ماما كانت تظف جيوبنا من بقايا المحارم البيضاء، ماما كانت تلحقنا بالسندويشات جبنة صفراء دهن، لبنة وخيار وسندويشة زعتر كانت غالباً ما تبقى لليوم التالي في الشنتة، شنتة المدرسة الثقيلة، الكتب السميكة فيها تجعلنا نشعرُ أننا نحمل العلم وهاهو يكسر ظهرنا، يالله تلك اللحظات التي نغالب فيها النعاس..

نخرج إلى أرض الديار غالباً ما يكون المطر قد توقف وبقيت قطرات عالقة في عريشة العنب تثقل الأوراق وتهطل على الأرض، وإلى داخل البحرة الصغيرة في أرض ديارنا، نبحث عن فردات الجرابات الضائعة، الجرابات الكحلية غالباً والرمادية أحياناً، نبلس بوط الفتوّة الأسود، نحاول تلميعه، وقبل المحطة الأخيرة ندخل إلى غرفة جدّي الضاحك دوماً والذي كان يغضب في ثانية، يفتح درج الخزانة العسليّة الصغيرة بجانب سريره هناك ما يُشبه طاسة من الستيل تحولت فيما بعد لبلاستيك شفاف يضمّ فيها القطع المعدنية، ينادينا لأخد عشر ليرات أو 15 ليرة وفي أيّام خيّرة كانت ال25 المذهبة هي أجمل انتصار صباحيّ، نأخذ رضاه بدون بوسة يد ثم نودع ماما بنظرة وابتسامة، ننزل درجات أرض الديار البيضاء.

في الحارة نجد أولاد العم الذين يملؤون حارتنا، الصغار والكبار، فولارات ملوّنة وبدلات خاكيّة ثم صداري بنيّة وبدلات كحليّة للشباب ورماديّة للبنات، ننتظر الميكرو سيرفيس، نسعى للنزول باكراً حتى يأخذنا بذهابه من بيته في حارة قريبة ليجمع الطلاب، فنجلس على الشباك أولاً وندور معه نحضر الأولاد وربّما انتظرنا أحدهم فنزعق في الحارة حتى ينزل ونحن نسمع سُباب عائلته لأنه تأخّر، كان عمّو معتز يشغل لنا أغاني فيروز في الذهاب، في الحقيقة كان يكبس الراديو كبسة واحدة وكلّ الإذاعات السوريّة تضع فيروز، وفي العودة كانت نجوى كرم غالباً فقد كان معجباً بها كما يبدو، يسيرُ السرفيس بسرعة جنونيّة ليلحق مدرسة أخرى، كانت السرافيس المخصصة لنقل 14 راكب تسع 25، ونحن فرحين، كنّا أشبه بقطيع مدرسيّ.

كان طريق المدرسة فرصة لسماع جعيرنا المشترك وكأننا كورال شعبي شوارعيّ، أما عند الوصول لباب المدرسة فهنا يكون الإختبار الأوّل لصبرنا لهذا اليوم، هل نشتري البوشار أو الترمس أو الفول أم ننتظر للفرصة الاولى؟ تلاحقنا أعين الباعة حتى دخول باب المدرسة.. كم من أيام انتهت العشر ليرات قبل أن أدخل باب المدرسة.

وسيم السخلة، صيف 2020

© 2024 Waseem Al Sakhleh

Theme by Anders NorenUp ↑