عندما تقرر أكل الناعم، أنت تلقائياً تُقبلُ على رحلة مجهولة النهاية، فيها شيئ مؤكد وحيد، أنها سعيدة

تخيّل وأن تمسك شيئاً تعرفُ أنه سينكسر، سيملئ أصابع يديك بالدبس، وسوف لن تعرف أن تقسّمه كما تفعل مع الخبز أو مع الكعك، فقوّة وهشاشة الأجزاء في رغيف الناعم غير متساوية، بالتالي فأنت عندما تقسمه لنصفين قد يقسمُ نفسه لعشرة أجزاء، واذا قررّت أن تأخذ كسرة صغيرة قد تجد ثلث رغيف بين يديك.

العشوائيّة التي يشكلها الناعم في ارتفاعه وانخفاضه كأنها صحراء لحقتها عاصفة بالأمس، أما سيول دبس العنب أو دبس التين، أو دبس الخروب، فعلى اختلاف ألوانها وكثافتها تجري كأنهار وسيول، وقد تشكّل بعض التجمعات القاتمة، وأنت تأكل الناعم قد تجد واحة من الدبس، فإذا وصلتها وجدّتها واحة بالفعل وليس وهماً كما يحدث في الصحراء.

الناعم مرتبط بالجماعة، في ذات الوقت هو مأكول فرديّ، ولا أدلّ على ذلك إلا فكرة أكله رغم الشبع، حيث يسعى كلّ فرد لاقتطاع حصّته وعدم التأجيل، لأنهُ يعرفُ مسبقاً أن فرداً آخر من العائلة سيقضي على حصته ولن تفيده أي معاهدات سابقة تسري على باقي الحلويات أو الفواكه، أو حتى تلك العادات الإجتماعية، سيأكلون رغيفك ولو كنت أنت الأب.

ليس للناعم قياس واحد، ولا لون واحد، ولا سعر واحد، كما أنه ليس له ارتفاع معيّن وبالتالي فقد اخترعوا علباً للفلافل حتّى، ولكنهم عاجزون عن اختراع علبة للناعم، ليس للناعم تاريخُ صلاحية لأنه لايبيت أصلاً، فلا بسطة ناعم إلا وتنفّق ماعندها قبل الفطور، ولا منزل يبقى فيه الناعم أبعد من أذان العشاء، الناعم بعد الفطور سلعة مفقودة لاتجدها في الأسواق ويخبّئها الناس أمام زوارهم، ويبقون قلقين من أن يتسلل أحد أولادهم للمطبخ فيرى الناعم فوق رؤوس الفرن، غير قابل للاختباء في خزانة أو براد.

الدبس فوق الناعم هو لوحة تشكيليّة، يستحيلُ أن تعاد مرّتين، كما أنّ لكلّ بسطة طريقتها في وضع الدبس، فمنهم من يدوّر الشوكة الخشبيّة الكبيرة ومنهم من يأتي ويذهب بها بشكل متوازي، ومنهم من يقاطع الخطوط كشبكة ومنهم من اخترع طرقاً سريّة أخرى بحيث يقنع الشاري أن الرغيف ممتلئ وأن زيادة الكميّة تزيد المرار وتُذهِبُ العقل.

القرمشة في نهش الناعم مسموحة، لاتشبه أي قرمشة أخرى، انها قرمشة ذات صوت منخفض، ناعم، يتضائل تدريجيّاً حتى يختفي ويختفي معه همّ صاحبه وتذمّره، فتجد الجميع بعد أكل الناعم لايفكرون في شيء، بل تتشكّل أماهم شلالات بألوان العسل وتنبسط أمامهم سهول صحراويّة مذهّبة رائعة لايشعرون فيها إلا باللذة وينسون معها عذابات الصيام.

هناك اعتقاد قديم أنّ الناعم كان تحليةٌ للنخبة من رجال الامبراطوريات العظيمة، وهو الذي مكنهم من المحافظة على قوتهم وذكائهم وهو سببُ انتصاراتهم في المعارك وغرف النوم، وهو سبب الخصوبة والحياة والمستقبل والمتعة الأصليّة، جرّب تشارك هذه الكذبة مع أحد يأكل الناعم، لن يناقشك بالطبع لأنه أرضى غروره للتو ببعض الناعم.

أما المغتربون، فهم لايشتاقون في الحقيقة إلى الناعم، بل يشتهونه، ولايشتاقون إلى تصبّغ أصابعهم بالدبس فقط بل يبكون لأجل ذلك، لم تعوضهم كلّ المحاولات الفرنسيّة والبلجيكيّة في انتاج حلويات اللذة، كما لم تعوضهم الأوروبيات عن بنات البلد، فتجد أخواتهم وأمهاتهم يقضون قبل الظهر في مجموعات الفيسبوك النسائية وبعد الفطور يذهبون للتراويح لمعاينة الفتيات فيعدن إلى الواتساب لوصف العروسات المتوقعة لأبنائهم.

هكذا هو الشرق، ناعم في رمضان

وسيم السخلة، رمضان 2022