هالدّني بتساع الكل <3 - Life can accommodate everyone

Author: waseemz (Page 2 of 4)

عشرُ حقائب سوريّة

نستخدم تطبيقات مجانيّة لكنها تتطوّر كلّ لحظة،ونحن مكاننا، أقصدها حرفيّاً هذه المرّة لا مجازيّاً

أنا في دمشق، صديقي في كندا، يعيشُ في مدينة يصعُب عليه لفظ اسمها.. صديقة عتيقة تنتظرُ الشمس منذُ عدّة أيام في السويد.. تنتظرها بملل

شقيقتي في بريطانيا تكتشفُ الطبيعة من جديد، صديقٌ ينتظر المترو في دبي، يأتي بسرعة، لاوقت للانتظار.. آخر يتشاجرُ مع ڤان رقم 4 في بيروت..

أحدهم صار بعيداً جداً يقضي يومهُ في تعليم الأميركيين مكان سورية في الخريطة.. ويشرحُ لهم ما حصل في الحرب فيخوض حرباً جديدة مع العالم الآخر

ونحنُ صغار كنّا نرى خريطة العالم ومركزها سورية، لكنّ الخرائط المدرسيّة مُضلّلة ركزنا فيها على سورية وبلاد الشام والوطن العربي، كلّماً كانت تتسع الخريطة مزيداً من الدول كانت تصغر سورية، وتصغُرُ كثيراً

عندما سافرنا وارتحلنا اكتشفنا أن لكلّ بلد خرائطُه، وبالكاد تظهر منطقتنا كلّها وليس سورية فحسب، بالكاد يمكنك أن تشرح للناس قضايانا العادلة وغير العادلة، عاداتنا الأصيلة والمسروقة، تاريخنا المُصدّق والمزور، غاباتنا المشمسة والمحروقة، أرشيفُ انتصارات هزائمنا، لون الرماد فوق المدن، في جدران المؤسسات الحكوميّة، في كوريدور مدرستي الإبتدائية، على شُبّاك تابوت للنقل العام، كان أخضراً وأزرقاً وأحمراً وفي سنوات الرخاء والمصائب كان أبيضاً..

ونحنُ هُنا، يقلق الأصدقاءُ في تركيا، يتمنّون لو أنه لدينا انتخابات ثم يقلعون عن الفكرة بسرعة، يخوضون حرباً في روسيا، يخسرون أرزاقهم في مصر، يتسوّلون أموالهم المسروقة من بنوك لبنان، يتعلمون الألمانيّة للسنة العاشرة، ويعدّون أنواع الطيور في أستراليا فيكتشفون أن التنوع في بلادهم كذبة، أقصد التنوع الحيواني بالطبع

صار همُّ الناس مركباً، بلادٌ جديدة يحملون همومها، اليمين واليسار، القوانين والقرارات، نخنُ خارجون من بلاد لاتسألنا ولا نسألها، نُحبّها ولا تهتمُ لأمرنا.. من أين جائتنا هموم الديموقراطيّة والحريات وأحزاب الخضر!

يحملُ كلّ سوري عشر حقائب كبيرة، حقيبةٌ للمؤسسات الحكوميّة، يحمل فيها ألف صورة لهويته وتسعمائة اخراج قيد وتسعين تأجيلاً وثلاث موافقات سفر، ودفتراً لخدمة العلم ودفتراً لسيارة والده، ودفتراً للعائلة، ودفتر النهاري مجلداً بالأحمر لأنه كتب عليه حلمهُ في المدرسة ودفتر الليلي مجلداً باللون الكحلي حيث صلحت لهُ المعلّمة الجميلة وظيفة الفرنسي ودفتراً للرسم رسم فيه بيتاً بسقف قرميدي رآه في أفلام مُترجمة، ودفتراً للموسيقى بقي فارغاً لسنوات، ودفتراً للدّين انتزعهُ من بقاليّة الحارة بعد ما باع خاتم أمّه وسدّد الدين قبل الرحيل ودفتراً لقسائم المازوت المُباعة، ودفتراً أثرياً لقسائم التموين، ودفتراً للقاحات التي أقحموها في حلقنا ذات مرّة في المدرسة والمستوصف.. ودفتراً فارغاً ليكتب خطته الفاشلة

في حقيبة أخرى نحملُ بهارات لم نستخدمها، كركم، وفلفل حلو وفلفل حار وفلفل متوسط بينهما، ونعنع يابس وجوزتين طيب وأوراق غار ووكمون مطحون وكمون حب وكربونة وسمّاق وعشر مكعبات ماجي، أعرف صديقاً استخدم من كُلّ هذا مكعبات الماجي فقط، وعندما عاد (عاد ظلّهُ) وزّع البهارات على من بقي هُناك وهم بدورهم جعلوها في الرفّ الأخير ينقلونها من حلم لآخر.. فإنذارات الحريق لاتحتمل هذه الروائح

الحقيبة الثالثة مخصصة للملابس الداخليّة البيضاء، معظمها اشترتها الأم السورية لأولادها وزوجها من سوق الحميديّة بقياسين، الأول قياسه الحالي والثاني بنمرة أكبر، لم تدري الأم أن هذه الأحجام ستنتهي وسيمتنع أولادها عن تناول السكر أشهراً لخفض أوزانهم، سيتحول شكل الجسم مع شكل الحياة الجديدة، أجسادٌ لاتُشبهنا، كثيرة الرشاقة تحملُ خفّة الرحيل المستمر.

حقيبة السوري الرابعة مخصصة للمناسبات، طقمٌ رسميّ نلبسه مرّة في عرس أصدقائنا، نتحايل مع خياط عربي لنصيف إليه زرّاً جديداً مع كُلّ مناسبة، نضيّق الخصر، نوسّع الجيوب لتتسع لباور بانك، بوط كبير يُشبه الحرب، نحملهُ لأيام المطر، نتوقع دوماً أننا سنستخدمهُ فنبدو به كجنديّ سوڤيتيّ يتجول في مطعم أميركي للوجبات السريعة، نتخلصُ منه حالاً، ثم نضعه في البلكون، نتراجع، نقول سيلزمنا عندنا نذهب للتخييم وهناك نرى الأصدقاء الجدد يلبسون خفّافات خفيفة فنخلعهُ من جديد ونحفظهُ لأنه يذكرنا بالفتوّة، من أفتى بها أصلاً حتى صرنا جنوداً لكلّ هذه الهزائم؟

في الحقيبة الخامسة نحملُ أدوات للعناية الذاتية، بودرة خوفاً من “السماط” وعشر عُلبٍ من حبوب الإلتهاب المحظورة بدون وصفة (خارج بلدنا طبعا) وابر ديكلون قاتلة، وكريماً وطنيّاً لترطيب البشرة يجعلها قاسيةً جيّدة، ونكاشات أسنان نحملها ولاندري معها أنّ أيام المناسف واللحم على الطريقة القديمة ستنتهي بعد أن نعبر نقطة المصنع على الحدود اللبنانية، نحملُ ظروف سيتامول وطني، نعرف أن وجع الرأس سيأتي سيأتي، نجرّب عشر مشاطات للشعر ونختارُ أسوأها حُبّاً بالتغيير، نُحبّ التغيير للأسوأ على طريقة حكوماتنا.

في الحقيبة السادسة نحمل عشر أحلام وألف خيبة وستين تحدّي أُجبرنا عليه منذ طلب منّا استاذ العسكريّة في المدرسة أن نُسمع الحيّ كلّه شعارات الصباح والنشيد الوطني، في حذه الحقيبة شيءٌ واحد محسوس، سجادة صلاة جديدة أخرجتها أمّ من صندوق السرير حفظتها عقدين على الأقل بعد عودة أحدهم من الحج، سجادة ستبقى جديدة دوماً على الأغلب.. لأن اتجاه القُبلة يتغيّر في الخارج

في الحقيبة السابعة نحملُ الحقيبة الثامنة لأننا نخشى أن يكون سوق الخجا غير موجود خارج سورية، وأن نُضطرّ لحمل الهدايا في أكياس نايلون، نعدُ الناس قبل السفر بالهدايا، سأُحضر لك هذا الشيء وتلك الهديّة وكأننا سنعود ونحن نقود باخرتنا.. وفي الحقيقة إن عُدنا فالعودةُ على ظهر شاحنة أو وقوفاً في بولمان.

في الحقيبة التاسعة نحمل كلّ السُتَر، هذا جاكيت للشتاء القارس صحيح أنّهُ مضروب من هُنا لكنّ الوالدة وضعت لهُ رقعةً عليها وردتين، وهذا جاكيت خفيف للربيع سحّابهُ معطّل لكن لاضرورة لزرّه، وهذه كنزة صوفيّة تخلق حساسيّة وتجعلك مدفأة وتلبس تحتها 5 كنزات ولاتلبسها أبداً.. وهذه طاقيّة للشمس لتحمي مقدمة الرأس وتكون بمثابة بطاقة تعريفيّة لك أنك عامل وأن شعار الشركة على الطاقيّة لأنها غرض دعائي وليس لأنك صاحب الشركة، أن لاتملكُ حتى نفسك.

الحقيبة العاشرة لاتعرف ماذا بها، هي التي تركتها في المطار مُكرهاً تحت طائلة فوات الرحلة عليك، وهي نفسها التي سرقها راكب آخر في البولمان عندما نزل وأنت تبكي وترسل ستيكرات القلوب في واتساب، وعلى الأغلب هي الحقيبة التي تضعُ فيها قلبك الذي يضمّ حبيباتك منذ المدرسة وحتى آخر مرّة أحببت فيها بصدق وفارقتها أمام دار الأوبرا.. هذه الحقيبة لا تُسافر معك، انها تُسرق منك وتبقى هُنا للأبد، واذا عُدّت فلن تجدها ولن تجدك.

وسيم السخلة

دمشق 2023

مالذي نفعلهُ في الشعلان؟ منذ خُلقَتْ

نتعجّب من فتاة صينيّة تمارس الرياضة على الرصيف، فلا زبائن لمحلها الذي يبيع الشاي الصيني بطعماته

نراقبُ الهواء برائحة شواء الشاورما واحتراق المازوت والبنزين في مولدات الكهرباء الكبيرة والصغيرة ميكس

ننظر إلى بائع وردٍ يحتّل الطريق، لا أحد يُحاسب أحداً فالورود مسموح لها الطريق، كما هي عربات الصاج

نختار أفضل عربة لبيع التماري كعك ونحصل على أسوء طعمة منها، بلا طعمة أضافو شوكولا وفريز وجوز!

نسترقُ بعض الوقت أمام المحمصة، لأننا نحبّ رائحة تحميص المكسرات، ثم نشتريها من البيرقدار، أو نظام

نجري جولة في محال الثياب، نرى أصدقائنا المغادرين فيها، أشباه ذكريات وأشباه أيام، أين ذهب الناس؟

نعتاد أصوات مولدات الكهرباء، نطبّع مع رائحة قلي الفلافل والبطاطا، نعرفُ أنّهُ زيت مكرّر ألف مرة، ومرة

نرضى بانقسام محل “عرقسوس الشعلان” لمحلين، نسامح بائعي سوق التنابل الذين يحتلون رصيف ونصف شارع

نعود إلى حلويات الورد، سعر عادي طعم عادي لم يتغير منذ عقد ، الوحيد الذي يبيع بابا روم بقطر وماء فقط

نركب مع أصدقائنا، نخفضُ نصف البلّور نُشغّل أغاني 2010 نمشي ببطىء لنُسمع الناس أغنيات مروان خوري

تفتحُ محال جديدة، نجرّبها لمرّة واحدة، ثم نعود إلى المحال القديمة، تهمّنا الذكريات لا الجودة، نحبّ الرائحة

نعود لبطاطا الرواد أو لسندويشات الفلافل الصغيرة عند بيسان، مهما افتتحت محلات سناك جديدة، تبقى جديدة

سندويشات بطاطا الكروكيت وأنواع السندويشات الكثيرة عند سناك هنيء باتت غالية جداً، كما لم تكن في الماضي

يجرّب بنّ الشامي بيع القهوة، الناس هنا لغير التسوق يشترون عادةً لا تلذذاً، يكتفي فرن السكري بمنتصف النهار

تجول السيارات الخليجيّة، يُمارس أصحابها فعل العدم، يمشون ببطء، يحتكّون بالعامّة، يتحرّشون بأحلامهم

نقفُ في الزوايا، نُراقب الماضي الذي كان، لانطبّع مع سائقي الدراجات الناريّة، نكره حضورهم في الشارع وزعرنتهم

نوسّخ ملابسنا الجديدة، نشتري بوظة الفواكه التي ارتفعت مئة ضعف، توقفنا عن شراء بطاطا الكومبرينو منذ عقد!

تفتح محال جديدة للموبايلات كلّ يوم، ميتا المزيّف ينافس متجر أبل المزيّف، ايّما تنافس نفسها، سامسونج لوحده

مأكولات السبكي تزيد اللون الأصفر حولها كمتجر خردل، الرصيفُ متروك لأشجار الكينا الناس يمشون على ذكرياتهم

في الشارع الموازي برود وعدميّة، جمهور السبكي غير جمهور الشعلان، خرّبوا الحديقة منذ سنوات ولن ترجع

جمهور الشعلان يعرفُ محلّ NBA المزيّف وينصح أطفاله بشراء كاسكيتات منه وأعلام للمونديل وكونڤيوس ملوّن

يحفظُ الناس أسعار الفواكه الموسميّة، يفاضلون بين أنواع الكمأة، يحبّون الوجوه البشوشة مهما فاصلتها

يُحبّ الناس ألوان المخللات ولا يشترونها، يعاينوها ويسألون عن قساوتها، ثم يشترونها من باب سريجة

يمشي الناسُ بلا هدف، يصطدمون ببعضهم، يقولون جميعاً “نزلت ع الشعلان” وكأنها قاع المدينة بالفعل

ينتهي في كلّ الأماكن بعد رمضان، إلا في الشعلان يبقى التمر هندي والعرق سوس مستمر، يتّسعُ الشارع بالإزدحام

الناسُ يُعلّقون صور الرئيس، ويحتفلون بالمولد النبوي، ويشترون شرطة المرور، ويوسخون وينظفون كل يوم

في الشعلان نحن لاننتظر أحد، لا نواعد أحد، المكان هو الناس، من كلّ الطبقات، هناك طبقة وحيدة تحبّ المكان

بعض الشباب يأتون زيارات من ألمانيا ليس لأجل عائلاتهم، يتواعدون في الشعلان، يشتهونها، يشتهون حياةً قديمة

وسيم السخلة
الشعلان 2023

المدينة تختفي كحبيبة، ونحنُ نعيشُ خيالها

أبدأ بتدوين هذا الحديث من مقهى عتيق في وسط دمشق، مقهى الكمال الصيفي، من النافذة الكبيرة هُنا أستطيع رؤية خطوط سكة الترامواي التي أوقف العمل بها قبل نصف قرن. إلى جانب المقهى سينما الكندي التي افتتحت مطلع القرن الماضي وتعلن عن حفلتين لعروض سينمائية يوميّاً لكنها في الحقيقة فارغة يوميّاً، حتى أنّ الباحثين عن مكان مظلم لا تستقبلهم، فالمسؤول عنها يعرفهم من وجوههم، كما قال لي مرّة.

*كُنت قادراً على استخدام الصور لكل جملة من الآتي، لكنني أفضل ترك تصور ذلك لخيالكم، فأنتم أيضاً أهل وسكان المدينة وتعرفونها، كما أفترض، وإن كان هذا الحديث عن دمشق فإنه ينسحب على مختلف المدن في سورية حسب ما اختبرت.

تغيّرت المدينة، تضيقُ يوميّاً المدينة التي نتخيّلها، فتعالوا نُلاحظ معاً ما حدث ويحدث.. قد تكون التكملة ترفاً فإذا شعرتم بذلك توقفوا عن القراءة، قد تكون مُملّة..

لقد ضاقت الأرصفة وصارت عالية!

جربوا المشي اليوم في المدينة، كم تستطيعون الاستمرار؟ هل ما زال التجول مُمكناً؟ لقد ضيّقوا الأرصفة القديمة التي كانت تُناسب تجول أربعة أصدقاء إلى جانب بعضهم، اليوم كُل الأرصفة الحديثة لا يستطيع فيها رجل وزوجته أن يتجاورا في المشي، على أحدهما أن يسبق الآخر..

لقد قطّعت أوصال الأرصفة وصارت جزراً ولم تعد مساراً متصلاً، أيضاً نقلوا الأشجار لوسط الرصيف فصار لزاماً النزول إلى الشارع والصعود منه مع كل شجرة، ولم يكتفوا بذلك، بل قلّموا الأشجار جيداً ويواظبون على ذلك أكثر من تنظيف المصارف المطرية، وبعد أن يقلموها يختفي الظلّ تماماً ويصيرُ المشيُ في هذه الأرصفة المليئة بالحفريات مرهقاً في الصيف، مستحيلاً في الشتاء.

 كانت الأرصفة تعلو الشارع بارتفاع موحد، اليوم لكل رصيف معاييره، وبات التنقل من الرصيف إلى الشارع يحتاج انتباهاً أكثر خصوصاً إن كنت تسير مع أطفالك، بالمناسبة اذا كان ابنك رضيعاً وقررت التنزه معه أو الذهاب إلى موعد ووضعته في عربته قد يكون هناك خطورة، العربة لا مسار لها فالرصيف ترتفع وتهبط بلاطاته الشاحبة (التي كانت ملونة) ـ حكماً ستهتز العربة بشكل مزعج، لا تستهِن بذكريات الصغار عن هذه اللحظات، فانا أتذكر كيف كان بعض الأطفال يرموننا بالحجار ونحن داخل القطار ذاهبين إلى عين الفيجة.

أيضاً تختفي الحواف من الأرصفة، لقد تمّ تحطيمها أو بناء جدار محلّها أو وضع الحديد الشائك عليها بحيث لم تعد الاستراحة ممكنة وأكثر شعور يتملّكك أنه عليك المشي بسرعة ولا يمكنك التمهّلُ أبداً، رغم أن الاستمتاع في المدينة جزءٌ منهُ مشي فيها..

بالمناسبة، كُل هذا هو عمّا بقي، فالأرصفة تختفي يوميّاً، إن لم يأكلها الرصيف فتأكلها السيارات التي تعتبر الرصيف كراجاً لها، ولا تتوقف الوقاحة بتجاوز بعض الرصيف، بل بأخذه بكامله لصالح السيارات في كثير من الشوارع، أيضاً بعض الناس يسرقون أطاريف الأرصفة وأحجارها!

ليست السيارات فقط، أيضاً البسطات المكررة، وكراتين البسكويت وبرادات الكولا والأكشاك التي تتجاوز المساحة المرخصة لها بعشر أضعاف.. جرّبوا محاولة المشي من جسر الرئيس إلى البرامكة مثلاً، اذا استطعتم المشي بدون تحرّش أو تعثّر أو مشكلة، فأنتم مُباركين.

يكفي الحديث عن الأرصفة، تعالوا نحكي عن الحدائق، مادامت المدينة قد توسعت كثيراً، فلماذا بقيت الحدائق محدودة؟ ولماذا بقيت على المخططات في المناطق الجديدة؟ وما الذي تغير في الحدائق القديمة؟

أبواب الحدائق الكبيرة التقليدية مغلقة دوماً، ستجد فقط بابا صغيراً فتح إلى جانب الباب الأصلي، الباب لا يرحب فيك تجد عليه لوحة عليها تعليمات تشبه التعليمات الامتحانية في جامعاتنا..

ممنوع إدخال الكرات! ممنوع إدخال الحيوانات الأليفة! ممنون المشي على العشب! ممنوع إدخال الطعام والشراب! ممنوع إدخال الدراجات! ممنوع قطف الزهور، وممنوعات أخرى.. المسموح فقط هو الدخول والجلوس في كرسي غير مريح أبداً، يبدو أنّهُ تمّ تصميمه ليكون غير مريح!

كانت الحدائق في الماضي تضمّ طاولات حجريّة حولها مقاعد أو قعدات نصف مدوّرة، وفي أسوأ الأحوال كانت توضع الكراسي العريضة الخضراء إلى جانب بعضها، فكان من المُمكن أن تأتي عائلة او عائلتين للاستمتاع في الحديقة العامة. اليوم كراسي أقل لا تتقابل ولا تتجاور كأنها منافي فردية، أسوار عالية للحدائق وهذا لا يعني بالطبع أنها آمنة..

كُل هذا عما بقي من حدائق أصلاً، بعض الحدائق احتلّت المطاعم والنوادي أجزاء واسعة منها كحديقة تشرين وبعضها تمّ نبشهُ لأجل كراجات طابقيّة، وبعضها تغيّر للأبد. بعض الحدائق باتت موصومة بأنها بؤر غير أخلاقية، بالتالي بعد أن كانت الحدائق للجميع صار الجميع يهرب منها، وبات نادراً أن تواعد صديقك في الحديقة أو تأخذ أطفالك للتنزه فيها فأنت لا تحب بالطبع أن يُشاهد أطفالك شاب وفتاة يقبلون بعضهم، (نعم نحنُ نقبل ذلك فقط على الانترنت لكننا نُحاولُ تجاهله عموماً فيهرب العُشاق إلى دور السينما والحدائق، هرباً من محيطهم).

بالمناسبة، حتى مناهل مياه الفيجة النظيفة الجميلة التي المخصصة للشرب في الحدائق باتت محدودة جداً، أو معطّلة، بالمقابل فإن أي حديقة ستجد على بابها كشكاً يبيع المياه المعبأة بضعفي تسعيرتها.. حتى أنها تحمل نفس اسم النبع الذي يسقي كُلّ المدينة.. مياه الفيجة.

لقد تغيّرت الأماكن الدينية أيضاً، المساجد صارت للصلاة والدروس المحدودة فقط، كانت المساجد منارات مفتوحة دوماً، اليوم تفتح وتغلق قبل وبعد دقائق من الصلوات، وكذلك الكنائس. أيضاً التكايا وسبق الخيل (أرض المعرض القديم) التي أوقفت لترحب بالعابرين صارت مطارح للاستثمار وأسواقاً تقليدية وبازارات وهياكل فارغة.

وأين المقاهي الشعبية، إنها تختفي لتتكاثر المقاهي الجديدة، المكلفة!

كانت المقاهي متنفس الناس للقاء والتجمّع والحديث والتسلية وتداول الأخبار وتأسيس الجمعيات والتفكير المشترك والسرد القصصي، وكانت دوماً رخيصة وأسعارها مقبولة لأي شخص ولو كان عاطلاً عن العمل، ولم يكن فيها تمايز طبقي كبير، فهي في نهاية المطاف طاولات خشبية وكراسي من الخيزران وكان يمكن أن يتواجد في جلسة واحد أكثر من عشرة شخص يضمون طاولاتهم إلى بعضها بدون اذن فهذا ما كان عادياً وهم قادرين على سماع بعضهم البعض وليسوا مضطرين لدفع ضرائب أو دفع مبالغ زيادة على مشاريبهم وأراجيلهم.

اليوم باتت المقاهي الجديدة بطاولات أعرض تجعل سماع الشخصين المتقابلين مشوشاً أحياناً، وأكبر طاولة يمكنها أن تتسع 6 أشخاص وهم حكماً لا يستطيعون سماع بعضهم بشكل جيد، فالكراسي لم تعد ضيقة، بل بات لها أطراف وأحياناً تكون الكراسي عبارة عن كنبات عريضة لا يمكن معها أن يجلس أكثر من 4 أشخاص لمائدة واحدة.

صارت المياه في المقاهي مدفوعة بعد أن كانت أباريق مجانيّة، وصارت اجبارية (لا يحدث هذا في الدول الأخرى بالمناسبة)، كما صارت هناك حدود دنيا أحياناً وصار زبون الطعام مقدماً على زبون الشراب، وفي مناسبات معينة صار الاحتفال بميلاد صديق تلحقه تكاليف خدمة وفي بعض المناسبات تجد تسالي رمضان الإجباريّة، انا لا أعرف شعباً مجبراً على التسلية مثلنا!

يطول الحديث عن تحولات المدينة، الساحات الكبيرة عديمة الفائدة، التصاميم والمشاريع التي صرفنا عليها لسنوات طويلة وفشلت كساحة العباسيين، الشوارع التي اشترت نصفها شركات خاصة وصارت مصفّات مدفوعة ووصلت إلى جوار المنازل، المنشآت الرياضية التي تحولت أجزاء منها لمحال بيع السندويش والدجاج، أنفاق المشاة المظلمة منذ تمّ إنشائها، التصاميم الغبية في فصل الشوارع كما في منّصف شارع الثورة، ألوان الأضواء المتنافرة (إن تمّ تشغيلها)، روافد الأنهار التي صارت مكبّات زبالة، أدراج الجسور التي صارت ملك المتسولين وباعة الدخان، النهر الذي ما عاد نهراً وصار ساقية لشهرين في السنة، وعشرات التحولات الأخرى.

مع الأسف في زحمة صعوبات الحياة تُباع المدينة برضا سكانها ومشتروها هم أيضاً سكانها بالمناسبة، أهمل الناس حقوقهم في المدينة، وظنّوا أن بيع المساحات العامة أو التحايل في بيعها شرط لازم لتطوّرها، ففي الوقت الذي تشكل المساحات العامة فيه أهم مميزات المدن تجدنا نتخلّى عنها ونضيّقها يوماً بعد آخر.

في المدن القديمة والتاريخية يفتخر الناس بالأنهار التي تقطعها والحدائق والساحات والشواطئ وباحات الأماكن الدينية الواسعة، أما نحن فباتت المجمعات التجارية والمقاهي الغربية والمباني البشعة الزجاجية التي لا تشبه المدينة هي ما يدلّ الناسُ عليها ويعتقدون أنها الأفضل.

سندرك عندما نستريح أن الرجوع إلى الوراء صار مستحيلاً والمدينة باتت مجرّد فوضى لا تشبهنا، وهذا قد يُفسر اتجاهنا في مواقع التواصل الاجتماعي لمشاركة صور المدينة في تاريخها الحديث الأنيق، هذه المشاهد يُمكننا استعادتها وليس البكاء عليها فقط.

وسيم السخلة

دمشق 2023

ما اُسميه فجوراً طبقيّاً

هذه التدوينة ليست إدانة لنا جميعاً لأننا نمارسُ هذا الفجور بقصد أو بدون، لكنها محاولة للانتباه فالقادم كبير وقاسي.

يُرسل لي صديقي صورةً من داخل النادي الرياضي الذي احتلّ جزءاً من حديقة تشرين العامّة، ويغمزُ لي هازئاً “مازالت مساحة عامة، انظر إلى الناس يقتربون كثيراً من سور النادي”.

صديقي العزيز لم يُدرك حقيقةً جليّة، أن الذي يقترب من السور هو النادي، فهو الغريب المُشاد في مساحة عامّة كانت كُلها مخصصة للناس، قبل سنوات اقتُطع جزء واسع منها لصالح مجمّع يضمُّ مطاعم وصالة رياضيّة وبار على سطح مكشوف يُطلُّ على المدينة.

قبل 5 سنوات كتبتُ تدوينة أحاول فيها هزّ الوعي الجمعي الذي تجاهل احتلال حديقته الكُبرى في العاصمة من قبل رأس المال متواطئاً مع الجهات الرسميّة!

أعدّتُ البحث وقتها خلال الشهور التي تلت التدوينة فلم أجد إلا مقالاً يتيماً أشار إلى تدوينتي نفسها، وهكذا نسي أو تناسى آلاف الصحافيين والمستصحفين أيضاً وجامعي الإعجابات الوهميّة، والناشطين والحقوقيين والناس أنفسهم، هذا الإعتداء..

لا أودّ هُنا شرح الطبقات وإلا لكنتُ بدأت بتعريف وتأصيل مفاهيمي، لكنها مُحاولة للتذكير بمظاهر وصفها صديق آخر قبل أيام في حديث مشترك ب”الإباحيّة الطبقيّة” التي تنتشر من حولنا اليوم في سورية أكثر من أيّ وقت مضى.

على الرغم من أنّ الظروف الاقتصاديّة التي تعيشها الدولة والناس هي الأقسى على الإطلاق، على الأقل خلال القرن الماضي الذي شهد ولادة الدولة الوطنية في سورية، فإن الفارق الطبقي اليوم أكثر حدّة من أيّ وقت مضى أيضاً.. على الأقل كما يبدو لي.

نعم في كلّ البلاد الناس طبقات اقتصاديّة واجتماعيّة متعددة، تضيق وتتسع تبعاً لتقسيم الثروة وشكل السلطات وعلاقاتها والقوانين وتنفيذها، كما تؤثر الثروات وحدود الملكيات وعوامل أُخرى لست بوارد تصنيفها وترتيبها.

الجديد والوقح اليوم هو “الفجور الطبقي”، الذي بات وجهاً أساسيّاً من وجوه سورية، وهو المُلاحظة الأبرز لأيّ زائر من الخارج، اسأل أيّ أحد تعرفه يزور سورية سيقول لك أن هناك تناقض كبير، هناك سورية المُتعبة الضعيفة الفقيرة وهناك سورية الأخرى، ومع الوقت يا للأسف تحوّل هذا الفجور ليكون المُحرّك الأكبر لاقتصاد البلد وتكريس الفروقات الطبقيّة وانشطار الطبقات يوميّاً.

 في الزمن الماضي -وأتركُ لكلّ قارئ تخيُّل نقطة نهايته- كانت المطاعم في سورية تنفتحُ إلى داخلها، فكانت الستائر الكتيمة تغطّي الواجهات، وكانت الطاولات لا تمتدّ إلى الخارج، فيبقى الرصيفُ رصيفاً وتبقى مسألة الاستمتاع بوجبة مُكلفة أمر شخصي وعائلي وليس موضوعاً للمشاركة والتقييم، اليوم فإن النوافذ المفتوحة والطاولات العريضة التي تحتلُّ الأرصفة والتي تجاور الشوارع التي تحتلها مصفّات المطاعم هي سمة المطاعم وميزتها الكبرى، وبات الممشى للناس ما تتركهُ الطاولات بينها من فراغات، بالمناسبة لقد أجّرت البلديات الأرصفة بطريقة رسميّة وبشروط كتبت على الأوراق فقط.

كان السوريون في زمن مضى أكثر حشمة في التباهي، فكانوا يسافرون إلى أي دولة ويعودون من أسفارهم ببعض ألبومات الصور المطبوعة حيث يُشاهدها المقربون وهم بالعشرات على الأكثر، أما اليوم فالحصول على فيزا أو تجديد جواز السفر أو عبور الحدود أو الانتظار في بوابة عاديّة في مطار بيروت والسفر بالطائرة ووجهة الطائرة وبوابة الفندق وتفاصيل البلاد الأخرى تستلزم الكثير من الصور والفيديوهات والحالات، وكُلّما زادت نجوم الأماكن حظيت بكمٍّ أكبر من الصور والتعليقات، بالمناسبة اليوم جمهور ومشاهدي ووصول هذه الصور بالآلاف لكن المتفاعلين معها بالعشرات، وكأنهُ صمتٌ طبقي بانتظار فرصة للصراخ.

في الماضي حمل الناس أكياس القُماش ليس لأجل البيئة والمناخ، بل كانوا يضعون فيها مُشترياتهم من الفاكهة والغذاء لكي لا تلفت الأنظار فهم لم يحرموا أنفسهم من التمتع بحشمة، وكانت الأشياء مُتقاربة ولا مجال كثير فيها للتفاخر، مثلاً كانت مُنتزهات الربوة وعين الفيجة في متناول الجميع تقريباً ولو لمرّة في الشهر، وكان سقفُ التفاخر أخذ علبة المحارم ووضعها على تابلوه السيارة، والمفارقة أنّ الجميع تقريباً كان قادراً على ذاك ومن الطبيعي أن يكون سائقو التكاسي والسرافيس وموظفي الحكومة من القادرين، أما اليوم فوجبة للعائلة في مطعم عادي لخمس أشخاص تعني 5 رواتب لموظف من الفئة الأولى..

في الماضي أيضاً، ولمّا كانت الأعمال أكثر استقراراً فقد ألحق أصحاب الأعمال استغلالهم لموظفيهم وعمالهم بجانبهم الأبوي الخيري، فكان العامل لديهم يطمئنُّ إلى عيديّة في العيد، وتكاليف عرس بسيط، ودعم للأولاد في المدارس، وكسوة شتويّة تُقدّم إليه كأموال زكاة رغم أنّ مجموع هذا قد لا يُلامس الحد الأدنى الإنساني للأجر!

لكن كانت معظم الأطراف راضية، اليوم فغياب الاستقرار يجعل من العلاقة بين أصحاب الأعمال وعمالهم نديّة جداً، كيف لا وراتبهم يفقد قيمته يوميّاً، ولهذا تضخّمت جداً السرقات وقلّة الأمانة، وأنا أقول لكم أنّ البعض يُمارس السرقة من عمله مُطمئنّاً وراضياً لأنه يعتقد أنّ حقه مسلوب، وكذلك علاقة صاحب العمل بالمؤسسات الرسمية وكذلك علاقتها بموظفيها وكذلك علاقة المُراجعين مع الموظفين الذين باتت الرشوة طريقهم الوحيد للحياة الكريمة أمام أطفالهم.

شكّل المُقتدرون في الماضي الجمعيات الخيريّة وباتت وصيّتهم لأولادهم لأنهم كانوا يُدركون بشكل جيد أنّ جُزءاً من هذا الإفقار الذي يتعرّض له الناس هم مُسببوه، وكانوا يحمون أنفسهم وأموالهم من انفجار طبقي يُنتقم فيه من ذواتهم، وكانت هذه الجمعيات تطبيقاً للزكاة وتحصيناً للمجتمع وأيضاً كان الجميع تقريباً راضين.

مع كُلّ الانقسام الطبقي كانت المدينة مُتاحة، فالأسواق الشعبية كانت ما تزال كذلك، والحدائق كبيرة وأنيقة وواسعة، والمهرجانات الشعبية من الزهور وحتى الفنون والمسرح كانت مجانيّة وللجميع، وكان الناس لا يشعرون بأنّ عليهم تغيير ملابسهم بحسب الشارع الدي يقطعونه، وكانوا لا يستحون أن يصطحبوا عائلاتهم للحدائق المجانيّة وألعاب الأطفال فيها، فكان للجميع ممارسات متقاربة وكانت الطبقات معدودة ومعروفة فيما هي اليوم كثيرة، كثيرة جداً ومتداخلة.

أعادت المواقع الإجتماعيّة مسألة الطبقات إلى الواجهة، فبعد أن أنجز الكثيرون نقاشاتهم الجادّة وتأكدوا من فشل الثورات واجهاضها من خلالهم أصلاً توجهوا نحو استخدام هذه المواقع للتمايز الاجتماعي، فباتت محاولاتهم الفاشلة لكسر الطبقات ممكنة، وبات الذهاب إلى أحد المطاعم فرصة لالتقاط الصور وجدولتها على مدار أشهر وهو أكثر أولوية من الحصول على وجبة جيدة أو لقاء الأصحاب أو العشاء مع العائلة.

اليوم يُمكنك ببعض الصور أن تعيد تعريف نفسك وطبقتك، فصورة لك من احدى المدن أو أحد الفنادق كفيل برسم صورتك بالنسبة للآخرين، كذلك ساعة تلبسها شرط أن تكون متقنة التقليد أو باب سيارة لمديرك في العمل أو صديقك الغني.

الذي حدث بالفعل هو انشطار الطبقات، في مراحل ماضية كان الناس يبذلون جهداً كبيراً للولوج إلى طبقة جديدة، فيما حدث اليوم انشطار سريع جعل من بعض أفراد نفس الطبقة ضمن طبقة أخرى مفترضة وقد تتحول إلى حقيقيّة، أتحدث هُنا عن استثمار الجسد وأحياناً بعض السماجة فقط في التحول إلى نجم في المواقع الاجتماعية يُحصّل من المال بفيديو قصير ما تحصّله عائلة كاملة تعمل في التجارة أو تمتهن الطبّ والهندسة! إنه انشطار فقد حدث في وقت سريع جداً وبلا مقدمات طويلة، وبقي هذا النجم وعلى الأغلب هي نجمة يعيش في منزل أهله لكنه منشطر تماماً عن طبقته وحيّه ومجتمعه.

جزء كبير من الانفجارات السورية الاجتماعيّة بدءاً من 2011 لم تكن لأبعاد سياسيّة، كانت تعبيرات طبقيّة ولو حاول الكثيرون إلغاء هذا الجانب، بعض الأرياف ثأر شبابها من أصحاب المعامل الذين كانوا يشغلونهم كعبيد، فعادوا إليها حرقاً وتحطيماً ولو لبسوا لبوس الدين أو البحث عن الحريات وغيرها من دعاوى العقد الماضي. وكما كان استثمار الآلاف وتحويلهم لمتطرفين سهلاً سلسلاً من خلال ليرات بسيطة بات اليوم أكثر سهولة من خلال قروش فقط!

خُلقت خلال السنوات الماضية طبقات جديدة، وبعيداً عن تسميات الناس لها بأمراء الحرب (كان لدينا طبقات ظهرت كأمراء سلام بالمناسبة) فإن هذه الطبقات باتت بحاجة لمطارح للمتع والترفيه، والفضاءات السابقة باتت قديمة ومهملة وغير مُلبّية للرغبات المُحدثة، فانتشرت أماكن جديدة للسهر وللرياضة والطعام الصحي والحفلات الشاطئيّة واستلزمت هذه المُتع مزيداً من العُمال بأجور زهيدة ومزيداً من الخدمات المحليّة بأثمان بخسة وهو ما جعل استثمار فقر الطبقة الأدنى فرصة مرّة جديدة للعمل بأجر منخفض والتشغيل الكبير وفق مبدأ الفرص القليلة أمام العرض الكبير للراغبين بالعمل.

ما اودّ قوله أن الشهور القادمة ستحمل أحداثاً هنا وهناك يمكن تصنيفها ضمن تحرّشات طبقيّة، ستكون لأسباب مباشرة متعددة لكنّ أسبابها العميقة هي أسباب طبقيّة بالمطلق، وستكبر هذه التحرشات وتنتشر وهي قد تؤخر قليلاً الانفجار الاجتماعي الكبير القادم حكماً، في هذا الانفجار إن لم نُحسن التدبير والعمل من الآن سنكون جميعاً مجرّد شظايا..

وسيم السخلة – ربيع 2023

كان من الصعب أن تطمئنّ على مليون شخص.. مذكرات 4 آب 2020

هذه المذكرات هي مذكرات شخصيّة، قد تصف كثير من الألم والمشاعر والتفاصيل وكل التفاصيل

فيها حقيقيّة، اذا كنت تبحث عن مقال سياسي أو اقتصادي فهذا ليس مناسباً لك..

صيف بيروت، الثلاثاء 4 آب 2020

كانت بيروت تلتهب، صيفٌ حارق، البحر يتبخّر، الرطوبة تبطء الهواء فيبدو ثقيلاً، نتنفسه نحن فلا يتحرك من أمام وجوهنا، تخيلوا هواءاً لا يتحرك، يجثم أمامنا في المدينة، منتظراً شيئاً ما، عاصفة، انفجار، نهاية الكوكب، أي شيء آخر..

كانت إصابات كوفيد-19 في تصاعد، وكانت الليرة اللبنانية تهوي، كانت تهوي سريعاً، والناس معها يتخلون عن المستقبل، في كلّ المرات التي تحدث فيها الأزمات يفتح الناس خزائنهم، فيصرفون ماجمعوه، على مبدأ القرش الأبيض لليوم الأسود.. إلا في بيروت، استيقظ الناس في أيام سوداء، فوجدوا أن قروشهم التي جمعوها قد اختفت، هكذا فجأة ثمّة من سرق بلد كامل، لم يسرق بنكاً، سرق المصرف، لقد كان الناسُ مفلسين تماماً، ليس لأنهم لايملكون الأموال، بل لأن هناك من سرقها..

كان الثلاثاء يوماً بين فترتي حجر أقرتهما الحكومة، لم يلتزم الناس احتراماً للقانون، بل درءاً للكارثة الصحية المستمرّة، المشافي ممتلئة والضحايا يتمّ عدّهم كأرقام فقط، حين يعلنون اصابتك أو موتك لا أحد يسأل عن عائلتك أو أحلامك أو آخر شيء جيد فعلته، ولاحتى عن موقفك السياسي وحزبك، يسألون فقط عن عمرك، وعن مكان سكنك، وأين توفيت، وكم مرّة دفعت لإجراء اختبار الكورونا

.. هكذا كانت بيروت، كورونا تنغل نغلاً، رطوبة عالية جداً، صيف مشتعل الناس فيه غير قادرين على الخروج للسياحة كما اعتادوا حيث أموالهم سرقت والحدود مغلقة بسبب كورونا تماماً، الجميع صامت، وحدهم سائقو التكاسي يحللون الأزمات، وحدهم يحدثونك عن كيف سترجع الأموال، وحدهم يشرحون لك مسألة الشريحة الالكترونية التي سيزرعونها في أجسادنا فور اكتشاف اللقاح، وحدهم من يحدثونك عن كذب اختبار الكورونا، وعن الدكاترة الأميركيين الذين ركبو معهم وقالوا لهم أن الفيروس مؤامرة، وحدهم من يقتنعون أن أقاربهم الذين يموتون بالكورونا لم يموتو بالكورونا بل تم قلتهم بالوهم..

صباح ذلك اليوم

استيقظتُ كسلاً فأنا بحاجة للذهاب للمكتب حيث كنت أتدرب مع منظمة وعليّ بعض المهام التي انجزها من كومبيوتر المكتب، دخلت إلى المكتب مع سندويشة لبنة بالمكدوس اعتدّتُ تناولها من محل يُلاصق باب بلدية بيروت، تجاوزت الحاجز الأمني نحو ساحة النجمة، حيّيتُ عبد الله حارس البناء سألته عن السودان وأجابني بكلام لم أفهمه،

أنا في البناء الأنيق الأبيض المميز والذي يعلوه أسد حجريّ طائر وسط ساحة النجمة ببيروت حيث استخدم سابقاً كسفارة للايطاليين ومكاتب لشركة روتانا وغيرها.. في المطبخ أعددتُ الشاي، لا أحد سوى مدير المنظمة، أغلقت خلفي باب المكتب، شغلتُ التكييف ووضعت على الشاشة الأخرى مسلسل شارع شيكاغو.. وبدأت العمل..

للصراحة فإن تناول المكدوس في هذا الجو الحارق ضرب من الجنون، لكنّ إضافة اللبنة إليه (على الأغلب هو اختراع يُسجل لصالح محلات الفاكهاني في بيروت) جعل من المكدوس واللبنة والخضروات مع كأس من الشاي الأحمر لذّة معقولة وسط يوم صيفي حارق..

كان هاتفي يمتلئ بالإشعارات من مجموعات الواتساب الإخبارية اللبنانية، والتي تنقل كل شيء عن أي شيء، لقد عرّفتني هذه المجموعات التي مازلت عاجزاً عن مغادرتها على كل شيء يخص لبنان، بت أعرف كيف يصرح السياسيون، كيف يردون على تغريدات بعضهم، ماهي الكلمات التي يستخدمونها، “ليُبنى على الشيء مقتضاه” كما يقول مكتب رئيس مجلس النواب مثلاً.

جعل المكيّف القوي المكتب الزجاجي جنّة وسط جحيم الطقس، هذه الجنّة كنتُ أتفاوض في زمن مضى مع وليد على درجة برودتها، سافر وليد وترك لي المكيف والجنّة بحالها، اختار جنته الجديدة في تركيا.

كانت الساعة قد تجاوزت السادسة، وكنتُ لا أخرج  من المكتب إلا في المساء في أيام صيفيّة كهذه، كنتُ أشاهد سلاف فواخرجي وعباس النوري في مسلسل شارع شيكاغو، وادقق ملفاً أعمل عليه،

فجأة، اهتزّ البناء، كأنه ثمّة من امسكه من قواعده على طريقة أفلام الكرتون، خلال نصف ثانية كان عليّ الاختيار بين أن أتطلع نحو اليمين لأشاهد ما يحدث من الشرفة أو أتطلع نحو اليسار باتجاه باب المكتب الزجاجي.. اخترت اليسار.. كما أفعل دوماً

لو أنّي اخترت اليمين لتهشّم وجهي للأبد، هكذا ببساطة أقولها.. دوى الانفجار خُلع باب الشرفة الخشبي مع البللور المزدوج، في ثواني كنت قد طرت عدّة أمتار وهويت فوق نفسي، ارتد الانفجار، وقعت قطع من السقف المستعار صار الباب الخشبي وبلورته المزدوجة السمكية المحطمة تغطي ظهري وكان تحت جسدي الباب الزجاجي الذي صار حبيبات زجاجية جارحة..

هكذا فجأة تحولت من طالب ماستر يحب المدينة ويفرح فيها إلى طبقة بشرية بين الزجاج ومازال يتساقط فوقها السقف المستعار، الكتب، الكراسي، فجأة تصبح طبقة منسيّة، أنت الذي نجوت من آلاف قذائف متطرف اسمه زعران علوش كان يمطر فيها العاصمة دمشق تتحول هنا إلى جسد بشري بين طبقات الركام.

احتاج عقلي عدّة ثواني لربط الصوت بالانفجار، تلقى عقلي الفكرة أولاً، أين أنا، ثم سمعت الصوت من جديد، اذا لقد انفجرت المدينة، لوهلة أحسست أنني في وثائقي حرب لبنان الذي أعدته الجزيرة في التسعينات وحضرناه وحفظنا موسيقته في منزلنا بدمشق، أول ما فكرت فيه هو العائلة، بابا لم يكن يتصل بي كلّ يوم كما يفعل أصدقائي، لكنه كان لاينام قبل أن يراجع آخر ظهور لي على واتساب ليتأكد أنني نمتُ، نعم هذه الأشياء التي تكتشفها صدفة، كان أبي يراجع ظهوري على واتساب أكثر مما فعلت أي صبية كنت أستلطفها وتستلطفني.

تحركت قليلاً فرأيت دماءاً في ساعديّ وركبتيّ، بحثتُ عن الموبايل، كان أبي يشغّل قناة الجديد كل ساعة منذ بدأت المظاهرات قبل أقل من سنة في لبنان، كان يتابع قطع الطرقات ويشكل خريطة بيروت في ذهنه من جديد، هل تمرّ من جسر الرينغ في العودة للمنزل؟ لماذا تقطع من امام مصرف لبنان هناك مظاهرة عصر اليوم هناك، هل صحيح أن المواجهات تحدث بقرب المكتب من حولك، الله يرضى عليك خلينا بعاد..

وجدت الموبايل على بعد أمتار، كنتُ ما أزال ممدداً على الأرض، كانت الحرب قد اشتعلت في الخارج، هذه الحرب هي حرب أجهزة الإنذار، أنا في منطقة مغلقة منذ سنوات أمام العامة إلا لضرورات، منطقة فيها مجلس النواب ومكاتب المنظمات الدولية وبعض السفارات، وكل أبنيتها ذات طراز كولونيالي محدّث، ولكل بناء صفارة إنذار مدوّية إن لم يكن لكل مكتب، في الخارج حرب صفارات الإنذار ومن حولي الركام والغبار، وصلت للموبايل، فتحت تطبيق الواتساب فوجدتُ الانترنت يعمل وكانت هذه المفاجأة جيدة، لقد حسبت أن كلّ شيء انتهى وتدمر كلّ شيء لكن الانترنت يعمل جيد! فتحت المحادثة مع بابا، كنت أود أن أقول له أنني بخير قبل أن تورد قناة لبنانية خبراً يقول هز انفجار ضخم بيروت، أو الحرب بدأت من جديد في بيروت، حاولت تهدأة صوتي أرسلت له تسجيلاً قلت فيه: بابا صار انفجار وأنا منيح بعيد عنو، بس حبيت طمنك، بحاكيك بعدين

الحقيقة أنني لم أكن أعرف ما حدث بعد، والحقيقة أنني كنت أنزف بعض الدماء ولستُ “منيحاً” كما قلت، لكنني تخيلت العائلة التي كنت لم أراها  منذ 5 أشهر تتسمّر أمام تلفاز أو موبايل لتراقب ما يحدث في بيروت.

بدأت أدرك ما حولي، تذكرت أن المدير في غرفة أخرى، زحفتُ نحوه وجدته بخير، شاهد الدماء قلت له خدوش، بدأنا بفحص بعضنا البعض، نفتش عن جروح أو ضربات، استعدنا الوعي لدقيقة، قلت له أكيد هو تفجير في مجلس النواب الذي يبعد عننا أمتاراً، ذهبت إلى الشرفة، وجدت المجلس غير متفجر لكن شبابيكه محطمة، قلت له أكيد هو تفجير في شارع المصارف حيث يبعد عنا عشرات الأمتار، قال لي انفجار في المرفأ، قلت له مستحيل، الانفجار أقرب بكثير، تداعينا للخروج، تذكرتُ أوراقي الرسميّة وكومبيوتري المحمول الثاني الذي كنت أتركه بالمكتب، قال لي علينا المغادرة، كنتُ متأكداً اننا لن نعود إلى المكتب قريباً، لملمتُ أوراقي وحملت الكومبيوتر المحمول القديم، لا أدري كيف فجأة تحول حجم أوراقي إلى طنّ..

 نزلت من المكتب والدماء تسيل من قدميّ، ومن يديّ كنتُ اجفف الدم عن كفي اليسار بوضعه في جيب الشورت الخمري الذي ألبسه، كانت من نفس لون الدم، المصعد كان متعطلاً أصلاً وبالتالي لم نحتاج لتلك النصيحة التي نجدها ملصقة داخله دوماً عن عدم استخدامه في حالات الحريق والطوارئ.

نزلنا الدرج فسمعنا صوت الصريخ من مكتب بالطابق الأول، كل كل شخص يطمئن على عائلته، ثمّة أشخاص لم يردوا أبداً بعدها.. كانوا عدّة صبايا بخير مثلنا، تابعنا النزول.. بين المكتب والمكتب والحاجز الأمني حوالي 40 متر.. مشيتها ببطء..

كنتُ لأول مرة أشاهد مدينة تتحطم، نحن سكان العاصمة دمشق مرّت الحرب بقربنا، لم تخترقنا كما حصل في باقي المناطق، مشيتُ مذهولاً، هذا الجمال الذي كنتُ أتأمله كلّ صباح ومساء يحترق ويتكسر، هذا الوسط الذي أحفظ تاريخه وتحوّله وأحتفظ بصوره القديمة يُعاد تحطيمه.. لم يكن هذا الشعور منطلقاً من نظرة طبقيّة، أنا لم أحزن على وسط المدينة لأنه الجميل والمرتب، لكن كان ذلك أول ما شاهدته.. كانت صفارات الإنذار مستمرّة، بل كانت تزيد هلعاً كل لحظة، كان الناس يصرخون، كان يوم القيامة كما حدثونا عنه في الجامع عندما كنا صغار.. لكل شخص همّ ما، شيء يبحث عنه، رقم يحاول الاتصال به..

تجاوزت الحاجز الأمني، لأول مرّة أشاهد الخوف في عيون العسكر، ماذا يفعلون بالبنادق الأميركية التي يحملونها؟ ماذا تفعل عندما تتفجّر المدينة؟

وقفت أمام بلدية بيروت، كانت المحلات قد تحطمت واجهاتها والبضاعة فيها ارتدت للخارج، محلات الساعات والمجوهرات والأجهزة والعطور صارت خرائب، والبضاعة على الأرصفة، السيارات تتحرك بطريقة جنونية، منها من يضرب بالجدران الاسمنتيّة، أصوات صريخ، دماء، اسعاف، إنذارات، حاولت إيقاف أي سيارة أو تاكسي أو أي شيء، لا أحد..

تحادثت مع شباب بيت شام، كانوا بخير وقد اجتمعوا في المنزل مع بعض الأصدقاء، مشيت باتجاه شارع الحمرا من وسط بيروت، أحاول إيقاف أي سيارة، لم يتوقف أحد.. ما أحمله بلغ وزنه طن في تلك اللحظة، على الرغم من أنه لابتوب وأوراق لكنني أحسست أنني أحمل المدينة بين يديّ.. أنهكتُ جلست على الرصيف، مسحت الدماء، مشيت، تعبتُ، جلستُ أمام مشفى كليمنصو.. شاهدت المئات على نقالات الإسعاف مازالوا في الطريق، المشفى ممتلئ.. الناس يجنّون..

اتصلت بمحمد دياب شريك بيت شام، قلت له أن يلاقي لي لم أعد أستطع المشي، نزل والتقينا، حمل الأغراض عني.. كنا نتطلع ونحن غرقي بدموع لم تنزل من عيوننا.. كان دياب يشاركني حبّ المدينة المتخيّل، دياب كان مغرماً ببيروت ولو لم يكن على طريقتي، لكنّ بيروت المتخيّلة كانت تجمعنا، بيروت واليسار والصحافة والنشر ودرويش وو

في المنزل اجتمعنا، كان محمد عسراوي قد جرح قليلاً، وكان يطببهُ صديقنا وسام، الجميع في حالة ذهول.. المنزل لم يتأثير كثيراً فقط بعض الأشياء تحركت، بدأ الانترنت بالتعطل، أعدت الاتصال بالعائلة، صورت لهم أنني بخير.. جلسات في صالون المنزل الكبير في بناء جعفر آغا هذا المنزل الذي استأجرناه كبيراً لنوسع أنشطة بيت شام فإذا الكورونا تستمرّ، الكهرباء مقطوعة، دياب يوزع عليها المياه لنشرب.. كلّ منا بدأ يطمئن على أصدقائه.. كان من الصعب الاطمئنان على مدينة.. تخيل أن تعرف المدينة، لقد كنّا نعرف المدينة.. الجامعة، المجموعات، رابطة الأصدقاء، النادي السوري، مجموعات الدورات، مجموعات العرب الذين قضينا برامج معاً في الجامعات، اكثر من 50 مجموعة نسأل فيها بعضنا، هل نجوت؟

ما أبشع هذا السؤال في مدينة تحترق، في مدينة متفجّرة، هل نجوت؟ مالذي ينجو فينا بالضبط بعد حادث كهذا؟ كيف نعود كما كنّا؟ كيف نبقى؟ كيف نرد على هذا الكم من الرسائل عبر وسائل التواصل، كيف أشرح للجميع اننا لم نكن بخير حين كتبت منشوراً من كلمة واحدة لأطمئن الأصدقاء والمعارف، بخير!

اتصل صديقنا محمد دياب، وهو النسخة اللبنانيّة من نفس الاسم في بيت شام، قال لنا أن هناك تحذيرات من انتشار المواد الكيميائيّة في الجو وعلينا الخروج من بيروت، سيأخذنا بسيارته إلى صيدا حيث منزل لعائلته، فشلنا في شرح الأمر له، لن نخرج، لن يخرج مليون شخص، حاول معناً كثيراً، أعتقد يومها أننا كنا فاقدي القدرة على الكلام والتفكير، كنا نشعر فقط بالأسف، ننظر في عيون بعض، نحنُ الذين عشنا زمناً ذهبياً في بيروت شاهدناها كيف أفلست وشاهدنا الناس فيها كيف اختفت ضحكاتهم وشاهدنا تُصاب بالكورونا وشاهدناها تنفجر يومها..

في ذلك المساء كنا نتابع الأخبار، على الأصح كنا نتابع أرقام المفقودين والضحايا، أحسسنا للمرّة الأولى بالأسف، هل تعرف شعور الأسف على مدينة؟ والمدينة هنا هي الناس والمكان والزمن والنحنُ.

في اليوم التالي جمعت بعض الزجاج لأخلّد الذكرى، لكن عدّتُ وتخلصت من أغلبها فقط جرحت يدي مرّة أخرى.. حصلت على صحف اليوم التالي، حيث كانت الحياة قد تغيرت تماماً.. بالنسبة لي على الأقل..

وسيم السخلة

دير مار موسى، سورية التي قد لا نعرفها!

الشمس عندما تدخل إلى الكنيسة في الدير

خلال الأيام الماضية اختبرت تجربة مختلفة عما نعيشهُ في حياتنا اليوميّة كسوريين، وفي سورية. تجربة متكاملة من الهدوء والتأمل والروحانيّة، أقول متكاملة لأنه هذه الصفات اكتملت بغنى هذه التجربة بالمحبّة!

بدأت الفكرة من اختيار مكان لتوديع صديقنا المهاجر إلى جانب آخر من الأرض، إلى الولايات المتحدة سيهاجر صديق لطالما قضينا معاً ساعات طويلة من حوارات في أيام الحرب وأيام السلم وأيام القسوة التي نحاول عيشها اليوم، ستتوقف ربّما هذه الحوارات العميقة والتي كنّا ننطلق فيها لمكان مختلف عن تلك الحوارات التي نخوضها يوميّاً، لقد قررنا أن نودّع هذه اللحظات في مكان ليس له مثيل في سورية، إنه دير مار موسى الحبشي في القلمون وسط سورية.

في الأوتوستراد الدولي بين حمص ودمشق تقع مدينة النبك التي تتبع إدارياَ لمحافظة ريف دمشق، دخلنا هذه المدينة الجميلة الأنيقة وخرجنا شرقها نحو البادية.. بدأت سورية الأخرى تظهر إلينا نحن أبناء المدن، صحراء، بادية، شول، عراء، تراب، لا أحد.. سمّها ما شئت، بدأت كلّ شيء يختفي فقط شعاع الشمس الآتي من الشرق، نسيرُ نحوه في مرتفعات ومنخفضات، منطقة قاحلة تماماً، أعتقد أنّ الليل يسكنها وحده، تنقطع فيها شبكة الاتصال، والانترنت، لا عواميد كهرباء ولا شارات طرقية، هناك بعض الطيور البريّة لكنها غير مرئيّة، فيما عدا ذلك مضينا عدّة كيلو مترات في العراء التام.

أراض واسعة، تتراوح ألوانها من السمرة وحتى السواد بفعل الظلال، طريق اسفلتي تشّقهُ الحفر أحياناً وتغير اتجاهه بعض الصخور الكبيرة، ويستمرّ هذا الطريق نحو العراق حسبما قدرنا، لكنّ انعطافة نحو اليمين تأخذك نحو جبلين، يُشير لي صديقي بأن: هل شاهدت الدير مقصدنا؟ أجيبه ب لا، فيقول لي: تماماً هذا ما أرادوه في البداية دير يختفي بين الصخور بشكل متقن، بني كبرج دفاعي روماني يعود للقرن الثاني الميلادي، وهو دير سرياني يتبع جماعة دير مار موسى الحبشي الرهبانيّة بحسب طقس الكنيسة السريانية الكاثوليكية. (هذا ليس مقالاً عن تاريخ دير مار موسى يمكنك إيجاد عشرات المقالات التفصيلية عن الدير وتاريخه وأبنيته في الانترنت)

نصل إلى بداية الدير، يُحيّنا جندي من الجيش، نسأله عن ركن السيارة ونحن نتمنّى أن ندخل بها بعض الأمتار، فالشمس حارقةً جداً، يشير لنا نحو الباب ويسألنا وضع الأغراض في سلّة حديديّة مربوطة بالأحبال إلى الدير(قاطرة معلّقة، تيليفريك)، الأغراض تصعد فيها، أما نحنُ فعلينا الصعود في درب حجري ومن ثمّ درجات.

مئات الدرجات المرهقة، تحت الشمس الحارقة، مئات الدرجات تقضيها في حالة من الدهشة، كيف يعيشون هنا!

عند الوصول يستقبلك المشهد الذي صعدّته، إنها لذّة الوصول بعد التعب، تحت قماش من الخيش تستريح على قواطع حجريّة وخشبيّة قبل الدخول للدير، باب الدير باب صغير لايتجاوز ارتفاعه نصف طولك، ومنه لباب مشابه، أبواب حديديّة قديمة أعدّت بعناية كمدخل للدير.

وصلنا في وقت الإفطار، استقبلتنا الجماعة التي تعيش في هذا الدير بالمياه الباردة، عفواً قبل المياه كانت الابتسامة، وكأنهم اعتادوا هذا الموقف، فأتقنوه.

من اللحظة الأولى سنشعرُ أنه مكاننا، استلمنا الغرف البسيطة، تعرّفنا إلى أماكن الخدمات، وفهمنا أين سنعيش الساعات القادمة، الكهرباء متوفرة دوماً، المياه الباردة والمغاور في الجبال والفسحات والمكتبة التي كلّ ما فتحت فيها باباً أخذك إلى مكتبة أخرى، لقد بُنيت هذه الغرف في الصخر، وعلى الصخر ولهذا ليس لها منطق هندسي نعرفه، بل حسبما أتاح تشكيل الصخور بنيت هذه الغرف والمساحات.

في الكنيسة التي تتوجه نحو الشرق حالة أخرى، مدّ عربي بسيط، شموع في كلّ مكان، أيقونات كتبت على الجدران يعود بعضها إلى ألف سنة مضت، صلات لثلاث مرّات باليوم، صلوات رقيقة جميلة دافئة، أنت غير مجبر عليها، لكنّك ستحبّ ذلك.

اثر كلّ صلاة: كلام جميل، وعبر للحياة وحوار ممكن، وتأمل طويل.. ساعة صمت مسائيّة يمتنع فيها كلّ الدير عن الكلام، لكنك تشعر فيها بأنّك تحكي كثيراً والسماء تسمعك، طاقة كبيرة يركزها التأمل أمام عينيك، وفيك.

المشاعر بالدير هي مشاعر البيت، ما إن تدخل حتى تصبح جزءاً من المكان، تتحرّك فيه بسهولة، القواعد بديهيّة ومحدودة، الكل موجود ليساعد الكل، يمكنك التأمل، الصلاة، الكتابة، العزف أو الاستمتاع بالموسيقى، التفكير والنوم والتخطيط والقراءة، هناك غرف هادئة ومعزولة تماماً للقراءة، ومكتبة غنيّة بآلاف الكتب المتنوعة.

وجبات الطعام بسيطة وغنيّة وصحيّة ولذيذة، تُصنع كأنها في المنزل، يمكنك أن تساعد فيها أيضاً، الدير أنيق ونظيف ومرتب وعليك أن تساعد في ذلك أيضاً، الرهبان لطفااااء جداً يجيبونك عن كلّ شيء مهما كان صغيراً أو كبيراً عنهم وعن ما يعرفونه.

الأماكن كثيرة، متاحة، وعلى الجبل الآخر الدير الحديث أو المكان المجهز بالغرف والقاعات وهو الأحدث نسبياً وفيه غرف للمنامة وقاعة متوسطة للمؤتمرات وقد غلب عليه الطابع القروي، حتى أنّ مداخل الأبواب والشبابيك قد تمّ احضارها من بيوت تقليدية قديمة ربّما حلّت محلها الأبنية الحديثة.

بين الجبلين أو بين القمتين جسر حديدي وتحته وادي يمتلأ بالمياه وقت السيل أحياناً، في الخلف حاولوا بناء سدّ للمياه فغمر الوحل السد وظهرت أرض جديدة زرعت بالزيتون، حاولوا زراعة عشرات الأنواع المثمرة وقد كانوا يربون الحيوانات لكنهم توقفوا مؤقتاً..

لقد عانى هذا المكان من الإهمال خلال ستينيّات وسبعينيّات القرن الماضي، وأي زائر سيلاحظ تشوّه الوجوه في الأيقونات التاريخيّة المكتوبة على الجدران، حتى بدأت في الثمانينيّات جهود من الراهب اليسوعي باولو دالوليو الإيطالي لإعادة الألق للمكان وحوله إلى منارة ومركز لحوار الأديان وأجرى فيه كثير من الحوارات الدينية الإسلاميّة والمسيحيّة، وصار الدير مقصداً للآلاف على مدار عدّة عقود يرغبون بعيش التجربة لأيام أو يقيمون عزلتهم او تدريباتهم أو خلواتهم وصلواتهم وحواراتهم في الدير ومطارحه.

اليوم يعيش في الدير عدّة رهبان وراهبات اختاروا البقاء هنا ويتابع أغلبهم دراساته الدينيّة في إيطاليا وغيرها، ويرتبط الدير بأديرة أخرى، وعندما زرنا الدير كان هناك بعض المقيمين من الإيطاليين الذين جاؤوا لاختبار هذه التجربة كما جاء المئات قبلهم من مختلف دول العالم.

الدير ليس مكاناً للاصطياف أو التسلية بل هو مكان للتأمل والعزلة، وهو متاح لأي كان مهما كان انتماءه الديني أو الطائفي، لا أجور إقامة وإنما تبرعات تضعها في صندوق عتيق بحسب قدرتك، للوصول إلى الدير عليك التوجه لبلدة النبك في ريف دمشق، ويمكن الوصول إليها من دمشق من كراجات العباسيين بواسطة الميكرو سيرفيس (2000 ليرة سورية) ومن النبك عليك إيجاد سيارة أجرة نحو الدير.

لأن الكثيرين يسألونني كيف، فإن الاتصال واخبار الجماعة الرهبانيّة بأنكم قادمون هي الطريقة الأنسب، لايوجد تغطية موبايل في الدير وعليكم الاتصال على الرقم الأرضي: 0117877199

هذا الدير هو جزء من سورية التي قد لا نعرفها، أشجّع كلّ المهتمّين بشدّة على زيارته واختبار هذه التجربة!

وسيم السخلة
صيف 2022

الحريّة الافتراضية ورُهاب وسائل التواصل الاجتماعي

هل خلقت وسائل التواصل فرص متساوية مريحة للتعبير؟

تبدو الاجابة البسيطة على هذا السؤال نعم، يمكن لأي شخص اليوم أينما كان أن يُنشأ حساباً وصفحات ومجموعات متعلّقة ويبث محتوى غير محدود. لكنّ إعادة التفكير في السؤال تضع مجموعة من الاعتبارات قد تجعل الإجابة مختلفة!

 

وهم الحضور المستمر

يفترض الكثيرون أنّ وسائل التواصل هي البديل الكامل للصحافة والاعلام والنشر، وهم يعتقدون بالفعل انهم مرئيّون للملايين، لكنّ الحقيقة أنّ هذا مجرّد وهم، فالمحتوى في هذه الوسائل يختفي تدريجيّاً نظراً للكمّ الهائل وقد تتراجع النتائج عن فكرتك لتسبقها ملايين النتائج عن كلمات متشابهة، وقد تختفي منصات بكاملها وتذهب فيها كل تجارب المشتركين بلا رجعة مثل موقع مكتوب، لابدّ أنّ الأوائل في الانترنت العربي كانوا يعرفونه جيداً.

 

المحتوى الاحترافي مدفوع!

في الماضي كان الناس يستكتبون الصحافيين والكتّاب حول تجارتهم ومصانعهم وحتّى أفكارهم ورغم غياب الكليّات والمعاهد الصحافيّة أو ندرتها فقد كان الإنتاج أكثر وضوحاً ومباشرة وبساطة، ولكم أن تراجعوا أرشيف أيّ صحيفة من مئات الصحف التي كانت تصدر في بلادنا في الخمسينات مثلاً لتتبيّنوا مواداً صحافيّة بسيطة تُشبه الناس أكثر ولا تكاليف فيها.

اليوم كُل شخص بات صحافيّ نفسه، فنجدُ أصحابنا وهم يحاولون شرح أفكارهم العلميّة مثلاً بصعوبة، أو نجدُ السياسيين يصرّحون تصريحات مضحكة وكذلك الأكاديميون يكتبون فيتفاعل معهم الآخرون بالضحك ونجد رجال الدين يحكون قصصاً ويردّون ويتناحرون دون وضوح في الأفكار وفي عالم من الفوضى، بعض هؤلاء فقط أدرك أنّ الكتابة والصحافة هي حرفة وبدأوا بالاعتماد على بعض من يُساندهم وهنا وقعنا في طامّة جديدة..

انتشرت وكالات التسويق الاحترافيّة لوسائل التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة، وهذه الوكالات (أو الأشخاص) مهمّتها زيادة الوصول والإعجاب والأرقام، فهي ليست وكالات إعلاميّة ومعظم من يعمل بها درس التسويق القادر على جذب المتابعين والتأثير فيهم ولكن ليس تحريكهم ايجابيّاً، على العكس هذه الطرق الاحترافيّة التي يعمل ضمنها المسوقون تشجّع على الكسل الفكري وتدفع الناس لأخذ مواقف وإعادة أخذها في وقت كانت هذه المواقف تحتاج وقتا مناسباً للتشكل في مدارس ومكتبات ومع آلاف الصفحات، فما أسهل اليوم أن تجد صديقك وقد أصبح يساريّاً فجأة أو جارك وقد اتخذ أقصى اليمين في قضيّة شائكة يعرف خبراً عنها أو قرأ عنها منشوراً مع صورة ضاحكة!

 

جمهورك يسأل عن لون عينيك!

لقد كان الصحافيون وهم من أكثر الفئات تأثيراً نادري الظهور، فلا تظهر صورهم إلا قليلاً وكان هناك مقالات تحرّك الآلاف دون أن يعرفوا عن كاتبها أكثر من اسمه، وربّما حاولت بعض الصحف وضع صور صغيرة لكتّاب الرأي إلى جانب عامودهم الصحفي لكنّ ذلك كان يحصل بعد عشرات السنين التي قضاها هؤلاء يكتبون آرائهم، لقد كانت الآراء مقبولة من المُخضرمين فقط وعلى الصحافيّين الجدد تجميع الأخبار والركض لحضور الأحداث على حسابهم الشخصي وكم كان الحصول على معلومة أو ملاحظة تفصيل ما أمر مُرهق ومُكلف!

اليوم لا يمكنك كثيراً ان تكون وهميّاً، إن حضورك مهم جداً وقد تحصل على آلاف المتابعين من وراء صورك الشخصيّة فقط أو لون عينيك، في المقابل يمكن أن تبقى تحاول أن تؤثر وتكتب لعشرات السنين دون أن يزيد عدد متابعيك عن العشرات فقط لأنّك غير مصنّف في سلّم المعايير الجماليّة التي هي معايير مفروضة بحكم العادة وهي متغيّرة من زمن لآخر، إنّ شكلك ولونك والماركات التي تلبسها أو تدعي لبسها قد يجعلك موثوقاً تماماً وقائد رأي لآلاف المتابعين في كلّ مكان.

 

لا أحد يُدقق وراءك

الجهل يُلغي الحريّة، لأنّ الحريّة تقوم على المعرفة، في وسائل التواصل الاجتماعي نتعرّض يوميّاً لمئات بل آلاف المعلومات والمواقف والأحكام والنظريات ونتائج الدراسات ولا يملك أحد الوقت والقدرة للتدقيق في كلّ ما يتعرّض له من معلومات، وربّما أعدنا مشاركة كثير من المعلومات المغلوطة دون قصد فباتت موثوقة للآخرين، وفي أكثر الأحيان يغلب تأثير الأخبار والمعلومات المضللة والمنقوصة لأنها تشعل الغرائز والاتجاهات (كونها مدروسة) ما يُشكّل لدينا مواقف تلقائيّة من بعض القضايا عن دون قصد، وما أكثر القضايا اليوميّة التي أصبحت عامّة، وبالتالي هنا فحرية وصول المعلومات هي حريّة وهميّة في كثير من الأحيان لأنها قابلة كثيراً للتلاعب.

 

تجميع المتشابهين

على الرغم من أنها فكرة طيّبة أن وسائل التواصل تساعد الناس على تجميع بعضهم في مجموعات أو ضمن صفحات معيّنة لكنّ هذا يزيد من تكتل المجموعات والأفراد حول أفكارها ويولّد تلقائيّاً جدران فاصلة بحسب الاتجاهات من قضيّة معيّنة، ويبدو هذا أمر طبيعي لكنّ الأمور لاتقف هنا، بل مع كلّ موقف تربح عدّة تصنيفات لن تستطيع أن تخرج منها مهما حاولت، فالناس يصنفون بعضهم في مجموعات غير قابلة للتفكيك، مثلاً اذا كنت تدعم البيئة والنباتات فلا بدّ أنّك تدعم قضايا المثلية الجنسية وهكذا، يرفض الناس التعامل مع الأفراد بأفكار محددة بل يطمئنون إلى تصنيفهم.

 

أنت مُهدّد دوماً

في لحظة ما قد تتحوّل لأضحوكة، قد ينشر لك أحدهم صورة قديمة في المدرسة، قد تجري مقابلة عرضيّة في الشارع وقد تشارك منشوراً خاصاً أو صورة شخصيّة تتحول فجأة لتكون مادّة للتنمّر والاستهزاء، وكثيراً ما تكون الأسباب معدومة وغالباً السبب الأساسي هو قلّة التربية لدى البعض التي تجعل من أيّ محاولة تنمّر محاولة ناجحة لتجميع الاعجابات والوصول أكثر، وهذه اللحظة التي قد تتحوّل فيها إلى حديث العامّة هي ذات اللحظة التي يجد كلّ شخص على الكوكب نفسه معنيّ بالتعليق عليها، واذا حاولت الهروب من هذه المواقع سيجدونك في الطرق وسيحاولون إعادة الكرّة لأنّك في لحظة ما كنت مادّة خصبة لقلّة أدب البعض وسذاجتهم.

 

عليك أن تدفع لتصل

في بداية انتشار وسائل التواصل الاجتماعي كانت منشوراتنا تصل بشكل كامل تقريباً لمتابعينا، ومع الوقت قلّلت كثير من الشركات نسب الوصول تدريجيّاً بغية حثّ المشتركين على الدفع مقابل وصول منشوراتهم مع مميّزات تفضيليّة لاختيار القطاع الجغرافي والجنس والعمر والاهتمام وغيرها، اذاً اليوم لا تستطيع الوصول بصفحة مهما كان محتواها إلا لنسب محدودة جداً جداً من متابعيك أصلاً دون أن تدفع ولا تنسى هُنا أنّ كثير من الشعوب اليوم معاقبة فلا تسطيع الاستفادة من هذه الخدمات ولو خصصت جزءاً من أموالها للوصول لجمهورها الذي تفاعل معها أصلاً، أي أنّ هذه المواقع رغم أن لك جمهور يتابعك تعود لتأخير ظهورك أمامه حتى دفع الأموال.

 

أنت مُحاصر بالتريندز!

في التحوّل لشخصيّة نشطة على وسائل التواصل أنت مطالب بأن يكون لك آراء في كل شيء يحدث في هذا العالم، وفي كل شيء لم يحدث بعد أيضاً، أنت مجبر، الجمهور ينتظر، لايهم رأيك بالفعل حيث سيقف البعض معك والبعض ضدك المهم أن تشارك موقفاً، ولن يتمّ أخذ موقفك بشكل شخصي، بل سيُسحب موقفك على المكان الذي تعمل فيه أو تنشط فيه أو على الديانة التي تعتنقها وربّما على البلدة التي ولدت فيها، لن تنجو!

 

فرصتك محدودة

أغلب الناس لاتضغط “عرض المزيد” وبالتالي لديك بعض الحروف المحدودة وربّما جملة أو جملتين، ولايتعلّق الأمر باحترافيّة كتابة هذه الجملتين لجذب المتابعين بل هي سهولة التجاوز ومزاج الجمهور، في أيام الصحافة الورقية كان يبقى الموضوع أمامك وقد تعيد قراءة الصحيفة والمجلّة عدّة مرات انت وأفراد أسرتك أو زملائك في العمل وقد تتناقشون حول نفس المادة الإعلامية، أما على وسائل التواصل فأنت معرّض لمواد ومنشورات مختلفة عن تلك التي يتعرض لها ابنك أو صديقك أو حتى زوجتك وبالتالي سيكون النقاش غير فعال ولو كان عن نفس الموضوع كون كل منشور يقدم بطريقة الجهة التي تصدره وليست القصة حول مضمونه فقط، هناك سياسات تحرير تجعل من ضعف خصوبة طائر اللقلق مسألة متعلقة بحزب سياسي ما.

 

عليك منافسة التفاهة

نعم في وسائل التواصل تنافس منشورات حول إطلالة الفنانين أو قياس شورتاتهم مقالات عن الاحتباس الحراري أو زلزال أو كارثة أو حرب كاملة، ليس هنالك من تصنيف أو ترتيب، قد تستيقظ يوماً وتجد الناس متضامنين مع الحرائق في غابات بلد لايعرفونه وقد تجد أخباراً حول كوارث طبيعية خطيرة في بلدهم لايعرفون عنها شيئاً، في بعض الدول قد تتابع مئات الأخبار حول تغريدات أحد السياسيين والتي قد يعود ليقول أن ابنه كتبها حين كان يلعب بالهاتف في الصباح، إنه عالم كامل من تعميم التفاهة وينسحب هذا على بعض الكتب والمنتجات التي يتمّ الترويج المدفوع لها والتي قد يشتريها الملايين دون أن يكونوا قادرين على كتابة تقييم حقيقي لها لأنّ الموجة السائدة المدفوعة تعارض ذلك!

 

مواقف لم تختارها

اذا كنت شخصاُ عادياً أو معروفاً على السواء فالمتابعين وغير المتابعين لايتقبلون منك حريّتك ف التعليق او عدم التعليق، وقد يتمّ زجّ حساباتك في مسائل شائكة تجعلك مضطرّاً للتبرير أو الحديث عنها، وقد يتمّ اختيار صورة قديمة لك وأنت تلبس ألوان مختلفة لتجد الأخبار تقول أنّك تروج للمثليّة الجنسية وقبل أن يسألك الناس عن موقفك وأنت حرّ فيه مهما كان ستجد آلاف الشتائم وبعض الدعم وكثير من التكفير وربّما التهديدات في حال كنت تعيش في بيئة محافظة في بلادنا وحتى في البلدان الأوروبية هذه الأيام.

 

هناك حدود لكونك مناصراً لقضايا محددة

ولو كان هذا مفاجئاً لكن هناك حريّة وهميّة في بعض القضايا الأساسيّة، مسألة دعم الحقوق وفلسطين مثلاً قد تكون انتهاك لمعايير المجتمعات في وسائل التواصل الاجتماعي، وقد يخطر لك أنّ هذا فقط يحدث تجاهنا لكنه يحدث تجاه كلّ الشعوب التي لديها قضايا ولكننا اصطدمنا بهذه التهم على شكل انتهاكات وكم من حسابات جادّة وصفحات كبيرة أغلقت في هذه التهم، وجاء النزاع الروسي الاوكراني فجأة ليجعل من طرف ما مع كلّ حساباته وصفحاته العامة موضع شكّ وتقييد واتهام.

 

خصوصيّتك مهددة دوماً

حماية الحسابات تبدو أكثر الأشياء التي تهتم لها الشركات التي تدير وسائل التواصل الاجتماعي، لكنّ الحقيقة أنّ الحسابات الموثّقة يدفع مقابلها البعض سواء من خلال الشركات الوسيطة أو بطرق أخرى، ولو كانت الشركات جادّة في حماية الخصوصية لجعلت مسألة التوثيق متاحة لجميع المشتركين، في أي وقت من الأوقات قد تجد رسائلك الشخصيّة منشورة وخاضع أنت للابتزاز حولها وكذلك المعلومات التي تتبادلها عبر الحسابات أو حتى الروابط التي يتمّ ارسالها من خلالك للآلاف لاختراق حساباتهم، نعم هناك توعية رقميّة تقلل جداً فرص حصول هذا ولكن من حوالي ملياري مستخدم لفيسبوك كم مستخدم لديه هذا الوعي الرقمي؟

 

فجأة قد تُصبح مُداناً

انتشرت في السنوات الأخيرة بعض القضايا التقدميّة التي تحمّس لها كثير من ناشطي المجتمع المدني والسياسي حول العالم، وبالطبع وجدت هذه القضايا مناصرين وعانى منها ضحايا في بلداننا فأخذ الكثيرون تدريبات وحاولوا تطوير أفكارهم حول قضايا محددة وأخذوا ينشطون فيها في مجتمعاتهم، ولاريب أنّ بعض الأمور كان يعاقب عليها القانون قبل عقود أصبحت اليوم حقوقاً، المشكلة هنا أن كثير من المستخدمين وقد يكونوا من الأكاديميين ومن أصحاب التغيير في العقود الماضية فاتهم قطار هذه القضايا ولم يتعرضوا لتجارب أو خبرات لتطوير مهاراتهم فوجدوا أنفسهم فجأة مُدانين ببعض القضايا التي تخصّ الحقوق والكراهية ليسوا لأنهم كذلك يعتقدون بل لأنهم لم يلاحقوا ماحصل في السنوات الأخيرة، فجأة وجد هؤلاء أنفسهم موضع اتهام وإدانة وربّما عملت مجموعات كاملة على التبليغ عن حساباتهم ومنشوراتهم. بالطبلع هذا لاينفي الجانب الإيجابي لتشكل مجموعات ضغط لصالح حقوق كثير من الفئات وإنهاء الانتهاكات بكل أنواعها تجاه هذه المجموعات.

 

أنت مراقَب وتحت الأنظار

الحكومات تتابع الناشطين، هذا لاينسحب على بلدان العالم الثالث بل على كلّ الدول، نعم أنت مراقب دوماً وهناك بعض الموضوعات لايُسمح بالخوض فيها تماماً، فالسلطات الدينية بالمرصاد وحتى العائلة وكم يتجنّب الكثير من الناس التعبير عن آرائهم قلقاً من وجود أفراد عائلاتهم في قائمة الأصدقاء ولو كانوا في دول بعيدة، أيضاً فإن حالات استدعاء الناشطين والتحقيق معهم ورفع القضايا عليهم باتت مسائل متكررة جداً في مختلف البلدان، وغالباً ما يفضل البعض إلغاء التعبير عن موقف أو سلوك عندما يعرفون أنّ التكلفة ليست قليلة وتشمل دعاوى ومحامين ووقت ولو كانوا على حق.

 

حرّاس المعبد الافتراضي

كما في كلّ مجتمع مجموعة من الشخصيات التي تسيطر على الفنون والأكاديميا والرياضة مثلاً فكذلك وسائل التواصل، لكل مجتمع او موضوع مجموعة من “حراس المعبد” الذين يتولون السيطرة على الأخبار ولو لم نلاحظ ذلك ويتولون التعليق عليها وتوجيه دفتها في الاتجاه المناسب لهم، وهؤلاء في الغالب لا يعملون لحسابهم بل لحساب أطراف ومشغلين محليين أو عالميين وهنا ليس تعميماً لنظريّة المؤامرة لكنّ هذا يحصل باسم التأثير والقضايا وكثيراً ما نجد هؤلاء “حرّاس المعبد الافتراضي” مكرّمين من منظمات دولية أو سفارات أو حكومات نظراً لجهودهم في الترويج لقضايا معرفة وأخرى غير معروفة.

 

كلّ هذه الاعتبار تعيد السؤال للبداية، هل هناك حريّة وفرص متساوية للتعبير في وسائل التواصل الاجتماعي؟ وهل هذه الاعتبارات تساعد على فهم معاناة الآلاف من رُهاب وسائل التواصل الاجتماعي فيكتفون بالإطلاع ويخافون من المشاركة أو دعم قضيّة أو التعبير عن آرائهم؟

نحن بحاجة لإعادة التفكير في هذه الاعتبارات ولو على المستويات المحليّة لكي لايفقد الإعلام الجديد دوره في الأخذ والرد بين الأطراف وكونه باتجاهين ولا يعود كما كان الاعلام التقليدي اتجاه واحد موجه بشكل كامل.

 

وسيم السخلة

دمشق – أيار ٢٠٢٢

الناعم هويّتنا في سورية، وغربتنا خارجها

عندما تقرر أكل الناعم، أنت تلقائياً تُقبلُ على رحلة مجهولة النهاية، فيها شيئ مؤكد وحيد، أنها سعيدة

تخيّل وأن تمسك شيئاً تعرفُ أنه سينكسر، سيملئ أصابع يديك بالدبس، وسوف لن تعرف أن تقسّمه كما تفعل مع الخبز أو مع الكعك، فقوّة وهشاشة الأجزاء في رغيف الناعم غير متساوية، بالتالي فأنت عندما تقسمه لنصفين قد يقسمُ نفسه لعشرة أجزاء، واذا قررّت أن تأخذ كسرة صغيرة قد تجد ثلث رغيف بين يديك.

العشوائيّة التي يشكلها الناعم في ارتفاعه وانخفاضه كأنها صحراء لحقتها عاصفة بالأمس، أما سيول دبس العنب أو دبس التين، أو دبس الخروب، فعلى اختلاف ألوانها وكثافتها تجري كأنهار وسيول، وقد تشكّل بعض التجمعات القاتمة، وأنت تأكل الناعم قد تجد واحة من الدبس، فإذا وصلتها وجدّتها واحة بالفعل وليس وهماً كما يحدث في الصحراء.

الناعم مرتبط بالجماعة، في ذات الوقت هو مأكول فرديّ، ولا أدلّ على ذلك إلا فكرة أكله رغم الشبع، حيث يسعى كلّ فرد لاقتطاع حصّته وعدم التأجيل، لأنهُ يعرفُ مسبقاً أن فرداً آخر من العائلة سيقضي على حصته ولن تفيده أي معاهدات سابقة تسري على باقي الحلويات أو الفواكه، أو حتى تلك العادات الإجتماعية، سيأكلون رغيفك ولو كنت أنت الأب.

ليس للناعم قياس واحد، ولا لون واحد، ولا سعر واحد، كما أنه ليس له ارتفاع معيّن وبالتالي فقد اخترعوا علباً للفلافل حتّى، ولكنهم عاجزون عن اختراع علبة للناعم، ليس للناعم تاريخُ صلاحية لأنه لايبيت أصلاً، فلا بسطة ناعم إلا وتنفّق ماعندها قبل الفطور، ولا منزل يبقى فيه الناعم أبعد من أذان العشاء، الناعم بعد الفطور سلعة مفقودة لاتجدها في الأسواق ويخبّئها الناس أمام زوارهم، ويبقون قلقين من أن يتسلل أحد أولادهم للمطبخ فيرى الناعم فوق رؤوس الفرن، غير قابل للاختباء في خزانة أو براد.

الدبس فوق الناعم هو لوحة تشكيليّة، يستحيلُ أن تعاد مرّتين، كما أنّ لكلّ بسطة طريقتها في وضع الدبس، فمنهم من يدوّر الشوكة الخشبيّة الكبيرة ومنهم من يأتي ويذهب بها بشكل متوازي، ومنهم من يقاطع الخطوط كشبكة ومنهم من اخترع طرقاً سريّة أخرى بحيث يقنع الشاري أن الرغيف ممتلئ وأن زيادة الكميّة تزيد المرار وتُذهِبُ العقل.

القرمشة في نهش الناعم مسموحة، لاتشبه أي قرمشة أخرى، انها قرمشة ذات صوت منخفض، ناعم، يتضائل تدريجيّاً حتى يختفي ويختفي معه همّ صاحبه وتذمّره، فتجد الجميع بعد أكل الناعم لايفكرون في شيء، بل تتشكّل أماهم شلالات بألوان العسل وتنبسط أمامهم سهول صحراويّة مذهّبة رائعة لايشعرون فيها إلا باللذة وينسون معها عذابات الصيام.

هناك اعتقاد قديم أنّ الناعم كان تحليةٌ للنخبة من رجال الامبراطوريات العظيمة، وهو الذي مكنهم من المحافظة على قوتهم وذكائهم وهو سببُ انتصاراتهم في المعارك وغرف النوم، وهو سبب الخصوبة والحياة والمستقبل والمتعة الأصليّة، جرّب تشارك هذه الكذبة مع أحد يأكل الناعم، لن يناقشك بالطبع لأنه أرضى غروره للتو ببعض الناعم.

أما المغتربون، فهم لايشتاقون في الحقيقة إلى الناعم، بل يشتهونه، ولايشتاقون إلى تصبّغ أصابعهم بالدبس فقط بل يبكون لأجل ذلك، لم تعوضهم كلّ المحاولات الفرنسيّة والبلجيكيّة في انتاج حلويات اللذة، كما لم تعوضهم الأوروبيات عن بنات البلد، فتجد أخواتهم وأمهاتهم يقضون قبل الظهر في مجموعات الفيسبوك النسائية وبعد الفطور يذهبون للتراويح لمعاينة الفتيات فيعدن إلى الواتساب لوصف العروسات المتوقعة لأبنائهم.

هكذا هو الشرق، ناعم في رمضان

وسيم السخلة، رمضان 2022

لتعارفوا.. رحلتي إلى اكسبو دبي 2020

لتعارفوا.. اكسبو 2020

قبل أن تقرأ/ي

هذه تدوينة طويلة، أو لنقل حديث طويل يحتوى على عشرات الصور وآلاف الكلمات التي لن تكون بحال من الأحوال قادرة على تقديم حدث اكسبو دبي بما يليق به، إنها مجرّد محاولة أنقل فيها لبعض المتابعين بعض الأجوبة عن أسئلتهم عن هذه الرحلة، إنّ معظم الصور تمّ أخذها في حالة دهشة ولذلك هي غير احترافيّة وغير شاملة وقد تكون أُهملت أهم العناصر أثناء التقاطها، أشجّع جداً على العودة إلى: موقع اكسبو لكسب زيارة افتراضية ومتابعة صفحة انستغرام اكسبو لعيش تحديثات آنيّة للأحداث

أبداً بكتابة هذه التدوينة وعلى جانبيّ آلاف الأشخاص الذي لايُشبه أحدهم الآخر، أشاهد عشرات الجنسيات والألوان، ألف طريقة في ارتداء الثياب، ألف ذوق في انتقاء ألوانها.. من حولي العالم وأنا وسطه الآن، ساحة الوصل – اكسبو2020  

حضرت عشرات المعارض المحليّة في سورية ولبنان التي ألصقت باسمها كلمة اكسبو، لكن عندما سمعت بإكسبو العالمي للمرة الأولى كان ذلك قبل سنتين، حيث كانوا يعلنون تأجيله بسبب انتشار كوفيد-19 والإجراءات الاحترازية التي لجأت إليها كلّ البشرية حين توقف العالم واختبر شكلاً جديداً من السجن الكبير معاً

في الشهور التالية توالت الأخبار عن تأجيل اكسبو وعن التحضيرات الضخمة التي كانت تحضّر، وحتى يومها لم أفكر في زيارته، لأنه كان شيئاً غير أكيد الحدوث ولم نكن نعرف اليوم التالي أي فيروس سنحمل ونحن في بيوتنا، أتذكرون تلك اللحظات حين كنّا نغسّل أكياس الشيبس ونفتح الأبواب بأكواعنا؟

مضى وقت طويل نسيت فيه الموضوع، عندما عدّت إلى سورية خلال الأشهر الماضية بعد سنوات من الإقامة في بيروت شعرت بأنّ الجائحة قد انتهت بالفعل، فلم أشاهد كمامة واحدة وكان تعبير “مكورن” يشبه تعبير “والله متغدي وجاي” بين السوريين، الحبيباتي طبعاً.

في نهاية العام بدأت بمراجعة للسنة، وكانت كأنها مراجعة للسنتين الماضيتين حيث اتصلتا بشكل غير مفهوم، تذكرت الرحلات المعدودة التي كان يجب أن أكون فيها لأغراض دراسيّة أو تدريبيّة وبعضها كان في مرحلة حجوزات الطيران وألغيت فجأة بسبب انتشار كوفيد-19. هنا لمعت الفكرة للمرّة الأولى، لماذا لا أزور العالم في مكان واحد..؟

قلت لأصدقائي أنني سـأحضر اكسبو في شهر شباط فقالوا أي منحضر، وبدا ذلك حديثاً من نوع “خلص بدنا نزبطا” السوري المعتاد. أخذت بإقناع أصدقائي بالسفر لملاقاة العالم، بدا ذلك مكلفاً جداً فبدأنا بحساب التكاليف، وقد تحولت النكات التي أضحكت عليها أصدقائي حول أننا سنشتري علبة جبنة للعشاء والفطور أمراً واقعاً بعد أسابيع فقط.. حين نزلنا في فندق بعيد وسط ضاحية صحراويّة ستصبح خلال أشهر احياءاً مدينيّة تماماً

بدأنا بالبحث عن ارخص تأشيرة دخول، وأرخص تذكرة طيران وأرخص فندق وأرخص تأمين صحي، حمّلنا جميع تطبيقات الوصول السريع في دبي.. لنفاضل بين المترو والترام والباص والتاكسي، بدأت المصروفات تتوالى وتزيد.. ازدادت بعد أن كان القرار قد اتخذ.. سنذهب إلى اكسبو

حجزنا لاختبار كوفيد-١٩ رغم أننا جميعاً من أوائل متلقي اللقاح، لكنها شروط الامارات التي لا تعترف بالاختبار السوري أصلاً، وتجري لك اختباراً فور الوصول، لكن في ذات الوقت تطلب اختباراً سلبياً قبل ركوب الطائرة إليها..

ظهرت نتيجة الاختبار سلبيّة لي ولغيث كما هو متوقع، فنحن من أوائل متلقي اللقاح، لكنّ نتيجة علاء وأنس تأخرت، ثم ظهرت ايجابيّة.. بهذه البساطة تكركبت الرحلة تماماً، لقد قضينا أوقاتاً طويلة في الأسبوع السابق معاً، وليس هناك أي أعراض على علاء على الأقل.. لكنها النتيجة التي لا يمكن تغييرها.. لن يسافر الشباب معنا حكماً في الغد.

اتخذنا قراراً بتأجيل حجز الفندق لأسبوع على أن ننطلق أنا وغيث في موعدنا وننزل في منزل أقاربه بالخليج التجاري وسط دبي.. وعلى أن ننتظر الشباب أسبوعاً اضافيّاً لينضموا لنا في التجربة..

لنتحدث عن ماهيّة اكسبو أولاً

 اكسبو تعني المعرض وهي مشتقّة من الفرنسيّة، تقام معارض اكسبو الدولية كل خمس سنوات وتستمر لفترة أقصاها 6 أشهر حيث تستقطب ملايين الزوار، ويرجع إقامة هذا المهرجان إلى القرن السابع عشر، مروراً بثلاثينيّات القرن الماضي حين تمّ إنشاء المكتب الدولي للمعارض، وهذه المرّة في 2020 هي الأولى في تاريخ تنظيم معارض اكسبو الدولية التي يتم استضافتها في منطقة الشرق الأوسط وغرب آسيا. تهدف هذه المعارض لتثقيف الجمهور واشراكه في الرؤية المستقبليّة في مختلف المجالات، وتعتبر دوليّة حيث تشارك بها الحكومات والدول والجمعيات، والمؤسسات والشركات والهيئات

الامارات واستضافة اكسبو 2020

تفوَّقت دبي في التصويت لاستضافة المعرض على ساو باولو البرازيلية ويكاترينبرغ الروسية وإزمير التركية، إذ حصلت على تأييد 116 من أصوات أعضاء المكتب الذين لهم حق التصويت، والبالغ عددهم 164، ودبي كما هو واضح منذ سنوات تسعى لتكون الفضاء المشترك الجديد الذي يتيح التواصل والابتكار للدول، وهي اليوم بالفعل أخذت مكان عدة عواصم محيطة مختلفة رغم عمرها الذي أطفأت شمعته الخمسين قبل أشهر فقط، بالتالي هذه المدينة تفوقت بالفعل على المدن التاريخية والكبرى في الشرق فباتت اليوم تستقطب العالم، وباتت عاصمة العالم العربي بالنسبة لكثير من الشعوب والدول الأخرى

أعدّت دبي جيداً لهذا الحدث الضخم، أقيمت مدينة اكسبو كما يروق لي تسميتها على مساحة 438 هكتار في مركز دبي التجاري في الطرف الجنوبي الغربي لإمارة دبي، يتميز مكان المعرض بموقعه الاستراتيجي على مسافة واحدة بين إمارتي أبوظبي ودبي، وقربه من مطار آل مكتوم الدولي الجديد، وميناء جبل علي الذي يُعدُّ ثالث أكثر الموانئ نشاطًا في العالم. كما يتمتع موقع المعرض بمزايا لوجستية واضحة بالنسبة للعارضين الذين سيقومون بجلب المواد وبناء الأجنحة، أو بالنسبة للزوار من حيث سهولة معرفة الموقع والوصول إليه

الجديد في المعرض الدولي منذ قيامه هو ترجمة شعاراته وقيمه إلى واقع ملموس، ما يساهم في إحياء الرسالة التثقيفية لمعرض «إكسبو». وتُعدُّ «قاعات ومختبرات الابتكار»، بالإضافة إلى «الوصل بلازا»، من أبرز المعالم التي طورها «إكسبو دبي الدولي 2020» في هذا المجال. ويضمن الشكل الدائري لخريطة الموقع والتوزيع المنسق لقاعات وأجنحة العرض حول مركز الموقع، والذي تم تصميمه بوحي من شكل السوق التراثي العربي، رؤيةً جلية لجميع قاعات العرض. ويحتل مفهوم الاستدامة صدارة الأولويات، حيث وضعت أهداف طموحة لتطبيقاته، تشمل توليد 50 بالمئة من الطاقة التي يحتاجها المعرض في الموقع نفسه ومن مصادر قابلة للتجديد وبطريقة لا ينتج عنها أي انبعاثات للكربون

قبل أن تبدأ دبي بعرض خدمات الإستضافة كانت متأكدة أنّ لديها الإمكانيّة، نحن نتحدّث عن مطارات وفنادق وخطوط مترو جديدة وموانئ وآلاف الأطنان من البضاعة وآلاف الأفكار والأنظمة الذكيّة ومئات آلاف العمال والموظفين، الحديث هنا عن استضافة العالم، ياللهول كم كان ذلك ضخماً

هل هي رحلة سهلة عليّ؟

عملت دبي على أن يكون اكسبو سهل الوصول، وفرت عروض طيران وخدمات فندقيّة لملايين الزوار، بالطبع فإن تكاليف الوصول والإقامة في دبي هي مرتفعة جداً إذا ما قورنت بالدخل والقوة الشرائيّة داخل سورية، وقد لاحظت هذا من كون التكاليف على من تعرّفت إليهم من جنسيات أخرى عاديّة ومقبولة، لكن مثلاً متجر التذكارات في اكسبو أرخص تذكار لديه وهي بطاقة بريدية قد يبلغ سعر 4 منها راتب موظف بمنصب مدير عام في سورية!

أيّام الدهشة!

الدهشة هي رفيقة الزائر في اكسبو، في البداية فإن الشارات الصفراء التي تشير لإكسبو وطريق اكسبو تجدها في كلّ مكان، في أيّ دكان ستجد فيه جوازات سفر اكسبو وهو اصدار خاص تذكاري يمكن لأي أحد شراءه..

اذا قبل الوصول لإكسبو أنت موعود بالسفر حول العالم، إنها الفكرة الأساسيّة، تجتمع دول الكرة الأرضية اليوم لتقدّم لك أجمل ما تعتقده عن نفسها، لتقول لك عن ماضيها، لتُريك الحاضر، والبعض سيدفعك لتكون جزءاً من مستقبله..

في المترو تجد الآلاف يتوجهون معك، الجميع ينتظر الوصول، على الرغم من الطريق الطويل والازدحام لكنّ الجميع متحمّس، كيف لا والكل يعرف أنّه سيُلاقي العالم..

تخيّل أن تستقبلك عشرات الابتسامات الملوّنة، في الوصول تستقبلك الضحكات، هذه المرّة ليست وجوهاً تعرفها، عشرات الجنسيات من المنظمين الذين هم من أمم كثيرة لم نعرفها قبلاً.. ربّما لم نسمع بها حتّى.

توجهنا لشراء التذاكر، وجدنا طابوراً صغيراً فضل الشراء بشكل مباشر وليس أونلاين، اشترينا التذكرة الموسميّة التي سيتمّ تخفيض سعرها في اليوم التالي للربع فقط! لكن ربحنا معها بطاقة خصومات جيدة القيمة في مجموعة مطاعم بداخل اكسبو، أخذنا الخريطة من روبوت يذهب ويأتي على عجلات متوسطة، توقفنا تحت أعلام الدول في المدخل، وبدت رهبة اكسبو مختلفة، نحن هنا الآن!

أخذنا الصورة التذكاريّة الأولى.. كانت الشمس ساطعة والعيون تلمع، بالمناسبة إنها المرّة الأولى منذ بداية كوفيد-19 التي أرى فيها هذا الالتزام الجماعي بوضع الكمامة، والذي سيستمر كلّ الأيام.. ليس هناك من فرصة لخلع أو زيح الكمامة عن الفم والأنف، حكماً خلال ثواني ستجد روبوت يحذرك أو منظّم يشير لك بلطف لإحكامها.

من المدخل إلى ساحة مدهشة مدوّرة مسقوفة تسمّى الوصل، يالله ما أجمل هذا المفهوم، يقدم اكسبو دبي نفسه كونه الوصل بالحلقات بين كلّ الدول والجنسيات، وسقف الساحة مصمم كحلقات الشعار، حلقات متجاورة متنوعة تشكل نوراً يتوسع وكأنه شمس تنتشر فيها الحلقات نفسها وقد تغيّرت أحجامها..

تقع ساحة الوصل في قلب الموقع، لتشكل حلقة وصل بين مختلف أجزائه وتتميز بقبتها الاستثنائية التي توفر شاشة عرض بانورامية بنطاق 360 درجة، وهو ما يمنح الزوار تجربة غامرة يمكن مشاهدتها من الداخل والخارج على حد سواء

استلهم تصميم شعار expo 2020 من قطعة أثرية عُثر عليها أثناء واحدة من عمليات التنقيب في موقع صاروج الحديد الأثري في الإمارات، حيث تتميز هذه القطعة بقيمة خاصة، وهي عبارة عن حلقة ذهبية تمتد جذورها إلى مئات السنين، وتعبّر بأن الإمارات كانت وما زالت ملتقى للحضارات والثقافات المتنوعة.

وتصل الساحة – الوصل بين مناطق الموضوعات الثلاثة للحدث وهي: الفرص والتنقل والاستدامة، وهي الوجهة الرئيسية للعديد من الأحداث والفعاليات.

وتشكل الشبكة الفولاذية لقبة ساحة الوصل نسخة ثلاثية الأبعاد لشعار إكسبو 2020 بارتفاع 67.5 متر وعرض 130 مترا وتزن 2544 طنا، وتتكون من 1162 قطعة من الفولاذ، تم تجميعها في 600 جزء في مصانع بإيطاليا وأبوظبي

في ساحة الوصل أنت مجبر للتوقف، إنها لحظة انبهار مفروضة، ضروريّة، غير اختياريّة، ففي الوصل وخلال أغلب الأوقات هناك عروض صوتية ومرئيّة مبهرة، والمقاعد مصممة لتكون غير مرئيّة او مرتفعة، أنت لا تقرر أن تأخذ مقعداً، بل أنت حين تدخل الوصل تصبح جزءاً من العرض والألوان والأصوات، إنّ وجهك ولونك وملابسك وهؤلاء الآلاف مثلك هم مفهوم الوصل نفسه، لا يمكن أن تصطدم بأقل من 40 جنسية في أي اتجاه تنظر فيه، إنّه العالم بالألوان كما لم أعرفه من قبل..

في ساحة الوصل تُصاب بحيرة مقصودة، بالمبدأ هناك 3 اتجاهات رئيسيّة كما أسلفنا، لكن الحقيقة أنهم ألف اتجاه، ليس هناك مبالغة، هناك ألف وجهة، بين دولة أو شركات أو منظمات أو حدائق أو مسارح أو ردهات طعام أو مراكز خدمات أو فنادق أو شقق أو أكشاك صغيرة أو حتى نُصب تذكاريّة ودُروب خاصّة

في البداية غرفت في أجنحة الدول، الغرق هنا بمعناه الحقيقي، أنت محاط بكم هائل من الأفكار والتصورات، وبعد أيام من الزيارات قمت شخصيّاً بتقسيم أجنحة الدول بحسب الآتي، دول بحثت عن ملابسها القديمة ولبستها، دول لبست ملابس جديدة، دول فكرت بطريقة أخرى تماماً.. بعد أيام عدّت للتراجع عن هذا التصنيف، لأنني في كلّ جناح جديد (قمت بزيارة كلّ الأجنحة تقريباً عدا كيان لا نعترف فيه أصلاً) كنت أكتشف تصنيفات جديدة يمكن اضافتها، هذه التصنيفات ليست عن آخر الاختراعات ولا حجم ثروات الدول، إنها عن طرق التفكير، إنّ ما يجعل العالم متقدماً ومتأخراً اليوم لم يعد المال ولا القوة ولا الموارد الطبيعيّة، إنها طريقة التفكير فحسب والإيمان بكل شخص

محاور وتقسميات اكسبو الثلاث لهذه المرّة

يشكل اكسبو منصة استثنائية تتيح للمجتمع العالمي التعاون معًا لاكتشاف الحلول المبتكرة والرائدة للمواضيع الفرعية الثلاثة التي تم تحديدها كعوامل رئيسة للتنمية العالمية:

الاستدامة 

مصادر دائمة للطاقة والمياه: في عالم اليوم الذي تتسارع فيه خطى النمو، تتزايد أهمية الابتكارات المميزة في مجال إنتاج وتزويد واستهلاك مصادر الطاقة والمياه النظيفة. وتتلخص الأهداف الرئيسية للدول المتقدمة والنامية في تحسين فرص الحصول على هذه المصادر الطبيعية الثمينة، وذلك عبر اتباع أساليب الترشيد المسؤولة والإدارة السليمة والفاعلة، فضلاً عن اعتماد ثقافة الاستدامة

جناح الاستدامة هو تجربة لا يمكن نسيانها، نحن امام منطق جديد من التفكير، ليست أفكار جديدة فحسب، إنها أنماط تفكير جديدة.. هذا الجناح هو بكامله جناح مستدام أي مصنوع من مواد غير ملوثة ويمكن تدويرها، إن لهذا الجناح قدرة رهيبة على تغيير معتقدنا الأساسي حول مصير البشرية المحتوم، الأفكار التي قد يلزم الناس عشرات السنين لإدراكها بغية تغيير سلوكهم اليومي تجاه البيئة يمكن لرحلة من ساعتين أن تجعلك متورطاً فيها، حدّ التبنّي، الناس لا يخرجون من تيررا أو جناح الاستدامة كما دخلوا أبداً، كيف لا وهم يتعرّفون على المصائب التي يرتكبونها كلّ دقيقة تجاه الكوكب؟

التنقل 

أنظمة جديدة للنقل والخدمات اللوجستية: تعتبر أنظمة النقل والخدمات اللوجستية المتطورة شريان الحياة الذي يربط الناس والسلع والخدمات في جميع أنحاء العالم؛ وهي تتمتع بتأثير كبير على المدن، وأنماط السفر وأساليب شحن السلع، ومدى فعالية إيصال المساعدات الإنسانية. وفي الوقت الذي تواصل فيه الأسواق العالمية مسيرة نموها وتفاعلها، تبدو الحاجة ملحة إلى مصادر جديدة للابتكار بغية إيجاد حلول أكثر تكاملاً

إنّه عبارة عن spinner من الخارج، كتلة معدنية منسابة فضيّة مبهرة.. مبهرة تماماً، تأخذك في رحلة تاريخيّة عن تاريخ التنقل والتواصل بين الجغرافيّات الأرضية ومستقبل التواصل والتنقل، في هذا الجناح أنت تدور لتلحق بالغد، في هذا الجناح تسافر إلى المستقبل وتعرف أفكاراً سيلزمنا عشرات السنين حتى نعرفها في كتبنا المدرسيّة

الفرص 

سبل جديدة لتحقيق النمو الاقتصادي، في أعقاب الأزمة المالية العالمية، ومع انضمام المزيد من الدول الناشئة إلى الاقتصاد العالمي، تبدو الحاجة ملحةً إلى نماذج عالمية جديدة لتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة والاستقرار المالي. يشكل معرض “إكسبو الدولي 2020” في دبي منصة مميزة لتكريس نماذج جديدة لتدفق المقدرات المالية والفكرية الكفيلة بتعزيز روح ريادة الأعمال والابتكار. كما سيركز على اكتشاف سبل الترابط وتحديد الشراكات المحتملة، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى إنتاج إرث من الابتكارات الجديدة.

هذا الجناح هو ثلاثة أجنحة بالواقع، في كلّ منها تتعرّف على أشخاص مبتكرين قرروا أن يغيّروا واقع مجتمعاتهم من حول العالم، كما أنك أمام تجربة تخوضها من خلال منطق التلعيب، حيث تدرك من خلال لعب تنافسيّة دورك في مستقبل الأرض.. إنه جناح مثير بالفعل لأنك فيه لا تنتظر المستقبل أنت تتعرّف على أشخاص عاديين قرروا أنهم غير عاديين وباتوا في المستقبل بالفعل.. إنهم يروون لك قصصهم، ليست قصص نجاح كالتي نعرفها، إنها قصص تحدّي

البساطة والتعقيد

اكسبو دبي بسيط ومعقد في آن واحد، يمكن لك زيارته والتمتع بالفعاليات والعروض اليوميّة والساعيّة فيه، ويمكن لك حمل ألف دفتر ملاحظات لأخذ الأفكار والتعلّم، أنا على ثقة أنها ستمتلئ.. تبدو لك مقاعد حجريّة منتشرة لكنها كلمات منحوتة ومكتوبة بالخط العربي، تبدو لك سلات قمامة حديثة لكنها تعالج وتضغط النفايات، تبدو لك مظلات معدنيّة لكنها تولّد الطاقة من الشمس، تبدو لك حديقة لكنها مفهوم كامل، يبدو لك طريق عريض لكنه يصل بين طرفي العالم في دول متنوعة، تبدو لك عربات عاديّة تنقل ركاب، لكنها حافلات صغيرة للبروتوكول، وحافلات تاكسي وحافلات مجانيّة وقطار استكشاف ودراجات للإيجار وغيرها، تبدو لك محطة عابرة فيما هي استراحة لتلقي أفكار عرضيّة، تبدو نوافر مياه لكنها تستخدم للتبريد من خلال الرذاذ.. يالله ما أكثر الأفكار الصغيرة التي تحسّن من تجربتك وحيداً او مع الأصدقاء أو مع العائلة


الإبهار والتقنيات

لقد اجتهدت الدول لتقديم أحدث ما وصلت إليه، أول لنقل استخدمت بالفعل أفضل ما وصلت إليه.. نحن لسنا أمام معرض للابتكار، لقد كنّا نستخدم هذا الابتكار بالفعل، ويبدو أنّ زمن الصورة والفيديو والكتابة بشكلها القديم قد انتهى اليوم، كنّا في اكسبو أمام تجارب بصرية ترجع بك آلاف السنين لتعيش قصّة أو تأخذك في رحلة افتراضيّة من طائرة المستقبل، بعض الدول ولّدت المياه من الهواء في جناحها، بعضها استحضرت جبال الألب مع هوائها وبعضها عوّمت جناحها فوق المياه تماماً لأنها جزيرة بالأصل، دول أخرى جعلتك تعيش بداخل حاناتها التي تنتج موسيقى وتلمس شجيرات البن والكاكاو، دول أخرى اصطحبتنا في الغابات التي تتميّز بها، ودول أخرى استضافتنا في رحلة على كوكب آ خر.. هل يمكن تخيّل جناج اليابان من الداخل، لا يمكن.. بكل صدق.. كان حلم لم يسبق لنا النوم لأجله


هناك دول أخرى جعلتك تشمّ رائحتها على بعد آلاف الأميال، هناك دول صغيرة فضّلت الحديث عن ناسها، أخرى رأت أن طبيعتها هي أهم شيء، هناك دول لم تسمع بها من قبل يمكن لزيارتك لها أن تعطيك دروساً في استشراف المستقبل وفتح الاستثمار والذكاء الصنعي وهناك دول لا تخجل بحروبها بل تعيد أمامك سيرتها لتريك كيف تعلّمت ودول أخرى استقبلك حاكمها بفيديو ترحيبي ودول أخرى أبدعت أفكاراً في سحرك، قد تبيّن الصور بعضها

مئات الفعاليات

قد يخالُ لك أن إكسبو هو معرض، في الحقيقة هو عالم من الخيال، في كلّ يوم عشرات الفعاليات، الفنيّة والفكريّة والثقافيّة والترفيهيّة، في كل ساحة من الساحات هناك شيء ما جديد كلّ يوم، هناك ثقافة ما يتمّ بثّها، لقد جمع المنظمون أفضل ما في هذا العالم لأجل متعتك وتجربتك، = أتقنوا مسألة مهمّة هي تحدي الذات، لقد تفوّق المنظمون على عقولنا، وهذا ليس مبالغة لكنه اعتراف بأنّ كلّ تفصيل في الحدث يحترم كونك إنسان ويقول لك تحرّك.. المستقبل بدأ وأنت هنا هيّا تعال

أفكار تجعلنا أفضل

التقنيات في اكسبو وفخر الدول بها لم تستخدم هذه المرّة لتقول لك نحن وهم وأنتم وهؤلاء، إنها تستخدم لتجعلنا أفضل جميعاً، القضايا التي تنصّب بعض الدول نفسها للتصدي لها هي قضايا الإنسانيّة في الواقع، قضايا البيئة والاستدامة والمستقبل والتعليم والفقر يتمّ التفكير بها بدرجة عليا من المسؤوليّة، نعم هناك شركات تقوم بهذا لكنّ الاستثمار لطالما كان محرّك المستقبل وعجلتهُ الأساسيّة

تفتيش الذاكرة الجمعية

قد يخطر للبعض أن منظمي الحدث قد استقدموا كلّ جديد ليصمموا تجربة الإبهار هذه، هذا جزء فيه صحّة لكنّ الأصح أنهم أيضاً قاموا بالتفتيش في ماضيهم مهما كان قريباً، فأعادوا خلق المفاهيم، وبات كلّ شيء جميل في أصله قصة قديمة، من تخطيط عالم اكسبو الذي يشبه تداخل الأسواق الشعبيّة العربية وحتى نوافير المياه والدروب الواصلة بين الساحات والأركان المظللة الكثيرة للاستراحة وحتى للتدخين، لن تشعر بالغرابة في اكسبو، ستشعر كيف أنّه أعيد استخدام أشياء تعرفها جيداً، سترى الشخصيات الكرتونية وقد تحولت لمشاريع تغيير، للأطفال أركان، للمتعة البصريّة أماكن، للراحة أماكن وحدائق، حتى الشمس والقمر تمّ استحضارهما لإضاءة حديقة في المساء، الأسماء التي سمّيت بها الدروب والساحات كلّها نعرفها.. أماكن العبادة والرياضة وغيرها

 

الطعام! تذوق لأول مرة

عمل اكسبو على فتح أكثر من 200 منفذ للطعام، أقولها بثقة لا يشبه منفذ آخر، في اكسبو لأوّل مرة كنت أمام مطبخ عالمي، من روائح توابل الهند مروراً بمناقيش الزعتر الفلسطيني وحتى ردهات الطعام الإفريقيّة التي طلبنا فيها أطباق لم نسمع بها من قبل ولم نشمّ رائحتها قبلاً، إنه مطبخ العالم ببهاراته الأساسيّة، لا طاه يشبه الآخر، لا يوجد لوائح طعام متطابقة، لا منافسة، لأن الجميع يختبر أشياء للمرّة الأولى.. هل نتحدث عن أنواع العصائر التي لا تحصى؟ عن أنواع القهوة في بعض الأجنحة التي لم نعرفها قبلاً؟

اللغة العربيّة، هويّتنا

في الدول العربيّة الطامحة للحداثة كثيراً ما يترك السكان لغتهم العربيّة ويصير معيار تقدمهم كمّ الكلمات الانكليزيّة والفرنسيّة التي يستخدمونها، في الإمارات لا، هذه واحدة من الأشياء الأعظم على الإطلاق، انهم فخورون بالعربيّة، يتحدث اكسبو (من خلال كل شيء فيه لوحات وارشادات وعروض) كلّ اللغات بطلاقة، لكن العربيّة أولاً إلى جانب الإنكليزيّة وإنّ لهذا الاحترام من قبل المنظمين أثر كبير في فرض احترام العربية في أجنحة الدول، نعم أغلب الدول وجدت نفسها تترجم ما تعرض للعربيّة، إن اللغة جزء من الهويّة وهذا المعرض هو معرض هويّات

العالم هُنا

اكسبو فرصة لزيارة أفضل ما في العالم، قد يُتاح لنا زيارة بعض المدن من وقت لآخر، أما زيارة ما تعتبره كل دولة أفضل ما لديها فهذه هي الفرصة العظيمة، نعم يمكن أن نزور الدول لكن لا يمكن دوماً التعرف على تفكير مواطنيها وحكامهم، إنه العالم في مدينة صغيرة بالمساحة رغم أنها ستتعب قدميك بلا شك.. وهي بالتأكيد ستتعب عقلك، وستلهم أفكارك وتشعل مشاعرك، ستحب عيوناً لم تراها من قبل وتعجب بلكنات لم تسمعها في الأفلام، اكسبو سيُلوّن عينيك من جديد، ستعرف كيف أنّ الألوان هي كالطعمات، كلّ شعب يشعر بها بشكل مختلف ويستخدمها كما لا تستخدمها أنت.. دع عنك كلّ محاولاتك لتقبل الآخر، في اكسبو أنت الآخر، حتى أنت ستتعرف إليك من جديد، لأنك ستقارب كل ما تراه مع كل ما تربّيت عليه، ستقول نحن، وأنا كيف أفكر وكيف أشعر وكيف أعبر عن هذا وتلك من الأشياء غير المنتهية

لسنا ملوك العالم

في اكسبو ستدرك أننا جزءاً من هذا العالم، ولسنا العالم، وستلوم أبو فراس الحمداني على قوله لنا الصدر دون العالمين، الحقيقية أنّ الصدر لمن يغيّر آليات تفكيره كلّ يوم، سنعرف في اكسبو أننا بناة حضارة وهي جزء من حضارة الآخرين، وأننا أصحاب أبجديّة، ولكنها حروف الآخرين، وأننا أصحاب موسيقى والآخرون ألحانها.. نعم سينتزع منك اكسبو فكرة أنّنا محور العالم، سيضع مكانها فكرة جديدة بسيطة، كل شخص هو محور العالم فيما لو فكر بالعالم وسعادة العالم.. في اكسبو تتعلّم أنّ دولتك قد سمع بها البعض فقط، كما سمعت أنت بدولهم، الحقيقة أنك ستكتشف دولاً لم تعرفها، وستعرف أنّ الناس في أفضل أحوالهم يعرفون عن بلدك اسمها ولون علمها، وربما أغلبهم يقول لك كم تبعد بلدك عن دبي؟

لا أحد في الخلف

ليس هناك من أي قيود لمشاركة ذوي الإعاقة، إنّ تقنيات وصولهم لكل تفصيل في اكسبو مؤمّنة، كذلك كبار السن، كذلك الأطفال لهم أنشطتهم ومغامراتهم الشيّقة، في بعض اللحظات ستتمنّى لو كنت طفلاً لتحظى بمغامرة ما في اكسبو، الأجنحة أيضاً لم تنسى الشباب، جناح الشباب الذي تعبر فيه الإمارات عن وجهتها وكيف تستثمر في الشباب، جناح المرأة ليس أقلّ إبهاراً من أجنحة اكسبو الأساسيّة، جناح الرؤية الذي يجعل دموع الاعجاب غير قادرة على أن تبقى في العيون، إنها الرؤية التي بنيت على أساسها هذه المدينة، هذا الجناح هو هديّة المنظمين لعراب دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم

لو كنتُ مسؤولاً قادراً في أيّ حكومة، او شركة، او منظمة، أو رابطة، أو عائلة لحاولت إيفاد ما أمكن من الناس حولي لتعلّم التفكير، لتعلّم إعادة التفكير

حيّاكم.. وسيم السخلة

رحل يزن كرنبة.. وبقيت دروسه

رحل يزن كرنبة.. وبقيت دروسه
افتتاح المهرجان الرابع للمسرح التفاعلي في سورية

تحيّة إلى يزن كرنبة – شبكة الأقران الشباب – سورية

كان يمكن لهذه الكلمة أن تكون مجرّد تقديم وترحّم، لكن أسئلة البعض ممن لايعرفون يزن عن كل هذه المحبّة وهذا الاحترام دفعنا لنتشارك بعض الدروس التي نظّرنا لها كثيراً.. فأتقنها يزن وبات ملهمنا فيها..

حافظ يزن على كونه شخص عادي

عبرنا مع يزن في كثير من الفرص المشتركة، في بعض الأحيان كنّا كلما عبرنا فرصة نتغيّر، وهذا شيء ايجابي.. ولكن للأسف كنّا نبتعد أكثر عن تركيزاتنا، فنعيد استخدام مصطلحات جديدة أو معرّبة أو أجنبيّة فنبتعد عن الآخرين.. كان يزن أكثر قرباً للناس والمحيط في خطابه ومنطقه، كان يشبه السوريين أكثر كلّ يوم

بقي صديقاً للجميع

في زحمة ما يحدُث للكيانات التطوعية في سورية من انقسامات وشلليّة – لم ننجو منها بالطبع – بقي يزن محافظاً على شبكة علاقاته، قريب من الجميع، في قلب التأثير.. بعيد عن الاصطفافات في نفس الوقت، لنتخيّل كم كان هذا صعباً ومعقداً!

الحُبّ في الخدمة

كان يزن يخدم الناس بحُبّ.. ولهذا نجدهُ مع عدّة فرق ومؤسسات.. في عدّة أماكن.. مع الأطفال، الكبار، الجرحى، الأولمبياد الخاص.. يخدُمُ بابتسامة في كلّ مكان، وكان نادراً ما يسأل عن المنفعة، كان يكفيه الفرح دوماً.

يزن شخص منتمي

على الرغم من تواجده في عدّة كيانات مجتمعيّة، وعلى الرغم من تبدّل أدواره وعدم رضاه دوماً عمّا كان يحدث بقي يزن منتمياً.. كان يدرك أن شؤون الشبكة الداخلية خاصة بالأعضاء واختلافه معهم لم يعني يوماً مقاطعة المسؤوليات التنظيميّة.. بقي يزن منخرطاً في قضايا الشبكة ومنتمياً لها.. عندما كان مستفيداً وعضواً ومسؤولاً وحتى عندنا عاد عضواً فيها..

علّمنا الإلتزام

تولّى يزن مسؤوليات مختلفة.. صغيرة وكبيرة.. التزم في اتمامها ولو كان ذلك على حساب ظهوره وعلى حساب وقته وجهده.. أخلص يزن لنا وللمهام التي تولاها.. تواضع في كلّ ما استلمهُ وأداره.

بقي لطيفاً مهذباً
هل اكتسب أحدنا كل هذا الاحترام وهذه المحبّة؟

حافظ يزن داخل وخارج الشبكة.. في العمل.. في الكشاف.. في الجامعة.. وفي سورية ولبنان حيث أقام فترة على اللطف والتهذيب.. أحبّ الجميع وأخلص لهم.. اطمئنّ علينا جميعاً وهو في أعقد ظروفه.

الناس لأجل الناس

جرّبوا أن تفتحوا المحادثات مع يزن.. ستجدونها مليئة برسائل الطلبات والمساعدة للآخرين.. كان آخر من يطلب لنفسه.. اهتمّ بمساعدة الناس بأي طريقة وبقدر ما يستطيع.. عمل مع الناس لأجلهم لا لأجله.

روّج للأمل!

في زحمة هذا الألم الذي يحيط بالسوريين التقط يزن أيّ اشارة مهما كانت صغيرة لينشر الأمل والتفاؤل والرضا.. تعرفهُ جيداً نشرات أحلام صغيرة وتعرفهُ محاولاتنا البسيطة جميعاً.. لقد تبنّى كلّ أحلام أصدقائه.

لم تفارقهُ الإبتسامة.. نحنُ على ثقة أن يزن رحل راضياً..مبتسماً

هو حلمٌ لنا جميعاً أن نترك كلّ هذا الحُبّ وهذه المحبّة خلفنا.. نحن الراحلون دوماً

وسيم السخلة
عن شبكة الأقران الشباب في سورية
‎18-12-2021 مسرح مدينة الشباب بدمشق
*توفي يزن في تموز 2021 بعد أن صدمته سيارة في دمشق
« Older posts Newer posts »

© 2024 Waseem Al Sakhleh

Theme by Anders NorenUp ↑