هذه التدوينة ليست إدانة لنا جميعاً لأننا نمارسُ هذا الفجور بقصد أو بدون، لكنها محاولة للانتباه فالقادم كبير وقاسي.
يُرسل لي صديقي صورةً من داخل النادي الرياضي الذي احتلّ جزءاً من حديقة تشرين العامّة، ويغمزُ لي هازئاً “مازالت مساحة عامة، انظر إلى الناس يقتربون كثيراً من سور النادي”.
صديقي العزيز لم يُدرك حقيقةً جليّة، أن الذي يقترب من السور هو النادي، فهو الغريب المُشاد في مساحة عامّة كانت كُلها مخصصة للناس، قبل سنوات اقتُطع جزء واسع منها لصالح مجمّع يضمُّ مطاعم وصالة رياضيّة وبار على سطح مكشوف يُطلُّ على المدينة.
قبل 5 سنوات كتبتُ تدوينة أحاول فيها هزّ الوعي الجمعي الذي تجاهل احتلال حديقته الكُبرى في العاصمة من قبل رأس المال متواطئاً مع الجهات الرسميّة!
أعدّتُ البحث وقتها خلال الشهور التي تلت التدوينة فلم أجد إلا مقالاً يتيماً أشار إلى تدوينتي نفسها، وهكذا نسي أو تناسى آلاف الصحافيين والمستصحفين أيضاً وجامعي الإعجابات الوهميّة، والناشطين والحقوقيين والناس أنفسهم، هذا الإعتداء..
لا أودّ هُنا شرح الطبقات وإلا لكنتُ بدأت بتعريف وتأصيل مفاهيمي، لكنها مُحاولة للتذكير بمظاهر وصفها صديق آخر قبل أيام في حديث مشترك ب”الإباحيّة الطبقيّة” التي تنتشر من حولنا اليوم في سورية أكثر من أيّ وقت مضى.
على الرغم من أنّ الظروف الاقتصاديّة التي تعيشها الدولة والناس هي الأقسى على الإطلاق، على الأقل خلال القرن الماضي الذي شهد ولادة الدولة الوطنية في سورية، فإن الفارق الطبقي اليوم أكثر حدّة من أيّ وقت مضى أيضاً.. على الأقل كما يبدو لي.
نعم في كلّ البلاد الناس طبقات اقتصاديّة واجتماعيّة متعددة، تضيق وتتسع تبعاً لتقسيم الثروة وشكل السلطات وعلاقاتها والقوانين وتنفيذها، كما تؤثر الثروات وحدود الملكيات وعوامل أُخرى لست بوارد تصنيفها وترتيبها.
الجديد والوقح اليوم هو “الفجور الطبقي”، الذي بات وجهاً أساسيّاً من وجوه سورية، وهو المُلاحظة الأبرز لأيّ زائر من الخارج، اسأل أيّ أحد تعرفه يزور سورية سيقول لك أن هناك تناقض كبير، هناك سورية المُتعبة الضعيفة الفقيرة وهناك سورية الأخرى، ومع الوقت يا للأسف تحوّل هذا الفجور ليكون المُحرّك الأكبر لاقتصاد البلد وتكريس الفروقات الطبقيّة وانشطار الطبقات يوميّاً.
في الزمن الماضي -وأتركُ لكلّ قارئ تخيُّل نقطة نهايته- كانت المطاعم في سورية تنفتحُ إلى داخلها، فكانت الستائر الكتيمة تغطّي الواجهات، وكانت الطاولات لا تمتدّ إلى الخارج، فيبقى الرصيفُ رصيفاً وتبقى مسألة الاستمتاع بوجبة مُكلفة أمر شخصي وعائلي وليس موضوعاً للمشاركة والتقييم، اليوم فإن النوافذ المفتوحة والطاولات العريضة التي تحتلُّ الأرصفة والتي تجاور الشوارع التي تحتلها مصفّات المطاعم هي سمة المطاعم وميزتها الكبرى، وبات الممشى للناس ما تتركهُ الطاولات بينها من فراغات، بالمناسبة لقد أجّرت البلديات الأرصفة بطريقة رسميّة وبشروط كتبت على الأوراق فقط.
كان السوريون في زمن مضى أكثر حشمة في التباهي، فكانوا يسافرون إلى أي دولة ويعودون من أسفارهم ببعض ألبومات الصور المطبوعة حيث يُشاهدها المقربون وهم بالعشرات على الأكثر، أما اليوم فالحصول على فيزا أو تجديد جواز السفر أو عبور الحدود أو الانتظار في بوابة عاديّة في مطار بيروت والسفر بالطائرة ووجهة الطائرة وبوابة الفندق وتفاصيل البلاد الأخرى تستلزم الكثير من الصور والفيديوهات والحالات، وكُلّما زادت نجوم الأماكن حظيت بكمٍّ أكبر من الصور والتعليقات، بالمناسبة اليوم جمهور ومشاهدي ووصول هذه الصور بالآلاف لكن المتفاعلين معها بالعشرات، وكأنهُ صمتٌ طبقي بانتظار فرصة للصراخ.
في الماضي حمل الناس أكياس القُماش ليس لأجل البيئة والمناخ، بل كانوا يضعون فيها مُشترياتهم من الفاكهة والغذاء لكي لا تلفت الأنظار فهم لم يحرموا أنفسهم من التمتع بحشمة، وكانت الأشياء مُتقاربة ولا مجال كثير فيها للتفاخر، مثلاً كانت مُنتزهات الربوة وعين الفيجة في متناول الجميع تقريباً ولو لمرّة في الشهر، وكان سقفُ التفاخر أخذ علبة المحارم ووضعها على تابلوه السيارة، والمفارقة أنّ الجميع تقريباً كان قادراً على ذاك ومن الطبيعي أن يكون سائقو التكاسي والسرافيس وموظفي الحكومة من القادرين، أما اليوم فوجبة للعائلة في مطعم عادي لخمس أشخاص تعني 5 رواتب لموظف من الفئة الأولى..
في الماضي أيضاً، ولمّا كانت الأعمال أكثر استقراراً فقد ألحق أصحاب الأعمال استغلالهم لموظفيهم وعمالهم بجانبهم الأبوي الخيري، فكان العامل لديهم يطمئنُّ إلى عيديّة في العيد، وتكاليف عرس بسيط، ودعم للأولاد في المدارس، وكسوة شتويّة تُقدّم إليه كأموال زكاة رغم أنّ مجموع هذا قد لا يُلامس الحد الأدنى الإنساني للأجر!
لكن كانت معظم الأطراف راضية، اليوم فغياب الاستقرار يجعل من العلاقة بين أصحاب الأعمال وعمالهم نديّة جداً، كيف لا وراتبهم يفقد قيمته يوميّاً، ولهذا تضخّمت جداً السرقات وقلّة الأمانة، وأنا أقول لكم أنّ البعض يُمارس السرقة من عمله مُطمئنّاً وراضياً لأنه يعتقد أنّ حقه مسلوب، وكذلك علاقة صاحب العمل بالمؤسسات الرسمية وكذلك علاقتها بموظفيها وكذلك علاقة المُراجعين مع الموظفين الذين باتت الرشوة طريقهم الوحيد للحياة الكريمة أمام أطفالهم.
شكّل المُقتدرون في الماضي الجمعيات الخيريّة وباتت وصيّتهم لأولادهم لأنهم كانوا يُدركون بشكل جيد أنّ جُزءاً من هذا الإفقار الذي يتعرّض له الناس هم مُسببوه، وكانوا يحمون أنفسهم وأموالهم من انفجار طبقي يُنتقم فيه من ذواتهم، وكانت هذه الجمعيات تطبيقاً للزكاة وتحصيناً للمجتمع وأيضاً كان الجميع تقريباً راضين.
مع كُلّ الانقسام الطبقي كانت المدينة مُتاحة، فالأسواق الشعبية كانت ما تزال كذلك، والحدائق كبيرة وأنيقة وواسعة، والمهرجانات الشعبية من الزهور وحتى الفنون والمسرح كانت مجانيّة وللجميع، وكان الناس لا يشعرون بأنّ عليهم تغيير ملابسهم بحسب الشارع الدي يقطعونه، وكانوا لا يستحون أن يصطحبوا عائلاتهم للحدائق المجانيّة وألعاب الأطفال فيها، فكان للجميع ممارسات متقاربة وكانت الطبقات معدودة ومعروفة فيما هي اليوم كثيرة، كثيرة جداً ومتداخلة.
أعادت المواقع الإجتماعيّة مسألة الطبقات إلى الواجهة، فبعد أن أنجز الكثيرون نقاشاتهم الجادّة وتأكدوا من فشل الثورات واجهاضها من خلالهم أصلاً توجهوا نحو استخدام هذه المواقع للتمايز الاجتماعي، فباتت محاولاتهم الفاشلة لكسر الطبقات ممكنة، وبات الذهاب إلى أحد المطاعم فرصة لالتقاط الصور وجدولتها على مدار أشهر وهو أكثر أولوية من الحصول على وجبة جيدة أو لقاء الأصحاب أو العشاء مع العائلة.
اليوم يُمكنك ببعض الصور أن تعيد تعريف نفسك وطبقتك، فصورة لك من احدى المدن أو أحد الفنادق كفيل برسم صورتك بالنسبة للآخرين، كذلك ساعة تلبسها شرط أن تكون متقنة التقليد أو باب سيارة لمديرك في العمل أو صديقك الغني.
الذي حدث بالفعل هو انشطار الطبقات، في مراحل ماضية كان الناس يبذلون جهداً كبيراً للولوج إلى طبقة جديدة، فيما حدث اليوم انشطار سريع جعل من بعض أفراد نفس الطبقة ضمن طبقة أخرى مفترضة وقد تتحول إلى حقيقيّة، أتحدث هُنا عن استثمار الجسد وأحياناً بعض السماجة فقط في التحول إلى نجم في المواقع الاجتماعية يُحصّل من المال بفيديو قصير ما تحصّله عائلة كاملة تعمل في التجارة أو تمتهن الطبّ والهندسة! إنه انشطار فقد حدث في وقت سريع جداً وبلا مقدمات طويلة، وبقي هذا النجم وعلى الأغلب هي نجمة يعيش في منزل أهله لكنه منشطر تماماً عن طبقته وحيّه ومجتمعه.
جزء كبير من الانفجارات السورية الاجتماعيّة بدءاً من 2011 لم تكن لأبعاد سياسيّة، كانت تعبيرات طبقيّة ولو حاول الكثيرون إلغاء هذا الجانب، بعض الأرياف ثأر شبابها من أصحاب المعامل الذين كانوا يشغلونهم كعبيد، فعادوا إليها حرقاً وتحطيماً ولو لبسوا لبوس الدين أو البحث عن الحريات وغيرها من دعاوى العقد الماضي. وكما كان استثمار الآلاف وتحويلهم لمتطرفين سهلاً سلسلاً من خلال ليرات بسيطة بات اليوم أكثر سهولة من خلال قروش فقط!
خُلقت خلال السنوات الماضية طبقات جديدة، وبعيداً عن تسميات الناس لها بأمراء الحرب (كان لدينا طبقات ظهرت كأمراء سلام بالمناسبة) فإن هذه الطبقات باتت بحاجة لمطارح للمتع والترفيه، والفضاءات السابقة باتت قديمة ومهملة وغير مُلبّية للرغبات المُحدثة، فانتشرت أماكن جديدة للسهر وللرياضة والطعام الصحي والحفلات الشاطئيّة واستلزمت هذه المُتع مزيداً من العُمال بأجور زهيدة ومزيداً من الخدمات المحليّة بأثمان بخسة وهو ما جعل استثمار فقر الطبقة الأدنى فرصة مرّة جديدة للعمل بأجر منخفض والتشغيل الكبير وفق مبدأ الفرص القليلة أمام العرض الكبير للراغبين بالعمل.
ما اودّ قوله أن الشهور القادمة ستحمل أحداثاً هنا وهناك يمكن تصنيفها ضمن تحرّشات طبقيّة، ستكون لأسباب مباشرة متعددة لكنّ أسبابها العميقة هي أسباب طبقيّة بالمطلق، وستكبر هذه التحرشات وتنتشر وهي قد تؤخر قليلاً الانفجار الاجتماعي الكبير القادم حكماً، في هذا الانفجار إن لم نُحسن التدبير والعمل من الآن سنكون جميعاً مجرّد شظايا..
وسيم السخلة – ربيع 2023
قد تؤخر قليلا الانفجار الاجتماعي لكن لابد من حدوثه..وسنكون مجرد شظايا