هالدّني بتساع الكل <3 - Life can accommodate everyone

Category: سورية (Page 1 of 3)

أشياءٌ تلزمُ الحكومة وتلزمنا، تجربة المواطن! 

مُصنّف سحاب أخضر، وطوابع لمعاملة واحدة

يلزمُ سورية أشياء كثيرة، من أبرزها تجربة المستخدم وأسميها هُنا تجربة المواطن، تغيب مع الوقت وتُنسى تماماً في بلد مأزوم منذ تأسيسه، مُحاصر دوماً يعيشُ مواطنوه الانتظار أبداً.

تعرفُ تجربة المستخدم بأنها كلّ ما يرتبط بسلوك وموقف وإحساس المستخدم حيال استخدامه منتجاً أو نظاماً أو خدمةً معيّنة. وأنا هُنا أقترحُ تعريفاً لتجربة المواطن يشبهُه، فهي كلّ ما يرتبط بسلوك وموقف وإحساس المواطن حيال تعاملاته الحكوميّة والرسميّة.

ولكي لانغرق في التنظير الإداري لنأخذ مثال تحدّي النقل العام في سورية، وهذا تحدٍّ لايُدركهُ مسؤولوا بلد يُقدّم سائقين وسيارات وقسائم محروقات مُجزية لكثير من موظفيه في المؤسسات العامّة والمنظمات الشعبيّة أيضاً. كما يمنحُ الوزراء وغيرهم من المسؤولين قي مستويات مختلفة صلاحيّة التصرّف في توزيع السيارات الموجودة في المؤسسات باعتبارات مختلفة ومتنوعة، منها الولاء ومنها الضرورة ومنها المحسوبيات نفسها. 

هذا مثال بسيط يجعلُ من استخدام وسائل النقل العامة في سورية مسألة تخصّ العامة فقط، فالمسؤولون بالفعل لايدرون عن التحديات اليوميّة للتنقل في سورية، حتى معظم أولادهم يحظون بسائق فلا يمرّون في هذه التجربة وإلا لما كان الوضع عليه! 

كذلك هُناك من يُنجزُ للموظفين الحكوميين معاملاتهم الرسميّة أغلب الأحيان، فلايُدركون صعوبة مشي شارعين لإحضار طابع أو العودة في اليوم التالي، أو انتهاء الدوام بالنسبة لموظف عند الساعة 12 أو لتصوير هويّة للمرّة الألف، أو لشراء مُصنّف سحاب أخضر مقيت، لانحنُ نُحسنُ استخدامه، ولا نحنُ نلغيه ولو وصل التحول الرقمي مواصيله.

الأمرُ لايتعلّقُ بالمسؤولين بالمعنى المُسلسلاتي السوري للكلمة أي أصحاب المناصب والبدلة الرسميّة والمكاتب الخشبيّة العريضة والجرس الالكتروني، بل نعني هُنا كلّ مسؤول في كلّ مستوى، المُعلّم مسؤول الصف الذي لم يجلس مرّة واحدة في مقعد طالبه، والمديرُ في المدرسة الذي لم يُجرّب مرّة استخدام حمامات المدرسة، وشرطي المرور الذي لم يُجرّب مرّة أن يوقفهُ شرطي لأجل اللاشيء بلا أسئلة بلا أجوبة بلا تحيّات فقط لأخذ رشوة باتت أهمّ من مُرتّبه.

كذلك مسؤلوا المنظمات الشعبيّة الذين نسيو فور انتخابهم أو تعيينهم أن يُمثلون الشرائح لا الحكومة، ومشاكلهم التي يسعون لحلّها هي مشاكل من انتخبهم، لا من انتقاهم، وكذلك المسؤولون المحليّون في البلديات، هؤلاء مالذي حصل لعيونهم؟ فلا ترى الحُفر في الطرقات ولا تسوءها القمامة وتراكمها ورائحتها ولا تعنيهم مشاكل الأحياء الكثيرة التي كانوا يعرفونها جيداً ويعتبرون حلولها تحصيل حاصل وصاروا يحتاجون توجيهاً لحلّها أو استقبال وفد شعبي لوعده بحلّها، دون حلّها أبداً.

ينقُص المسؤولون في سورية اجراء تجربة المواطن، أي أن يتخلّوا عن مكانهم ليوم واحد، لساعة واحدة، لاختبار اجراء معاملة في مديرياتهم أو وزاراتهم، ليختبروا تعامل بعض الموظفين، ليختبروا صعوبة الذهاب والعودة والانتطار وتعطّل الشبكة وغياب الكراسي وقذارة الممرات وصعود الأدراج المظلمة وطلبات الموظفين وروائح سجائرهم الكريهة وقدرتهم على استلاب أموالك ووقتك ومواطنتك، نعم فحُبُّ سورية يهزّهُ موظف حكومي يدفعُ بك بعيداً لأنه مشغول بدردشة تافهة أو مهمّة على الواتساب في وقت عمله، أو لأن مديره المباشر زجرهُ أو لأن زميله أخذ اجازة طويلة وهو يقوم بأعماله مُكرهاً.

بالفعل لو توجه المسؤولون لتجربة المواطن لما احتاجوا اجتماعات كثيرة للتخطيط والإدارة، ولا لزمهم خبراء ومستشارون ودورات داخليّة وخارجيّة، لو ينزلوا إلى مؤسساتهم نفسها ويمشون أمتاراً قليلة لصاروا قادرين على معرفة المشكلات وكلّ الحلول، ولما لزمتهم الاجتماعات الطويلة المريرة، ولاستغنوا عن سماع تقريع النواب والصحافيين صباح مساء.

قال رئيس الحكومة قبل أيام داعياً وزراءه لضرورة التفكير خارج الصندوق، وهذا أمرٌ حسن، لكن ماذا لو فكّروا من داخل الصندوق أولاً، من مباني وزاراتهم نفسها، ومن مديرياتهم القريبة والبعيدة، ماذا لو أحصوا كمّ أطنان الأوراق المهدورة، والمصنفات الضائعة، والحبر المُسال اسرافاً في صور هويّات وأختام وتواقيع وتصديقات لا أحد يُدققها ولا يُصدّقها، ماذا لو أدركوا حقيقة المنصات الالكترونيّة للخدمات وجرّبوا اصدار جواز سفر بدور عادي يتعذّر اصدارهُ إلا بواسطة سمسار، الكتروني هذه المرّة وربّما لكلّ مرّة قادمة.

نعم، المسؤولون في سورية أبناء مؤسساتهم وهيئاتهم ومنظماتهم نفسها على الأغلب، لكننا لاندري ماذا يحصلُ معهم منذُ اليوم الأول للسلطة، انهم لايتغيّرون فحسب بل ينسون تماماً ما اختبروه وهذا أمرٌ مُريب على الحكومة التعاقد مع خبراء طاقة وإدارة لمراجعته، هل هو مسٌّ حكومي أو هو فايروسٌ سلطويّ، أم انهُ ضغط عمل كبير يلزمُ مسؤولاً بتوقيع آلاف الأوراق كلّ يومين؟ واذا كان كذلك فمتى تفوّض السلطات؟ ومتى لا تكون حاجة لدوام مسائي يداومهُ بالفعل أكثر موظفو الدولة سواء في مكاتبهم أو في مكاتب الآخرين.

إنّ تجربة المواطن ليست اختراعاً جديداً بل عرضها مسلسل تلفزيوني محلّي منذ 1996 باسم يوميات مدير عام، منذ 28 سنة لليوم، كم مسؤول حكومي فعلها؟

وسيم السخلة 

13/11/2024

سبعة أحلام سوريّة صغيرة ♥️

وأنا أُتابِعُ بعجز أخبار الحرائق التي تأتي على غابات الساحل السوري والحراج والمزارع في هذه السنة والسنوات الماضية تذكرتُ دفتراً صغيراً لديّ، دوّنت فيه ذات مرّة بعض الأحلام الصغيرة، ورغم انّني حكيتُ عنها هُنا وهُنا فإنني رغبتُ بكتابة بعضها هُنا، علّها لاتكون أحلاماً فقط!

كل طالب يزرعُ شجرة!

مع التراجع الكبير للغطاء النباتي والمساحات الخضراء في سورية ماذا لو فُرض كشرط لدخول أو اجتياز أي مرحلة تعليميّة (التعليم الأساسي، الثانوية، الجامعيّة، الدراسات العُليا) فلا يتخرج الطالب دون أن يزرع شجرة، فيرُدّ شيئاً من دين البيئة التي استهلك مواردها خلال دراسته، ولتكن هُناك طرق متنوعة لتأكيد هذا التراكم، بحيث تطلقُ الزراعة والتعليم العالي تطبيقاً يُحدّدُ مساحات فارغة في أطراف المدن لزراعتها، ويُمكن لأي طالب تنفيذ هذا الأمر بنفسه ومع عائلته أو من خلال شركات طُلابيّة تُنشأ لهذا الغرض بتكلفة رمزيّة كما هي أسعار الغراس والشتلات، فتزرعُ شجيرة باسم كل طالب ويمكنه معرفة رقمها ومكانها فيزوره في المستقبل مع أولاده، وهكذا مع كُلّ خرّيج لدينا شجرة، وتخيلوا ملايين الخريجين من المراحل الدراسيّة كلّ سنة لدينا.

رحلات توأمة مدرسيّة

جرت العادة أن تكون رحلات المدارس رحلات ترفيهيّة إلى الساحل أو تدمر أو الغوطة، أو إلى القلاع والبانوراما والحدائق، لكن ماذا لو فكرنا برحلات ثقافيّة بين السوريين أنفسهم؟ ماذا لو كان هُناك رحلات توأمة مطلوبة بين مدارس المحافظات السورية، فيزور الطلاب من بلدة في محافظة ما طلاب محافظة في ريف أخرى، وهدف الزيارة التعرّف على اللغة والعادات والأغاني وربّما الطعام والأفكار والمعتقدات، وتُردُّ الزيارة ويعود الطلاب للتواصل من خلال دروس مشتركة أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، فكيف نطلبُ من أجيالنا أن تحبّ بعضها وتكون أقلّ سخرية وتنمراً وهي لاتعرفُ بعضها أصلاً، ماذا لو كانت هذه الرحلات طريقهم الممكن للتعرّف على بعضهم البعض وتقديم أنفسهم، كما نفعلُ مع الأجانب حينما نُبدي أفضل ماعندنا من عروض وفقرات وضيافة، ألسنا أولى بذلك بين بعضنا؟

كل عائلة تُقدّم سلّة مهملات

تبدو مسألة النظافة العامة في شوارعنا ومساحاتنا العامة مقلقة، فلم يعد ينفعُ معها حملات التوعية التقليديّة والإعلانات التلفزيونية والطرقية، ولايُمكن للبلديات بالطبع تخصيص عامل نظافة لكل مواطن، ولايمكنُ أيضاً حملُ المواطنين والسكان على تنظيف الشوارع بشكل يومي أو مُحاسبتهم بشكل عرضي، فلماذا لاتكون كلّ عائلة مُلزمة بتقديم سلّة قمامة توضع في الشوارع والمساحات العامة، نعم هناك نقص كبير في هذه الحاويات لتكلفة تأمينها من جهة ولتخريبها وكسرها من جهة أخرى، وربّما عندما تدفعُ كُلّ عائلة تكلفة سلّة فإنّها تعوّد أطفالها على البذل والمشاركة، وتتوضح أكثر أهميّة الأسرة والفرد كفاعل مجتمعي مفيد ولازم وضروري لتكون الحياة أفضل في محيطنا، ولربّما تُؤخذ هذه المشاركة مع أي فاتورة خدمات عامة وحصراً عبر الدفع الالكتروني.

كُلّ مدرسة تصيرُ مكاناً مُنتجاً

رغم قُبح الأبنية المدرسيّة لدينا في تصميمها الموحد لكنّها أبنية وظيفيّة بالفعل تؤمن مساحات مناسبة للتعليم والتدريب والأنشطة والفعاليات لو أُحسن استثمارها، ولقد جرت العادة أن تعمل هذه الأبنية بأقل طاقتها فتفتح عدّة ساعات باليوم وتغلق، وقليل منها فقط من يُستثمر بعض قاعاته في فصل الصيف، لماذا لانعيد التفكير بهذه المساحات لتكون مُنتجة ورابحة فتُردّ عائداتها لصندوق المدرسة وليس إلى الخزينة العامة، فيُصرفُ منهُ على تحسين وضع المعلمين ومساعدة الطلاب المحتاجين وتحسين البيئة المدرسيّة، لماذا لا نفتحُ في مدارسنا في القبو قاعات سينما محليّة مأجورة برسوم مناسبة تأتيها العائلات في ظلّ انقطاع الكهرباء وتعزز مفهوم العائلة، ليست موسميّة بل في أيام دوريّة أسبوعيّة محددة، لماذا لا نستثمر باحة المدرسة فنؤجرها مساءاً لاقامة الأعراس وحفلات الخطوبة المحليّة والتعازي والاحتفالات الأهليّة، لماذا لا نؤجر قاعات مجهزة في المدارس لإقامة التدريبات والورشات للمعاهد والجمعيات خارج أوقات الدوام، هُناك الكثير من الأشياء المُمكنة التي تدعم العمليّة التعليميّة بموارد موجودة، مُهملة ومنسيّة، هي تحتاجُ لإدارة وفكر ومتابعة.

خُطبة الجمعة والخدمة المجتمعيّة

ماذا لو طلب خطيبُ جمعة من المُصلين التوجه بعد خطبة تحفيزيّة عن دعوة الإيمان للنظافة لتنظيف الحي أو النهر القريب أو المساحات العامة المجاورة، كم سيكون المشهدُ بديعاً لو توجه من يرغب من المؤمنين لتحقيق انجاز محلّي في وقت واحد، لتنظيف الحي، أو لصيانة الأرصفة المتكسرة وتبديل الإنارة المُهملة أو لتنظيف نهر تراكمت فيه الفضلات أو أراض زراعيّة ممليئة بالأعشاب الضارة أو غابات فيها مخلفات قابلة للاشتعال أو مدارس مخرّبة، ماذا لو توحدت خُطبة الجمعة مرّة كلّ شهر لتكون لهذه الغاية، أليست النظافة من الإيمان؟ وكذلك عظاتُ الكنائس بالطبع والمناشبات الدينيّة المتعددة والكثيرة لدينا، ماذا لو فعلنا ذلك، ألسنا بحاجة؟

أسواق الأهالي

مادُمنا فخورين بمطبخنا السوري فلماذا لا نتذوّقهُ كما يجب، فلنُنشئ سوقاً مؤقتة أسبوعيّة ولتكن يوم عطلة كالسبت تحجزُ فيها بعض العائلات أركاناً وطاولات لمشاركة طبخاتها المنزليّة التي هي تعبير ثقافي في النهاية عن انتماء هذه العائلة وأصولها وعاداتها، كل المحافظات السورية مختلطة بالتالي سيكون لكل سوق مساحة منظّمة متنوعة جداً وغنيّة جداً ويمكن زيارة السوق ودخوله بتكلفة مناسبة للوجبات، الهدفُ ليس ربحي تماماً ولو أنهُ مُربح بل هو تشغيلي، العائلاتُ تودُّ مشاركة أفضل ما عندها من وصفات وخصائص واختراعات واضافات، طلاب الجامعات والسياح والأهالي يريدون تجربة أصناف مختلفة بأسعار مناسبة بعيدة عن المطاعم وقوائم الطعام الجاهزة، وليكن المكان كراج سيارات فارغ أو ملعب رياضي أو باحة مدرسة، سيكون الجميع سعداء، ولتنظمهُ البلديات مع الجمعيات وليُعطي الزوار نُقاط تقييم لكل ما يتذوقونه ولتكن هُناك جوائز محليّة انها أهم من أي تصنيفات عبر الانترنت.

QR code عند كُل مَعلَم

في المُدن التاريخيّة تضعُ البلديات لوحات تعريفيّة أمام الشوارع والأبنية والمعالم الدينيّة والثقافيّة والتاريخيّة، وهذه اللوحات تكون غالبا حجريّة أو حتى معدنيّة وهي بحدّ ذاتها أعمالاً فنيّة بديعه تعيشُ لسنين طويلة وكثيراً ما تُختصرُ الزيارات عندها، لربّما نحنُ غير قادرين على تكاليف كهذه حالياً لكننا نعرفُ تاريخنا وتاريخ المكان لدينا أو على الأقل هكذا ندّعي، فلماذا لا نضعُ على الأقل رموز الاستجابة السريعة بجانب معالِمنا، فيعرفُ السوريون أولاً عنها ثم المهتمّون وليس أخيراً السياح والزوار، مع الوقت والهجرة بدأ الناس لايعرفون ماتمثل المعالم والشخصيات التي سُميت بأسمائها شوارع وساحات وحدائق سورية، وتبدو مقاطع الفيديو المُحدثة الreels تقدّم معلومات ليست دقيقة بالضرورة بل ومغلوطة أحياناً، فليكن هُناك بنك سوري لمعلومات المعالم والأعلام (الشخصيات)وليكن لدينا في كّلّ شارع وكلّ بناء تاريخي وغير تاريخي حتى QR cood يُمكن استخدام للوصول لمعلومات موثوقة تزيد من علاقتنا بالمكان، نحنُ أهل المكان لايجدرُ بنا أن لانعرف فلان من فلان.

في النهاية ما أودُّ قوله أنّ هذه الأحلام الصغيرة، مُمكنة!
ترونها كذلك؟

وسيم السخلة Waseem Al Sakhleh

07/11/2024

أشياء مأمولة من وزارة الإعلام المصونة! 

تصريح باقتناء تلفزيون في سورية يعود لسنة 1964

منذ سنوات تبدو وزارة الإعلام لدينا غائبة أغلب الوقت، قد يأتي وزراء إعلام ويرحلون دون أن يظهروا ولو لمرّة واحدة في الإعلام، تمضي سنوات أحياناً دون سماع أي تحرّك أو تأثير فعّال لهذه الوزارة، على الرغم من ضخامة جهاز الموظفين التابع لها، أيضاً تتبدّى تعقيدات علاقة الوزارة مع الهيئات التابعة لها أمام الجمهور في كثير من الأحيان. 

في ذات الوقت ترزح هذه الوزارة دوماً تحت وطأة الانتقادات وغياب الدور بالنسبة للمواطنين والمعنيين، الذين كثيراً ما يسألون سؤالاً بسيطاً، ماذا تفعل هذه الوزارة؟ وماذا نفعلُ لأجلها؟

بعض الأشياء التي أدونها هُنا هي بديهيّات، وبعضها متعلق بالحالة السورية، ليست كافية، ليست مُرتّبة، لكنها مترابطة، وصار العملُ على تطبيقها اليوم ضرورة لا خيار، هُناك دول متعددة تخلّت عن فكرة وزارة الإعلام واستبدلتها بهيئات أو مؤسسات رشيقة، وقد خطَت سورية هذه الخطوة قبل سنوات لكن سُرعان ما تراجعت عنها، عندما أسّست للمجلس الوطني للإعلام وألغتهُ لاحقاً.

مع تولّي وزير جديد للإعلام مشهود بمهنيّته ومُثابرته ينتظر العاملون في الصحافة والإعلام إدارة أذكى للواقع الإعلامي في سورية، وخلق فضاءات تفاعليّة تحوّل الوزارة من حال إلى حال، نرجو ألا يكون مُحال.

  • هويّة بصريّة للدولة السورية

رغمّ أنّ القانون 37 لسنة 1980 يُحدّد شعار الدولة وخصائصه إلا أنّ العُقاب يُستخدم بأشكال متعددة، الرئاسة تستخدم شعاراً خاصاً، قريبٌ منهُ المستخدم في مجلس الوزراء وبعيدةٌ عنهُ أحياناً تلك الشعارات التي تستخدمها الوزارات والهيئات الحكوميّة، بعضها لديه logo وبعضها ليس لديه، ويُمكننا إحصاء أكثر من 10 أشكال وألوان للشعار الرسمي تستخدم في كلّ مكان! 

المطلوب ليس فقط الشعار وتعميم مواصفاته، بل أيضاً الخطوط والألوان والقياسات لهذا الشعار والهويّة البصريّة الكاملة بدءاً من تصميم الجلاء المدرسي وليس انتهاءاً باللوحات الإعلانيّة لمباني المؤسسات العامّة والمدارس، علينا توحيد الهويّة البصريّة للوزارات مع تخصيص كلّ وزارة ببعض الألوان وغيرها، فهذه الحالة المنتشرة تقول أنّ كلّ مؤسسة مستقلة وليست ضمن حكومة واحدة. من الممكن اطلاق مسابقة وطنيّة، فالإعتماد على الكوادر الحكوميّة الحاليّة قد لايفي بالغرض، (راتب أي موظف حكومي لا يكفي لشراء نسخة أصليّة من برنامج تصميم) الدول في رسم هويّاتها البصريّة تستعين بمصممين وخبراء من مختلف البلدان، وهناك سوريون ساهموا في تصميم هويّات بصريّة لحكومات دول متعددة، فلنبحث عنهم! 

  • البوابات الحكومية الإلكترونيّة

اليوم تعتبر المواقع الالكترونيّة صورة الدولة، وبوابة الدخول إليها، يتعامل معها الملايين ويستخدمونها، ومع كُلّ هذا الوقت منذُ ظهورها فإننا لانملك مواقع رسميّة بواجهات مرتبّة، بل مواقع فوضويّة وعشوائيّة، معظمها لايتمّ تحديثه، أكثر الروابط فيها مُعطّلة وتأخذك لصفحات فارغة، مواقعنا مشغولة بطرق بدائيّة ليس فيها الأساسيات المطلوبة مثل هياكل الوزارات وقوانينها ومعلومات التواصل، ليس فيها أخبار محدّثة، ولا بيانات ولا مصادر معلومات، أكثرها تمّ تطويره لمرّة واحدة ورُبّما كان عقد تصميمها غير مصاحب لعقد صيانتها وتشغيلها.

حتى أنك تجد أرشيف الوزارات موزعاً في تطبيقات التواصل الإجتماعي التي تحذفهُ باستمرار وتقلّلُ وصوله وتخفّض دقّتهُ وكثيراً ما تتعرّض الحسابات الرسميّة إلى الاختراق وهُناك بعض الصفحات المزوّرة يتابعها الملايين وتنشرُ باسم الحكومة ماتراهُ مناسباً، في نفس الوقت الذي تعجزُ فيه الحكومة عن مواجهتها أو تفنيدها، فالناس يتبعون الأرقام الكبيرة والأخبار المثيرة وهذا ما يتقنهُ الآخرون. إنّ انشاء مواقع الكترونيّة مفيدة، تضمّ كلّ شيء ممكن عن هذه المؤسسة أو الوزارة بات أمراً أساسيّاً ومهمّاً وضروريّاً، بما في ذلك رئاسة الجمهوريّة، فالمواقع الاجتماعية تُغلق وتقيّد باستمرار الحسابات الحكوميّة، وفي لحظة ما قد تُقرّر ادارات هذه المواقع وهي احتكارات أميركيّة بمعظمها انهاء وجودنا الرسمي أو تقييدهُ تماماً، فماذا نحنُ فاعلون وقتها؟ إنّ بعض الوزارات لاتملكُ أرشيفاً لسنة للوراء، وكلّ أرشيفها في صفحات الفيسبوك التي يصعُبُ الرجوع إليها، بالمناسبة أين أرشيف وكالة سانا؟ 

  • إعادة الإعتبار للصحافة السوريّة

لسنوات طويلة ومريرة، كانت الصحف السورية جامدة متشابهة حدّ التطابق، مع زوايا وصفحات جريئة مُتبدلة بحسب الأحوال والأهوال، وفي مواسم الصحافة الالكترونيّة بُلينا بمئات المواقع الاخباريّة المتشابهة أيضاً، غاب الابتكار وانتشر التكرار، حتّى حلّت السنوات الماضية التي أوقفت فيها طباعة الصحف بحجة تقليل انتشار فيروس كورونا وهو مالم تفعلهُ أيّ دولة حتّى، وصارت بعض المؤسسات الإعلامية التي يعملُ فيها المئات تصل موادها للعشرات فقط.

تأخرت الصحافة السورية الحكومية والخاصّة في محركات البحث لتحلّ في ذيل قوائم المُتابعة، فحلّ محلّها المواقع المدعومة من سفارات دول غربيّة، والمواقع التي تتلقى تمويلات مجهولة المصدر مع بعض المواقع والاذاعات المحليّة التي تُحاول وتحاول بصعوبة. المطلوب هو اعداد استراتيجيّة جديدة للصحافة الرسميّة، وإعادة إصدار للصحف الورقيّة ولو بنسخ محدودة، والمطلوب تبديل العقول التي تدير العمل الإعلامي، لقد انتهى زمانُ التعتيم والتجاهل والقفز من فوق الأحداث، انهُ زمن التفاعل واحترام الجمهور وقول الأشياء على حقيقتها والرّدُ على ما يُطرح ويُقال ويُشاع وليس نسيانهُ وتجاوزه. إنّ كثيراً من الإعلاميين العاملين في المدن الإعلامية اليوم كانوا خريجي هذه المؤسسات، لكن ثمّة من قدّم لهم أجوراً كريمة وهامش حريّات معقولة، ونظماً اداريّة مرنة، فماذا نحنُ فاعلون؟ 

  • مكتبةٌ وطنيّة للبيانات والمعلومات

أيّ مُتابع للشأن السوري وأي صحافي يُعاني من توافر البيانات الحكومية وغير الحكوميّة، مالذي يجعلُ الحكومة تُقفلُ الباب على أرقامها أو تُصعّب الوصول إليها؟ في زمن تسعى فيه الحكومات لكشف كُلّ أرقامها بغية أن تكون حديث الإعلام وتستفيد من متابعته وأفكاره ونقده ومُطارحاته! حتى وزاراتنا قبل عقود كانت تُصدر كتباً سنويّة ونصف سنويّة دوريّة عن أعمالها وأرقامها ومشاريعها، اليوم على الصحافيين أن يدقوا الأبواب لعشرات المرّات لكي يحصّلوا رقماً أو احصائية من البديهي أن تُنشر وتُحدّث باستمرار في المواقع الإلكترونيّة، لقد خلقنا حُراس بوابات لهذه المعلومات والبيانات أسميناهم المكاتب الصحفيّة، فبدلاً من تزويد الصحافة بالمعلومات صاروا يزوّدونها بالأعذار.

نحتاجُ مكتبة وطنيّة الكترونيّة للبيانات والمعلومات، تصبُّ فيها المؤسسات والهيئات والوزارات مالديها، وقتها نستطيع أن نتطلّع لرسائل ماجستير واطروحات دكتوراه وأبحاث أكاديميّة مفيدة لفهم الحاضر ورسم المستقبل، وقتها يكون لكل مواطن حقّ الوصول للمعلومات فلا يكون عرضة للتلاعب والتضليل كلّ ساعة، على افتراض أنّ اعلامهُ المحلّي سوف يُتقنُ مشاركتهُ الحقيقة.

 

  • خطّة تواصل مع المواطنين

على الحكومات المتعاقبة أن تتوقف عن التعاطي مع السوريين كسكان، عليها التعاطي معهم كمواطنين يُحدّدُ الدستور حقوقهم وواجباتهم، بالتالي من واجب الحكومة تحقيق أقضل تواصل ممكن مع مواطنيها، فلتعامل الحكومة (وهذا أضعف الايمان) المواطنين كعملاء لخدماتها ولتُفكّر بخدمة العملاء كما تفكّر أي شركة، ماهو المشهد الذي سينتُج من هذا؟ 

المواطنون أذكى من الحكومات، في هذا الزمان صار صعباً اخفاء المعلومات والتحايل على المواطنين واعطائهم تصريحات غير مفيدة، هذا زمان الشراكة، والمواطنون شُركاء عندما تشرحُ لهم الموقف بحرفيّته وتشاركهم البيانات الدقيقة سيحملون معك، ويبدون أفكارهم وجهودهم للمساهمة في دعمك وتقويتك، والعكس صحيح، كلّما ابتعدّت عنهم زاد لومهم وخسرت ودّهم وضعف انتمائهم. اذاً خطّة تواصل وطنيّة تجمع خطط تواصل فرعيّة، تتضمن توعيّة رقميّة ومشاركة مواطنيّة وترويجاً للنجاحات وفهماً أفضل للاخفاقات ومساحة مفتوحة للحوار والنقاش والاقتراحات، خطة احترافيّة يصنعها الخبراء بمشاركة المواطنين أنفسهم.

  • بُنية تشريعة للإعلام والنشر

تتعدّدُ القوانين الناظمة، كان من المفروض أن تُسهّل الأعمال والممارسة لكنها تحولت لضوابط تمنعُ الابداع وتقيّد الحريات الدستوريّة وتطردُ الأفكار والخبرات، حتى القوانين الجديدة سرعان ما يتمّ تجميد موادها، بالنسيان أو التناسي أو التلاعب بالتعليمات التنفيذيّة، كيف نؤسس صحيفة؟ كيف نرخص موقعاً اعلامياً؟ كيف نفتح دار نشر وكيف نبدأ مركز دراسات؟ عندما تتضح الأجوبة عن هذه الأسئلة البسيطة ويتمّ حصرها وتنظيمها بعيداً عن التدخلات الشخصيّة وغيرها نكون أمام بيئة تشريعيّة تحترم الإعلام والنشر وتنظّمه.

علينا حصر قوانين الاعلام والنشر والصحافة في تشريع موحد عصريّ، لايُصنعُ في مكاتب مغلقة بل في مساحات حوار وتفاعل حقيقيّة لا تحتاج سنوات ولاحتى شهوراً طويلة، مجرّد أسابيع من الجديّة والشراكة والتفهم والفهم المتبادل والايمان الحقيقي بفكرة الحوار وليس التلاعب فيها، ولنستفد من تجارب الدول الأخرى، يكفينا اختلاق خصوصيات وأعذار، علينا المُسارعة للحاق بالمستقبل بدلاً من انتظاره.

  • ميثاق وطني للمؤثرين

أعجبنا أم لم يُعجبنا صار الرأي العام يُحرّك من المواقع الاجتماعيّة، وصار يلعبُ هذا الدور نجوم وفنانين ومُراهقين وأفراد من سويّات اجتماعيّة وأخلاقيّة مُتباينة، وصارت السطحيّة والتفاهة طريق الوصول الكبير للملايين، وصار التفكير والتحليل العميق متروكاً وهامشيّاً يحصلُ على اعجابات معدودة وتعليقات نادرة. 

المطلوب من الوزارة التفكير بشكل مختلف، فمالذي يمنعها من إطلاق ميثاق أخلاقي للمؤثرين من داخل سورية على اختلاف محتواهم، يتعهدون فيه بعدم الترويج للأشياء المنافية للأخلاق والمخالفة للقانون والمضيّعة للمراهقين، يتعهدون فيه بعدم المساس بالخطوط الحمراء (ويمكن تعدادها لاتمويهها) التي تهدد النسيج المجتمعي والأخلاقي، وليكن ميثاقاً اختياريّاً طوعياً وليس فرضاً اجبارياً، وليستمدّ قوّتهُ من بنوده وموقعيه. وليُدرك المتابعون أنّ كُلّ من لم يوقع على هذا الميثاق هو خطر محتمل على أبنائهم فتخلقُ ردّةٌ مواطنيّة تجاه المسيئين فيحظرون محتواهم ويلغون مُتابعتهم ويركزون على صنّاع المحتوى النافع لهم.

  • حمايةُ الصحفيين والصحفيات

علينا البدء من اتحاد الصحفيين وتطوير عمله ليكون حامياً ومدافعاً وداعماً عن كلّ صحافي في سورية مهما كانت وسيلتهُ التي يُمارس فيها الصحافة والإعلام، ولتكن الوزارة قائدة هذا التطوير، ورائدته ولتكن الوزارة المُدافع الأول ونحنُ هُنا لانخترعُ أدواراً جديدة بل نكرّس واجبات الوزارة ومواد الدستور. 

علينا التطلع للصحافيين كلّهم، وليس صحافيي الإعلام الرسمي فقط الذين تضيق هوامشهم كُلّ يوم أكثر، علينا أن لانسمع مُجدداً عن اعتقال صحافيّ على اثر مادة كتبها إلا بعد تحرّ حقيقي، ولا اثر رأي شاركهُ في المواقع الاجتماعيّة أو في وسيلته الإعلاميّة، فالدستور كفل ذلك لكلّ مواطن أصلاً، هل تستطيعُ الوزارة حماية الصحافيين واطلاق رقم ساخن لشكاويهم واصدار تعميم مشترك من الجهات المسؤولة للحصانة وعدم التعرّض أو الاعتقال إلا بعد التنسيق مع الوزارة والتحرّي بشكل جيّد قبل اتخاذ أيّ اجراء من هذا النوع الذي يُخالف الدستور ويتمُّ فيه الافراط في الامتثال لتطبيق المواد القانونيّة. 

  • السوق الإعلاميّة المحليّة

مالذي يمنع سورية من التحول إلى فضاء جاذب للإعلام والإعلاميين، مثلاً من خلال مدينة اعلاميّة حرّة يكون لها قوانين وشروط خاصة، ماذا لو بدّلت سورية والسوريين العمل عن بعد كجزر انتاج وتصميم وكتابة ومكاتب خلفيّة للقنوات العربيّة والأجنبيّة (كما يعمل الالاف داخل سورية حالياً) إلى شركات إعلاميّة بمكاتب معروفة وواجهات صريحة وضرائب محددة وتبادل خدمات بالعملات الأجنبيّة مع الخارج بشكل مشروع؟ 

لماذا لانفهم الإعلام كسوق رابحة ونُصرّ دوماً على تحميل عبئه وخسائره للموازنات العامة المُتعبة أصلاً، لماذا نحتاجُ كُلّ هذه الطوابق الفارغة للمؤسسات الإعلاميّة بدلاً من استثمارها؟ ولماذا هذه الأعداد الألفيّة من الموظفين الذين لاعمل لهم ولا اختصاص، بل ويُركّبون عبئاً يوميّاً في نقلهم ورواتبهم مهما كانت زهيدة ومكاتبهم التي يشغلونها بلا عمل؟ لماذا لانُفكّر بتشغيل هؤلاء برواتب كريمة وبانتاجيّة مدروسة ومؤشرات قياس واضحة. 

  • فضاء اعلامي مفتوح 

يعني ذلك أن لا وسائل إعلام ممنوعة من العمل في سورية إلا وفقاً للقانون، يعني ذلك وصول الصحف والمجلات العالمية، الحجب صار شيئاً من الماضي، كل شيء موجود اليوم على الانترنت فلماذا لانجدهُ في أكشاك بيع الصحف التي أقفل معظمها؟ لماذا نودُّ دوماً المشاركة في الملتقيات والمؤتمرات والمنتديات الإعلاميّة في الخارج لنُناقش قضايا البيئة والمرأة والمساواة والذكاء الصناعي وغيرها ونحنُ لاندير ولا نفتح ولا نوافق ولاندعم نقاشات وحوارات محليّة حول أولوياتنا في كلّ مكان من سورية، متى نُغيّر طريقتنا من التأثّر للتأثير، علينا أن لانخاف من فتح الحريات الإعلاميّة بل احتضانها وحمايتها، لنُسهم في تهيئة مواطنين أكثر وعياً وتفكيراً نقدياً وشراكة حقيقيّة مع المؤسسات العامة والخاصة والمدنيّة على حدّ سواء.

ربّما أغفَلت النُقاط العشرة السابقة عشرات القضايا ومئات الأمثلة وآلاف الأمنيات، لكنّها مجرّد مساهمة في التفكير وتأمّلات مرجوّة تُساعدنا في فهم الواقع المُعقّد وتفكيكه، وذلك بهدف تطويره وتحويله باتجاه مستقبل يكون فيه لكلّ مواطن دور ليس في أخذ حقوقه كاملة فقط بل وفي أداء واجباته وحبّة مسك.

وسيم السخلة 

06/10/2024

أولوياتُنا أيّتُها الحكومة الجديدة.. نحنُ الشباب

Expo Dubai 2020 الجناح السوري

لأنّني أعلم أنّ كثيراً من الأشياء التي سأذكُرها هُنا يتمُّ مواربتها بشكل مستمر وتجاوزها، ولأنّني أعلمُ أن بعض الوزراء غير قادرين على الإعتراف ببعض الهزائم في مستويات مُتعددة أدوّن بعض عذه النُقاط علّها تُلحظ في البيان الحكومي الذي لم يُراجعهُ أحد مرّة واحدة، على الأقل منذ خلقت قبل 30 عاماً. 

استعادةُ الهويّة

هذا ليس عنواناً للفت النظر، الهويّة السورية تمزّقت وتلاشت في بعض السياقات، من مسؤوليات الحكومة الجديدة استعادتها، ليس بشكلها القديم، فهي تغيّرت، بل بشكلها المُرتجى، الاستعادة هذه ليست عمليّة بسيطة صوريّة من خلال اجتماعات لخبراء أو أكاديميين، إنها اعترافٌ بالحال وابتعادٌ عن المُحال، لنصنع الهويّة من جديد، بعيداً عن القوالب الجاهزة والإدعاءات المُرضية، لنستمع للأصوات الأخرى لأنّ هذه الهويّة يحملها الملايين وعليهم أن يعيشوها من وسط العاصمة وحتّى أبعد مخيّم ومهجر يعيش فيه سوري.

نطلبُ الاحترام

هل يبدو هذا بسيطاً؟ إنّهُ معقد جداً، يعاني الشباب في سورية من قلّة الاحترام، فالتلاعُبُ بأحلامهم قلبها أوهام، يكفينا استغلالاً لهذا المفهوم، الشباب مازالوا بعيدين عن مطارح صُنع القرار، ومازالت القوانين تُفرّغُ من مضامينها، ومازالت الكلمةُ شطّاطة ومطّاطة، نضيّقُ عُمر الشباب لأجل أحدهم ونوسعهُ لأجل الآخر، الشباب لايريدون معاملة تفضيليّة بل معاملة مواطنيّة، ولايريدون زجّهم بكلّ تصريح ودعاية حكوميّة، بل يحتاجون لخطوات عمليّة، نحنُ أجيال البرامج الزمنيّة والغايات المُحققة والأهداف الذكيّة لا أجيال الشعارات الكبيرة المستهلكة.

التفكير بالتنظيمات

في سورية تنظيمات عدّة ترعى (من المفروض ذلك) مصالح الشباب، لكنّها أشبهُ بمؤسسات رسميّة عجوزة أحياناً لاتعني للشباب شيئاً، وفي سورية مئات التنظيمات من مؤسسات غير حكوميّة يقودها الشباب ويعملون فيها في ظروف أقلّ ما يُقال عنها أنها معقّدة، تخيّل جهد اليافعين والشباب في أخذ موافقة لتنفيذ نشاط ما ولو كان حملة نظافة قرب منازلهم، نريدُ مستوى آخر من التعاطي، نريدُ قيادات وموظفين يستطيعون فهم ما يتحدثُ به الشباب اليوم، واغناءه وليس تعطيله، وتوسيعه وليس تقزيمه، فلنُعد صياغة المستقبل ولنبدأ من هُنا، فلا نترك أحداً خلفنا.

الخدمةُ الوطنيّة

هذا الأمر الذي يُشكل مقدّساً لايجوز الاقتراب منه للكثيرين هو عُقدةُ العُقد هذه الأيام، الدستور يفرضُ علينا خدمة العلم نعم، هذا أمر هام لكن كيف نستثمره؟ يُمكننا الاستثمار بطاقات الشباب فليعمل أصحابُ المهن في الخدمة العامّة، والأكاديميون في الجامعات والمقاتلين في العمليات العسكريّة والتقنيين في الإدارات التقنيّة ولتكن المؤسسة العسكريّة أكثر رشاقة وانتاجيّة، ولنبتعد عن جعل خدمة العلم كابوس طويل مظلم، ولتكن مرحلة لتختبر فيه المؤسسات الحكوميّة مهارات الشباب فتوظفهم أو تتعاقد معهم بعدها، علينا التفكير من جديد هل الخدمة فقط بدلة عسكريّة وحقل رمي وحياة قاسية وغربة واجازات متباعدة؟ لماذا لاتكون مختلفة؟

القادةُ المحليّون

لسنوات طويلة كان الأمرُ عشوائياً صرفاً، اليوم صارت الحياة أسرع وأدقّ، والدول باتت تُركز على برامج مُكثفة وأخرى مديدة لإعداد القادة، فلا تنتظرُ فلاناً لخمسة عقود حتّى يشغل مسؤوليّة حكوميّة، انها ببساطة تصنعُه، أما نحنُ فنقسو كثيراً، يهجُرنا الشباب ليقودوا مشاريعاً في دول أخرى، فيبقى معنا أصحابُ الفُرص الأقل والتعليم المُغلق والأفكار المكرورة. لقد تخلّت الدولة عن منظماتها التقليديّة وباتت هذه المنظمات هائمة بين ماض كبير وحاضر مشوّه ومستقبل مجهول، علينا تأسيس مراكز وأكاديميات لإعداد القادة ولتكن قيادتها وادارتها مختلفة وذكيّة تفكّر بالمستقبل لا تخافُه.

تأميمُ المخاوف

لسنوات طويلة اُمّمت الأحلام والأعمال والأموال في سورية، حان الوقت لتأميم المخاوف والتحديات، لماذا لايُفكّر كلّ مسؤول بمخاوف الشباب كما يُفكر بمخاوف أبناءه وبناته، ولماذا يُتركُ الشباب لقلقهم وحيدين، لماذا لاتحملُ الحكومة همّاً واحداً، تؤمن السكن بشروط انسانيّة مُمكنة مثلاً، هل هذه وظيفةُ الحكومة؟ نعم، فالمطلوب ليس سكناً مجانياً ولكن ممكناً، والمطلوب ليس سيارات يتمّ توزيعها بل نقلاً عاماً محترماً، والمطلوب ليش استيعاباً جامعياً (راقبوا بشاعة الكلمة استيعاب) بل استثماراً جامعياً، والمطلوب ليس وظائف جاهزة بل وظائف كريمة، والمطلوب كثير!

خطٌّ اقتصادي

ألم يشتهر خلال السنوات الماضية مصطلح خطّ عسكري؟ تعالوا نُنشئ خطّاً / مساراً اقتصادياً للشباب، فلايمُرّون فيه على تعقيدات الماليّة والضرائب، ولايُراجعون عشرات المؤسسات، ولا تلزمهم مُراجعات أمنيّة ليؤسسوا مشروعاً صغيراً ومتوسطاً، تعالوا نُنشئ نافذةً اقتصاديّة يُطلّ منها الشباب على الفرص فلا يذهبون ببعض أموالهم وارثِ عائلاتهم لتأسيس شركات (خلال دقائق) في دول أخرى بل يُمارسون هذا في بلدهم، ولايخافون بيع الخدمات للخارج بالعملات الأجنبيّة بل يسعون لذلك بشفافيّة، ولايقلقون من الربح والمُحاصصة بل يسعون للمنافسة، هل يُمكننا؟

لنُرحّب بالعائدين

نعم هرب الشباب خلال السنوات الماضية لأسباب كثيرة، لكنّ أهمّها أنّ الحكومة فشلت بإدارة كلّ ما سبق من الأولويات، اليوم قد يرجعُ الكثيرون لظروف مختلفة، فلنحسن استقبالهم، من ابتسامة موظف الهجرة على الحدود وحتى انجاز معاملة التجنيد، علينا خلقُ فرص استثماريّة ليس للمستثمرين بل لجذب الشباب الأذكياء والحرفيين، مُدن ذكيّة تقنيّة، عروض خاصّة على الاستثمار الزراعي، معادلات جامعيّة للشهادات أبسط، فضاءات لمشاركة الخبرات أوسع. لنُنشئ في جامعاتنا مراكز التعليم المستمر لمن فاتهم التعليم ولنُخصص تذاكر طيران ونقل بأسعار مخفّضة ومراكز رياضة وترفيه أيضاً.

صندوق وشرعة وطنيّة

نطلبُ إعادة صياغة وقوننة مفهوم الشباب في سورية، وليكُن ذلك عبر شرعة وطنيّة وحزمة قوانين تصيغُ الحاضر والمستقبل، ولنؤسس صندوقاً وطنياً لتمويل المشاريع المخصصة للشباب، والمشاريع التي يقودها الشباب وليكن صندوقاً مفتوحاً للمساهمة من المغتربين، عائداتهُ الأساسيّة من مشاريع رياديّة، ولتكن 

 سياحيّة وثقافيّة وبيئيّة وزراعيّة وتقنيّة، ولتكن الشرعة وطنيّة بالخالص لامستوردة يُشارك بها السوريون من كلّ مكان فلا يضعُها من جرّبناهم ومن يئسنا منهم، ولنتعلّم من تجارب الآخرين بشجاعة بدلاً من الحديث دوماً عن خصوصية مجتمعنا فبعضُها أوهام.

العملُ لأجلنا 

فلينطلق كُلّ دبلوماسيّ سوري لاستحضار الفرص للشباب السوري، فلتعمل كلّ مؤسسة على مراسلة المنظمات والجامعات والمنتديات، فلنفتح برامج ثقافيّة وتبادل طلابي، ليذهب الشباب السوري في برامج مشتركة وليتعلّم من الشعوب الأخرى وليستحضر نماذج عملها، والا ماذا تعني عبارات الدول الصديقة؟ هل هي صديقة سيئة؟ أم أننا لم نُحسن رسم العلاقة معها؟ لقد صار بيننا وبين العالم فجوة ولو تُركت فهي تزيدُ كلّ يوم وتتعقّد، من المهم ألا نبقى منفصلين ومُنفصمين عن العالم، فلتبدأ كلّ سفارة وقنصليّة وملحقيّة ببحث الفرص حيثُ هي، ولنضع هدفاً وطنياً للتعرّف على الآخر ومبادلتهُ الفائدة.

هذه الأولويات التي شاركتها مطلوبة من الحكومة نعم ولكن بمشاركتنا ودعمنا، وهي أولويات شبابيّة لم أُضف لها أولويات العائلات والفئات الأخرى، أما نحنُ فلو شرعت الحكومة في هذه الأولويات فنعرفُ ما هو مطلوب منّنا، ونحنُ قادرون بالفعل، لكنّ أحدا لم يلتفت إلينا بشكل حقيقي وليس صوري، أيتها الحكومة منكِ الاهتمام والرعاية ومنّا العمل والاجتهاد الكثير. 

وسيم السخلة 

25/09/2024

اليوم التالي بعد تشكيل الحكومة

مجسّم مبنى رئاسة الوزراء وكان مُصمماً ليكون وزارة للخارجيّة فقط عند تصميمه وتنفيذه.

بينما أكتب هُنا وأنتم تقرأون يكون الوزراء الجُدد يفتحون التهاني التي وصلت إليهم سواء عبر الاتصالات الشخصيّة أو الرسائل في المواقع الإجتماعيّة وقد يتفاعلون مع بعضها القليل بحسب المُرسل، ولاشكّ أن هذه التهاني تتلقاها عائلاتهم القريبة والبعيدة ومحيطهم المقرّب.

لا تخلو هذه التهاني من كلمات جاهزة وتمنّيات صادقة، وأخرى كاذبة، كما أنها لاتخلو من الغمز واللمز عن مجموعة المُنضمين إلى نادي الوزراء السابقين، الذين سيعودون لشغل مسؤليات غير مرئيّة في غالب الأحيان، وربّما تفرّغ بعضهم لإدارة أعماله، وآخرون للتدوين في المواقع الاجتماعيّة للانتقاد والاقتراح، بعضهم فقط سيبقى على أمل أن تستعيدهُ الدولة في وقت ما لاحق، لشغل وزارة جديدة تختلف عن وزارته السابقة، أو لمهمّات استشاريّة، ورُبّما يُنسى إلى الأبد، فقد حصل هذا كثيراً.

في العودة للوزراء الجُدد فهُم ينتظرون اتصالاً لترتيب أداء القسم الدستوري، بالتالي فهم منذ الأمس يفكرون باختيار الطقم المناسب، ورُبّما استدعى أحدهم خياطهُ الشخصي مساء الأمس لأخذ القياسات الجديدة بعد أسابيع من الترقُب والانتظار.

غالباً ستكون ألوان الطقم الرسمي للثلاثين وزيراً متراوحة ببن الأسود والكحلي والرمادي، حالها حال البلاد، أما ربطات العُنق فلرُبّما تتحرّرُ قليلاً وتجنحُ نحو اللون الزيتي والخمري.

أيضاً الحلاق صار مستعداً، عليه الانتباه فقد يطلبهُ الوزير الجديد في أيّ لحظة ليكون لحظة القسم مستعداً جداً، فقد لاتتكرّرُ الفرصة للقاء الرئيس لبعضهم.

من الوزراء من حفظ القسم عن ظهر قلب، ومنهم من يُحاول، أما القصر الجمهوري فيُريحُ الجميع ويضعُ القسم مكتوباً بخطّ واضح أمام الوزراء الجدُد.

سيحضُر الوزراء اجتماعاً توجيهيّاً مع الرئيس، ويُحاولون تدوين المُلاحظات، سيُكثرون من الابتسامات بين بعضهم وأمام الكاميرات، ويكثرون من تقديم الشكر لمن كان سبباً في هذا، طلب التوفيق من الله.

يتوجّهُ الوزراء إلى مكاتبهم، يستقبلهم موظفوا الوزراة كما في مسلسل مرايا، بينما يُفرغُ السابقون حاجاتهم، يحملون الصور الشخصيّة من المكاتب، يجمعون ما تبقى من أغراضهم، ويأخذون كلّ ما جاء إليهم مثل علب الضيافة والشوكولا والحلويات والأقلام وغيرها، سيتركون فقط الكُتب التي تزيّنُ المكاتب، ولو كان عليها اهداء باسمهم.

سيلتقي الوزيرانُ في المكتب ذاته، ويجلسون متقابلين، ستكون الفرصة السانحة لمدير المكتب السابق أن يقدّم القهوة بنفسه، سيتحدّثُ الوزيران بصوت هادئ ويفتحون مجاملات تقليديّة بينما يتجمّعُ الموظفون في ممرات الوزارة، سيخرجان مبتسمين ويأخذون صوراً تذكاريّة يبتسمُ بعضهم فرحاً ويبتسمُ بعضهم حزناً.

يبقى الوزيرُ الجديد وحيداً لدقائق، ينتقدُ ذوق سابقه في اختيار مفروشات المكتب، سيتعرّفُ لغرفة الاستراحة خلف مكتبه وويفتحُ دروج وخزانات المكتب جميعها، سيتعرّفُ إلى أجهزة الهاتف، سيعدُّ أربعة منها على الأقل ويُراقبُ أسلاكها، سيضبطُ كرسيّهُ الدوار ويجرّبُ الجلوس في المقابل.

سيطلبُ مدير المكتب السابق، الذي ينتظرُ بشدّة، حليق الذقن وطيّب الرائحة، سيبدو نشيطاً أكثر من أي مرّة، سيُجهزُ للوزير قائمة بالموظفين ومكاتبهم وأعمالهم، سيُجهّزُ أوراقاً كثيرة للإطلاع، ويأخذُ التوجيهات بالنسبة للتهاني وتحويل الاتصالات واستلام الهدايا.

أما الموظفون فيعودون إلى مكاتبهم، يأخذون اجازة من العمل ولو أنهم على رأس مكاتبهم، يقولون للمراجعين نحتاج بعض الأيام، يُحاولون جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات حول الوزراء الجُدد، أين كانوا يسكنون، أين درسوا، ماهي أوضاعهم المادية، ماذا يقول موظفيهم، من هم أصدقائهم، من أتى بهم، كيف سيتصرفون؟ يفتحون حساباتهم في المواقع الاجتماعيّة، بعضهم يشكر الوزير السابق، بعضهم يضع أغنية لإغاظته، بعضهم يستفتحُ خيراً بالوزير الجديد، وبعضهم يفعل كُلّ هذا.

سيُرتبُ الموظفون مكاتبهم، فهم يتوقعون زيارة من الوزير الجديد، سيُخفون كاسات الشاي والقهوة وعدّة المتّة، يضعون السخانات الصغيرة في درج المكتب الأخير، سيرتبون الأوراق لتبدو مُنجزة، ويطلبون من عامل التنظيفات تهوية المكان ورشه بملطف الجو، سيجهزون مقترحات لتطوير العمل، ربّما يطلبها الوزير الجديد مكتوبة وقد لايقرأها أبداً.

تمتلئُ ذاكرة التطبيقات الاجتماعية للوزراء الجُدد بالتهاني وتتراكم، كما تتراكم العُلب الخشبيّة الأنيقة للحلويات الدمشقيّة والحلبيّة، ستتحركُ الدورة الاقتصاديّة لبائعي الورود والأزهار أكثر من أيام عيد الحُب وعيد الأم مجتمعين.

أما متاجرُ الشوكولا، فستُبدع في تقديم الأفكار لتغليف الشوكولا مارأيك بالنسر (هو عقاب بالحقيقة)؟ ما رأيك بالعلم السوري؟ ماذا لو كتبنا مُبارك على كلّ حبّة..، المشترون سيرسلون سائقيهم ويصطفون في طوابير لاستلام العُلب فالتوصية تمّت عبر الهاتف، وسيطلُب الزبائن ألا تُشبه علبهم علب الآخرين، وقد يقوم صاحب متجر الشوكولا بالاشراف بنفسه على توزيع العُلب وتسريب الأنواع التي أخذها من عنده أحدُهم، إلى أحدِهم.

سيمُرُّ اليوم سريعاً، سيجدُ الوزراء آلافاً من الأوراق المتراكمة، سيُراجعون سجل الصادر والوارد عدّة أشهر للخلف، وقد يحملونه للمنزل، يعودون للمنزل وسيكون الغداء جاهزاً من مطعم ما، فالعائلة قضت يومها تتلقى التهاني والمطاعم قدّمت عروضها السخيّة.

في مثل هذا الوقت سيكون عشرات الآلاف من المتعاملين مع هذه الوزارة أو المستفيدين من خدماتها في حالة انتظار وترقُّب وتمنّي.

وسيم السخلة
24/09/2024

اليوم الأول في الصف الأول

صورتي في البطاقة المدرسيّة 1999

منتصف أيلول، 1999 دمشق

استيقظتُ يومها مُتسائلاً، ماذا ينتظرني؟ كان الشتاءُ قد حلّ ووالدي يُشعل مدفأة المازوت في صالون منزلنا، ناداني جدّي إلى غُرفته، كانت قناةُ الجزيرة ساعتها تبثُّ إعادةً لإحدى برامجها وكان الصوت مرتفعٌ جداً كما العادة، فتح جدّي درجه الصغير، وكان فيه طاسة صغيرة فضيّة يضعُ فيها قطعاً نقديّة، ناولني قطعتين مُذهبتي الأطراف من فئة ال25 ل.س مُشجعاً ايّاي على أن أكون مجتهداً في المدرسة.

فرحت بال50 ليرة، فقد كانت تُساوي الكثير يومها، بجانب المدفأة ساعدتني ماما ببعض الكلمات التشجيعيّة، ياعيني والله وكبرت يا سمسم وصرت بالمدرسة، كذلك فعلت مروة شقيقتي التي تكبُرني بسنتين، كانت تُهيئُ نفسها للمدرسة بحماس.

الجميع من الأقارب الذين كانوا يتجمّعون في بيتنا كُلّ مساء كانوا يحكون عن المدرسة، حتّى أحسستُ أنّهم يتوعدوني بها. لشهور عدّة حاولت العائلة تسجيلي في إحداى مدارس “الأونروا” القريبة من منزلنا وكان ذلك يتطلّبُ توسطاً عند أحد النافذين، فقد أوقفت هذه المدارس قبول السوريين في مدارسها بعد تنامي الأعداد المُقبلة عليها نظراً لجودة تعليمها العالية. 

ومع هذه الخيبة تمّ تسجيلي في واحدة من المدارس الحكوميّة في مشروع دُمّر، مدرسة سعد بن عبادة. ريثما تتمكّن العائلة من توسّط شخصيّة “أنفذ” لقبولي في مدرسة “الأونروا”، وهذا ماحدث بعد سنتين.

لبستُ بنطالاً أسود دافئ اشتريناهُ من مؤسسة يا هلا للألبسة الموحدة في مشروع دُمّر ومازلتُ أتذكرُ كم كانت مُنتجاتهم مُميّزة حتى دهبتُ للجامعة، مع البنطال لبستُ صدريّة رصاصيّة لها جيبُ مربّع في طرفها، وزنارٌ قُماشي من نفس لونها، المشهدُ جديد، في الروضة كان لباسنا بيجاما صيفيّة وشتويّة، وهذه المرّة الأولى التي ألبسُ بها صدريّة وكانت أزرارها البُنيّة في احدى طرفيها، بعد أن زرّرتُ كًلّ الأزرار بقي واحد، فجاءت ماما وأعادت فكّهم وزرّهم.

وضعتُ الفولار البرتقالي حزمتهُ ماما بجوزة (عقدة) بُنيّة اللون محفورة، الفولار مُحاطٌ بإطار كحلي، وعليه شارةُ طلائع البعث التي تُمثل شخصيّتين لتلميذ وتلميذة ويشُعّ منهما نور والشعارُ يُشكل ملامح درع. 

أيضاً لبستُ السيدارة، كُحليّة اللون وتخترقُها خطوط برتقاليّة وفي مُقدمتها طبعةٌ صغيرة لشعار الطلائع. 

أخذتُ الحقيبة الجديدة، كان لونها كحليّ ومُحاطةٌ بحدود حمراء، ملأت والدتي مقلمة الجينز الكلاسيكيّة من ماركة شيكّو وكان لدينا اثنتين، كحليّة لي وصفراء لمروة. إلى جانب السندويشات الناشفة من جبنة الشرق كانت الحقيبة شبه فارغة مع دفتر وحيد يومها، وكأسٌ بلاستيكي يُمكن فتحهُ بحلقات وإعادهُ إغلاقه، ولهُ ميزة وحيدة أنه قابل للطي، ولهُ سيئةٌ أكيدة أن سيطوى بين يديك وأنت تشربُ منه، فتتخلصُ منه خلال أيام.

اصطحبني أبي بسيارة عمّي الكولت ميتسوبيشي القديمة، في الطريق إلى المدرسة مررنا بروضتي، روضة البراء النموذجيّة، وهي أجملُ ما شاهدت عيني وعاشت ذاكرتي! 

وصلنا للمدرسة كان لها باب كبيرٌ أسود، يُشبهُ بوابة سجن كبيرة، لم أكن أعرفُ سجناً من قبل، لكنّني لمحتُ هيئته في واحد من المسلسلات السوريّة رُبّما كان مسلسل عودة غوار.

تطابق المشهد تقريباً، خلف الباب الأسود بناء شاهق مُخيف بلون تُرابي صحراوي، بلاط الباحة كان باهتاً جداً وكان تراكباً لمجموعة مربعات متداخلة، ساريُة العلم ترتفعُ كثيراً، الطلاب يصدرون أصواتاً وضجيجاً دون أن يحركون شفاههم. 

بدأتُ أشعرُ بالقلق، ها أنا في عالم جديد كُليّاً بعد 3 سنوات من روضة البراء، حيثُ العُشب الأخضر، والبناء البديع، والزهور الكثيرة، وألعاب الرمل والمراجيح والمسبح والدراجات الكثيرة والأبواب الملونة وكلّ تفاصيل الأناقة والجمال. 

صاح المعلمُ ترادف، صاح الجميعُ “ثورة” ثمّ وضع أحدهم يده على كتفي فنظرتُ إليه مستهجناً، بلحظة أدركتُ أنّ الجميع يفعلُ هذا ففعلت.  

في هذه الوقفة ردّدتُ للمرة الأولى أمة عربية واحدة.. ذاتُ رسالة خالدة، لقد حدثتنا المعلمة كثيراً عن الأمة الواحدة لاحقاً لكن لم يُحدثنا أحد عن الرسالة الخالدة.

بعد عمليّة فرزٍ مُعقدة انتظمنا في الصفوف، وكان الصفُّ الأول الشعبة أ، المكانُ غريب عليّ، فالمقاعدُ حديديّة، خشبُها مليئٌ بالذكريات والكتابات، الشبابيكُ مسوّرة بإحكام، الجدرانُ بلونين أسوأ من بعضهما، رمادي ورمادي غامق حديدي، يالله أين أنا؟ 

كان آنسةُ الصف الأول “ماجدة حربة” مدرّسة قديرة مشهود لها بالحزم والجديّة وكانت شقيقة صديق والدي المقرّب جداً رحمهُ الله، رحبت بي بحرارة وجديّة، وأجلستني في المقعد الأول، وكان والدي ينظُرني عند باب الصف الموارب، بدأت المعلمة بضرب الطاولة أمامها للفت انتباه الطلاب ومنع الضوضاء، وهُنا انفجرتُ تماماً بالبُكاء. 

لم أكن أصرخ كُنت أبكي فقط، دخل والدي وجاءت الآنسة لقربي تسألني لماذا أبكي، عجزتُ عن اختراع جُملة أجيبُ بها وعيناها تنظرُ إليّ بتودُّد، بدّلت لي نُسخة الكُتب القذرة التي وضعت أمامي بأخرى أكثر جدّة بطلب من والدي، لكنّني استمريتُ في البكاء.

حزن والدي كثيراً لأنّهُ لم يعرف ماذا يفعل بالضبط، أما أنا فكنتُ أبكي هذا المشهد الباهث بعد روضة البراء التي تخرجتُ منها وصارت ماضياً لايُمكن استعادته. 

استمرت موجة البُكاء حصّة كاملة، ثم جفّت الدموع على الأغلب، بدأتُ بفتح الكُتب يالله كم كانت ناشفة وكريهة، كتبت الآنسة على اللوح المطلوب منّا احضاره، دفترٌ يُجلّدُ باللون الأحمر اسمه دفتر نهاري 100 طبق، ودفتر مجلّدٌ باللون الكحلي أو الأزرق اسمهُ دفتر ليلي 100 طبق أيضاً، قلم رصاص، ممحاة، مبراة، مسطرة.

كما حذرتنا من احضار الأقلام الزرقاء أو أقلام الحبر أو حتى أقلام الرصاص ذات الرؤوس القابلة للتغيير. قالت لنا بالحرف: بكير عليكن. 

نزلنا إلى الباحة كان والدي قد غادر بالفعل، رأيتُ التلاميذ يشترون من شُبّاك صغير، توجهت لأفعل مثلهم، فشلت وبقي القطع النقديّة في جيبي! 

كان الإزدحامُ شديداً وفجأة رنّ الجرسُ مُعلناً انتهاء الفرصة، صعدنا إلى الصف، أكملت المُعلمة تعريفنا بالمدرسة والحفاظ عليها والحفاظ على الكتُب، ضاع الوقت وهي تسألنا عن أسمائنا وسكننا وماذا يعملُ أهلنا، علّمتنا ضرورة الوقوف عند دخولها الصف أو دخول المديرة. 

انتبهتُ أخيراً إلى طفل مسكين إلى جانبي، كان أنفهُ يسيل قليلاً وبقي كذلك كُلّ السنة، لم يكن لهُ همٌّ أبداً، حسبتهُ قضى حياته السابقة في المقعد نفسه، كان لاينزلُ إلى الفرصة بل يكتفي بالتهام سندويشة يُمسكها بيديه الاثنتين، ومازلتُ أتساءل لماذا لا يفلتُ يدهُ الأخرى؟ 

اكتشفتُ لأول مرّة وجود لغة أخرى غير العربية، كان يحكي بها بعض التلاميذ بينهم، سألت والداي في المنزل عن معنى الكرديّة، ولا أتذكرُ جوابهم اليوم! 

صار لي أصدقاءاً كُرد، أحببتُ ذلك، عرفتُ في الأيام التالية أنّ عليّ مُصادقتهم، لأنهم يحمون بعضهم بعضاً، كانوا نصف المدرسة.

هكذا اذا مضى اليوم الأول، كانت احدى عيناي ترى الصف والمعلمة وعيني الأخرى ترى الماضي وتُقارن بين حديثين، وبين بنائين، وبين صفين، ولاحقاً حياتين.

وجدتُ والدي في الخارج مع عمّي أيضاً، أمسك والدي الحقيبة عنّي وصار يسألني فلا اُجيب، بماذا أجيب؟ 

كان يوماً طويلاً بدموع كثيرة

وسيم السخلة

ليس أدنى من اقالة الحكومة وحلّ البرلمان!

إنّ ما نحنُ ذاهبون إليه هي حالة الإضراب الصامت, ستُجرّب كل شريحة اتباع تكتيك معيّن يتماشى معها

سيمتنعُ بعض تجّار التجزئة عن قبول أصناف متعددة من البضاعة الجديدة لارتفاع أسعارها، سيُغلقُون بمواربة محالهم، ويُحاولون تخزين ما أمكن من مواد غذائيّة فيها لأيام أصعب قادمة.

موظفون سيتركون الوظيفة، سيتركونها بدون تبريرات صحيّة أو ظروف عائليّة، سيُغلقون هواتفهم في وجه إداراتهم العامّة والخاصة ويتركون لهم المرتّب الذي لم يعد يكفي لنصف طبخة ليوم واحد.

ستنتقل هذه الحالة بسرعة من الموظفين الصغار إلى الموظفين الكبار، ستقف عند حدّ معيّن لكنّهُ لايكفي للتشغيل، نعم هناك مصانع ودوائر ستفرُغ، مصانع وورشات بلا عُمال ورؤساء بلا مرؤوسين في دوائر اللاجدوى الحكوميّة.

أسواق الجملة ستُخفّضُ طلباتها اليوميّة من الكمّيات، مع الوقت سيذهبُ الناس باتجاه الأرياف للسكن وطلب المنتجات، سيكونون بالقرب من الفلاحين لشراء الخضروات والفاكهة، ستظهر أنماط جديدة من القوى والتحالفات المحليّة.

ستعودُ الحوالات لتتركز في السوق السوداء، تكثر المُشكلات المحليّة بأسباب مختلفة، ستتعطّل الجباية والحركة الماليّة، ستمتلئ المقاهي الشعبيّة القليلة جداً، يرتفع الدولار حتى يختفي من التداول، ستغلق محال الذهب وتبيع بالمواربة، ستبدأ بعض مظاهر التحرّش الطبقي تكسير مرايا سيارات، ثم واجهات مطاعم، وتتطوّر حتى تصل إلى كلّ ما لانتخيّله.

مهما كان هُناك من حلول ذكيّة فإنّها تحتاج لأسابيع، هذه الأسابيع غير مضمونة، مهما كانت الحلول يجب أن يُعطى الناس تنازلاً ما ليس أدنى من إقالة الحكومة وحلّ البرلمان.

إلى الآن الشارع منضبط، خلال أيام ستحكمهُ الشائعات تماماً..

وسيم السخلة 26-7-2023
— ‏‏دمشق‏‏

ملامِحُ رديئة، للمدينة القديمة

أرى الفتيات الجميلات يختبئن مع سندويشات الشاورما في زوايا الحارات، تلحقهنّ القِططُ فقط، يتغلّبن على طعمة الثوم بباكيتات علكة تشيكلتس المقلّدة، يُقال لها في الشام اختصاراً شكلس!

في الحارات القديمة حيث يأخذُ الناس أصدقائهم من غير السوريين يقولون لهم هذه أقدم مدينة في التاريخ، ثُمّ يرمون بوجهها فضلاتهم، صحون بلاستيكيّة مُسرطنة، معالق بلاستيك سوداء، ورق لف للسندويش لا يصلُحُ للفّ شيء، أكياسُ نايلون بعدد خيباتنا.

تختلط هذه النفايات، تُنتج رائحة نتنٍ تجعل من نزار قباني أسطورةً كاذبة، تُحطّم إدعاءات قارورة العطر وتدفّق بردى وطيور الحمام التي رآها درويش تطير في في ثُنائيّات، فلا رائحة ياسمين، ولامن يحزنون أصلاً.

ماذا حدث لتلك البيوت، فصار هذا مطعماً لمُحدثي النعمة، وهذا بار للمنبوذين، وهذه قهوة للنصابين، وتلك حانةٌ لأصحاب الموعد الأول، وهذه حديقة تمّ تسويرها، هل خافوا من هروب الأشجار مثلاً؟

كانت الشقراواتُ الأجنبيات يُطعمن القطط الخجولة التي لاتتسلّلُ للبيوت، القطط اليوم باتت هجينة، هل ترون كيف صارت القطط وقحة جداً، غالباً ولدت في منتصف حزيران، فليس من المعقول ألا تكون ابنة هذا الصيف المُقرف، قطط بلاتربية، مثل أكثرنا!

في بحثه عن قدّاحة، يُجرّب ثلاثينيٌّ سؤال 5 بسطات ليُقرر شرائها، البسطات لم تعد للعاديين، صارت لأمراء محليين، تُحادثُ أحدهم وكأنّهُ حرّر القدس، يحتلّ نصف الشارع أحياناً، بقي أن يلبسو أوسمةً ليشتريها الهواةُ من أحفادهم.

المتسولون بالورود كبروا، المتسول لم يعد يبيعُك الورد، صار يوزّع نظراتهُ بينك وبين الآخرين، هو يشعرُ أنّهُ منسيّ، كما شعرت أنت، يوم جلست على الفراغ لتصل إلى بيتك في سيرفيس مُتهالك يُجبرك على سماع سارة، الزكريّا!

المدينةُ القديمة، لنُسمّيها المتناقضة، هُنا كان الناسُ يخلقون دهليزاً بعد باب المنزل، ولايُدخلون غريبٌ جنّتهم، باتت هذه البيوت صالات للعرض، فنادق للسيّاح، ملاهي ليليّة، مشارب وحانات تختلط فيها أصوات الموسيقى والأذان والترانيم، الجيّد أن أصوات القذائف صمتت منذ قتلَ الأبطال زعران علوش وشتّتوا شمل عصاباته.

في القيمريّة تتعجّب من 20 متجر يبيعُ بيتزا كالكاوتشوك بالقطعة، و10 محلات تبيع البوظة الرديئة على الصاج، يصنعونها بأصوات مؤذية، تشقّ طبلات الأذن، يحتلّون بعرباتهم الطريق الضيّق أصلاً، يحتلّون طريقك ليبيعوك كما يحتلُّ انفصاليون حقول نفطك ليبيعوك نفطك ويُجوّعوك.

السُكان صامتون، معظمُ أولادهم هاجروا، بقي المسنّون، يغلقون بقلق أبوابهم الخشبيّة باكراً، الضجيج والإزعاج سامحوا به مُرغمين ولم يعد لديهم القدرة على خوض جدلٍ مع متموّل جديد، فلكلّ متموّل أزلام ومسؤولون ونواب مُنتخبون.

لا أدري من أين يُحضرون هذا الكمّ الهائل من الحبر، ليطبعوا كلّ هذه الصور الخشبيّة والتذكارات، الحكومة نفسها عجزت عن تأمين الحبر لصحف تُبرّرُ فشلها منذ نصف قرن، يطبعون صوراً كثيرة لفيروز، على التوازي اخترعوا أحجاماً جديدة لليمون المُثلّج، لم نعد نشتريه لطعمهِ بل نشتريه للذاكرة، نتقوّى به على تذكّر الأيام الجميلة والحبيبة الأولى.

ماذا كانت تعني باب توما مثلاً؟ تعني كروسان بالجبنة (لاعلاقة لها بالكروسان الفرنسي طبعاً) وتعني كروسان شوكولا نتقاسمها أو قطعة غوڤر نضيف لها كرة من البوظة اذا وفّرنا مصروفنا ليومين، اليوم راتب تقاعدي لوزير سابق قد يُساوي 10 قطع من الغوڤر و 5 كروسانات، ولاشيء آخر.

أعتقدُ أنّ الله حاسب المدينة بكمّ الكذب الذي كذبهُ باعة الأنتيكا على السياح، بكمّ الحلفان والقسم لسائقي التكاسي الذين لديهم عمليات لأطفالهم في المشافي ويجمعون تكلفتها، بكمّ الغمزات المُتبادلة بين حويّصة سوق الحميديّة وأصحاب المحلات
ليبيعوا عربيّاً سلعةً بأضعاف ثمنها، يالله كم كذب السوريون!! وكم كان حسابهم عسيراً في السنوات الحقيرة الماضية.

تُعجبنا التفتيلة في السيارة، نضعُ أغنية الموسم نفتح نصف الشبابيك، يخرجُ أحدهم نصف يديه مع سيجارة، الآخرُ يقود السيارة ببُطء، يفرحون عندما تقطع فتاة الطريق عليهم، يبتسمون لها، تحرّشٌ عابر مُطبّعٌ معه. عندما سافر الشباب رأيتهم يُمارسون نفس التفتيلة في الحمرا والروشة والمنارة ببيروت وقيل لي أنّهم يفعلون ذلك في برلين وأربيل ويكتفون بالهرولة في مولات دُبي للحاق بأبواب الخروج، بأيديهم الفارغة إلا من العجز.

هناك أمرٌ مثير في المدينة القديمة أيضاً، ثمّة من اشترى الشوارع والأرصفة وصار يؤجرُك أمتاراً لركن سيارتك، أنا مازلتُ أتعجّبُ من وقاحة الڤاليه باركينغ، كيف يؤجرونَنا أرصفتنا وشوارعنا ونشكُرُهم ونكرمهم زيادة على هذه الأتاوة؟ أي بلطجة أقنعتنا بهذه المُمارسة؟

الملامُح كُلّها تدلّ على أنّ هذه المدينة القديمة في طريقها لتتحوّل إلى مكان سوقيّ بكُلّ ما تعنيه هذه الكلمة من سوء، رُبّما البعض ينتظرون أن تظهر الرداءة أكثر ليشتروا مدينة قديمة أخرى، يبيعونها من جديد.

وسيم السخلة

صيف 2023

طعمُ أيّام الإمتحان هو نفسهُ منذ الصف الأول!

بطعم الميرميّة المغليّة.. مُرّ، كانت ماما تعدّ الميرميّة للمغص، لم يكن مغصاً، كان عادة النقّ قبل الإمتحان

يوم الإمتحان تسمع أسوأ صوت لمنبّه في العالم، مهما كانت الأغنية أو الموسيقى، رنّة منبّه الساعة صباح الامتحان واحدة، تُشبهُ الحلقة الأخيرة في مسلسل الانتظار، حقيرة

البرد الذي يأكل أطرافك (أنت الذي لاتعرفُ البرد) لاتعنيه درجات الحرارة، صوت فيروز الشتوي البعيد يبدو وكأنه حُزنٌ عليك، صوت فتح باب الصوبيا وأنت في أبعد غرفة عن الصالون يُشعرك أنها تحتاج 10 ساعات لتتوهّج، حتى القهوة المغليّة تشربها باردة، يطلُبك الحمّام 4 مرّات في ساعة!

تكون الشمس بيضاء صباح الامتحان، لا أشعة لها، فقط بياضٌ بارد متسلّل عبر الغيوم، تتمنّى لو أنّ يُعطوك 5 دقائق أخرى ولو كنت قد غفوت منذ دهر وعندما تستيقظ تكتشف أنه لم يكن هناك من غيوم بل كان مناماً

العصافير تُصدر أصواتاً غريبة، اصطكاكُ أسنانها مع بعضها وليس تغريداً، أشعرُ أن العصافير تنتظرُ قيامتي لتغفو من جديد

في صباح الامتحان تكتشفُ أنّ أقلامك الزرقاء جميعها سائلة لاتصلح لورقة الإمتحان، وأنّ ماحفظته لايُساوي سؤال شاهدّتهُ صدفةً فوق طاولتك

الناس في الطريق يتركُونك لمصيرك، لا أحد يُسلّم عليك، الحارة تبدو حيّاً آخر لاتعرفه، أطفال المدارس يتطلعون إليك كندّ، كيف يعرفون أنّ لديك امتحاناً مثلهم؟

في الحافلة لاأحد يتعاطى معك، وكأنهم يعرفون جميعاً أنك تخون الحياة اليوميّة وتقدم امتحاناً، تنظر للساعة كلّ دقيقة رغم أنّ الوقت مازال بعيداً، تتحرّك العقارب بسرعة الحلزون ولكنّ الساعة فجأة تصيرُ مكتملة

في باب الجامعة تنسى من أنت، أو تتذكّر أنك طالب وعليك البحث عن بطاقتك

في مدرّج الامتحان أنت متهم بلاسبب، يتطلّعُ إليك المراقبون وكأنك مجرمٌ محتمل.. في الحقيقة أنت لم تفعل شيء لكنهُ تقليدٌ يتوارثهُ المراقبون وربّما يتعلمونه بدقّة، بثّ الرّعُبْ!

*في الامتحان – لوحة لممدوح قشلان 1959

أنا وجدّي وصحف الصباح 🗞️

كان جدّي العزيز جداً يُرسلني كلّ صباح لأشتري له الصحف اليوميّة المحليّة، كانت القاعدة أن أشتري ٢/٣ من الصحف الحكوميّة لأنه يعرف سلفاً تكراراتها. كما أشتري له صحيفة الاقتصادية الأسبوعيّة ومجلة أبيض وأسود والكفاح والمحرر العربي وغيرها من الصحف التي كانت ترضى الدولة عن توزيعها محليّاً والتي انضمت لها الوطن السورية في 2006. كان ينظرُ بقرف إلى سالب وموجب الفضائحيّة.

أيضاً كان أحد السائقين على خط بيروت – دمشق يُهرّب لجدّي بعض أعداد الصحف الممنوع بيعها محليّاً منها النهار وأعداد من البيرق والحياة والشرق الأوسط والسفير أحياناً وصحف أخرى..

ومازلتُ أذكر يوم بدأت صحيفة الدومري كيف أرسلني جدّي لاشتري 4 أعداد اضافيّة ليوزعها على ضيوفه، فقد فاجأتهُ جرأتها وقال يومها: انشالله يكفو هيك. لاحقاً تمّ ايقاف أعداد من الجريدة وسحب ترخيصها كما أذكر..

حديث الجرائد هذا كان في آواخر التسعينات وبداية الألفيّة، ولم تكن سنوات مثاليّة بالطبع لكن كان فيها بعض الأمل بالمستقبل والمشاركة، ما كنتُ ألحظهُ أنني بعد أن آخذ حصّة جدّي من الصحف كان صاحب المحل يحزمُ الأعداد كمُرتجعات، فهو يعرف زبائن الجرائد وكانوا يتناقصون باستمرار، وهكذا صار يحزمُ كلّ يوم عدداً أكبر ليُرجعه إلى مؤسسة توزيع المطبوعات صباح اليوم التالي، كانت المؤسسة تتركُ الصحف الجديدة أمام المحل وتأخذ المرتجعة باكراً قبل أن يفتح، كانوا مُطمئنّين أنّهُ لا أحد يسرقُ الصحف، لا أحد يهتم إلا وقت التعزيل، كان الجيران والأقارب يسألوننا عن جرائد قديمة لمسح البللور ووضعها تحت الطعام.

مع صحف جدّي تعرّفت إلى الصحافة، كانت زاوية قوس قزح للراحل وليد معماري وزاوية عادل أبو شنب أول عهدي بالقراءة الصحفيّة، كما كنتُ أنظر باحترام لتحقيقات جريدة الثورة في السنوات الأولى للألفيّة حيث كانت تحمل جرأة تسبقُ بها باقي الصحف المحليّة وكان كل أسبوع على الأقل هناك تحقيق استقصائي ضخم يُحرّك مياهاً راكدة.

على عكس ما يراهُ الناس عن تلك الحقبة -العقد الأخير قبل الحرب- كنتُ أشاهد صعوداً وهبوطاً في الصحافة المحليّة وليس صعوداً فقط، كانت بهدوء تتخلّى الصحافة عن أدوارها لصالح أخبار المسؤولين والمواد غير المُجديّة، حتى مرّة مرحلة كان التحقيق الصحفي فيها غائباً..

كُل هذه الذكريات أثارتها فيي هذه الصورة التي وضعتها غلافاً ل مدونة الشأن العام – سورية، كيف كان السوريون مشغولون بالمجال العام وكيف هُمُ اليوم مشغولون بالمجال الخاص، أحبُّ أن أُسهم في إعادة الإعتبار للشأن العام في سورية.

وسيم السخلة / دمشق

« Older posts

© 2024 Waseem Al Sakhleh

Theme by Anders NorenUp ↑