هل خلقت وسائل التواصل فرص متساوية مريحة للتعبير؟
تبدو الاجابة البسيطة على هذا السؤال نعم، يمكن لأي شخص اليوم أينما كان أن يُنشأ حساباً وصفحات ومجموعات متعلّقة ويبث محتوى غير محدود. لكنّ إعادة التفكير في السؤال تضع مجموعة من الاعتبارات قد تجعل الإجابة مختلفة!
وهم الحضور المستمر
يفترض الكثيرون أنّ وسائل التواصل هي البديل الكامل للصحافة والاعلام والنشر، وهم يعتقدون بالفعل انهم مرئيّون للملايين، لكنّ الحقيقة أنّ هذا مجرّد وهم، فالمحتوى في هذه الوسائل يختفي تدريجيّاً نظراً للكمّ الهائل وقد تتراجع النتائج عن فكرتك لتسبقها ملايين النتائج عن كلمات متشابهة، وقد تختفي منصات بكاملها وتذهب فيها كل تجارب المشتركين بلا رجعة مثل موقع مكتوب، لابدّ أنّ الأوائل في الانترنت العربي كانوا يعرفونه جيداً.
المحتوى الاحترافي مدفوع!
في الماضي كان الناس يستكتبون الصحافيين والكتّاب حول تجارتهم ومصانعهم وحتّى أفكارهم ورغم غياب الكليّات والمعاهد الصحافيّة أو ندرتها فقد كان الإنتاج أكثر وضوحاً ومباشرة وبساطة، ولكم أن تراجعوا أرشيف أيّ صحيفة من مئات الصحف التي كانت تصدر في بلادنا في الخمسينات مثلاً لتتبيّنوا مواداً صحافيّة بسيطة تُشبه الناس أكثر ولا تكاليف فيها.
اليوم كُل شخص بات صحافيّ نفسه، فنجدُ أصحابنا وهم يحاولون شرح أفكارهم العلميّة مثلاً بصعوبة، أو نجدُ السياسيين يصرّحون تصريحات مضحكة وكذلك الأكاديميون يكتبون فيتفاعل معهم الآخرون بالضحك ونجد رجال الدين يحكون قصصاً ويردّون ويتناحرون دون وضوح في الأفكار وفي عالم من الفوضى، بعض هؤلاء فقط أدرك أنّ الكتابة والصحافة هي حرفة وبدأوا بالاعتماد على بعض من يُساندهم وهنا وقعنا في طامّة جديدة..
انتشرت وكالات التسويق الاحترافيّة لوسائل التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة، وهذه الوكالات (أو الأشخاص) مهمّتها زيادة الوصول والإعجاب والأرقام، فهي ليست وكالات إعلاميّة ومعظم من يعمل بها درس التسويق القادر على جذب المتابعين والتأثير فيهم ولكن ليس تحريكهم ايجابيّاً، على العكس هذه الطرق الاحترافيّة التي يعمل ضمنها المسوقون تشجّع على الكسل الفكري وتدفع الناس لأخذ مواقف وإعادة أخذها في وقت كانت هذه المواقف تحتاج وقتا مناسباً للتشكل في مدارس ومكتبات ومع آلاف الصفحات، فما أسهل اليوم أن تجد صديقك وقد أصبح يساريّاً فجأة أو جارك وقد اتخذ أقصى اليمين في قضيّة شائكة يعرف خبراً عنها أو قرأ عنها منشوراً مع صورة ضاحكة!
جمهورك يسأل عن لون عينيك!
لقد كان الصحافيون وهم من أكثر الفئات تأثيراً نادري الظهور، فلا تظهر صورهم إلا قليلاً وكان هناك مقالات تحرّك الآلاف دون أن يعرفوا عن كاتبها أكثر من اسمه، وربّما حاولت بعض الصحف وضع صور صغيرة لكتّاب الرأي إلى جانب عامودهم الصحفي لكنّ ذلك كان يحصل بعد عشرات السنين التي قضاها هؤلاء يكتبون آرائهم، لقد كانت الآراء مقبولة من المُخضرمين فقط وعلى الصحافيّين الجدد تجميع الأخبار والركض لحضور الأحداث على حسابهم الشخصي وكم كان الحصول على معلومة أو ملاحظة تفصيل ما أمر مُرهق ومُكلف!
اليوم لا يمكنك كثيراً ان تكون وهميّاً، إن حضورك مهم جداً وقد تحصل على آلاف المتابعين من وراء صورك الشخصيّة فقط أو لون عينيك، في المقابل يمكن أن تبقى تحاول أن تؤثر وتكتب لعشرات السنين دون أن يزيد عدد متابعيك عن العشرات فقط لأنّك غير مصنّف في سلّم المعايير الجماليّة التي هي معايير مفروضة بحكم العادة وهي متغيّرة من زمن لآخر، إنّ شكلك ولونك والماركات التي تلبسها أو تدعي لبسها قد يجعلك موثوقاً تماماً وقائد رأي لآلاف المتابعين في كلّ مكان.
لا أحد يُدقق وراءك
الجهل يُلغي الحريّة، لأنّ الحريّة تقوم على المعرفة، في وسائل التواصل الاجتماعي نتعرّض يوميّاً لمئات بل آلاف المعلومات والمواقف والأحكام والنظريات ونتائج الدراسات ولا يملك أحد الوقت والقدرة للتدقيق في كلّ ما يتعرّض له من معلومات، وربّما أعدنا مشاركة كثير من المعلومات المغلوطة دون قصد فباتت موثوقة للآخرين، وفي أكثر الأحيان يغلب تأثير الأخبار والمعلومات المضللة والمنقوصة لأنها تشعل الغرائز والاتجاهات (كونها مدروسة) ما يُشكّل لدينا مواقف تلقائيّة من بعض القضايا عن دون قصد، وما أكثر القضايا اليوميّة التي أصبحت عامّة، وبالتالي هنا فحرية وصول المعلومات هي حريّة وهميّة في كثير من الأحيان لأنها قابلة كثيراً للتلاعب.
تجميع المتشابهين
على الرغم من أنها فكرة طيّبة أن وسائل التواصل تساعد الناس على تجميع بعضهم في مجموعات أو ضمن صفحات معيّنة لكنّ هذا يزيد من تكتل المجموعات والأفراد حول أفكارها ويولّد تلقائيّاً جدران فاصلة بحسب الاتجاهات من قضيّة معيّنة، ويبدو هذا أمر طبيعي لكنّ الأمور لاتقف هنا، بل مع كلّ موقف تربح عدّة تصنيفات لن تستطيع أن تخرج منها مهما حاولت، فالناس يصنفون بعضهم في مجموعات غير قابلة للتفكيك، مثلاً اذا كنت تدعم البيئة والنباتات فلا بدّ أنّك تدعم قضايا المثلية الجنسية وهكذا، يرفض الناس التعامل مع الأفراد بأفكار محددة بل يطمئنون إلى تصنيفهم.
أنت مُهدّد دوماً
في لحظة ما قد تتحوّل لأضحوكة، قد ينشر لك أحدهم صورة قديمة في المدرسة، قد تجري مقابلة عرضيّة في الشارع وقد تشارك منشوراً خاصاً أو صورة شخصيّة تتحول فجأة لتكون مادّة للتنمّر والاستهزاء، وكثيراً ما تكون الأسباب معدومة وغالباً السبب الأساسي هو قلّة التربية لدى البعض التي تجعل من أيّ محاولة تنمّر محاولة ناجحة لتجميع الاعجابات والوصول أكثر، وهذه اللحظة التي قد تتحوّل فيها إلى حديث العامّة هي ذات اللحظة التي يجد كلّ شخص على الكوكب نفسه معنيّ بالتعليق عليها، واذا حاولت الهروب من هذه المواقع سيجدونك في الطرق وسيحاولون إعادة الكرّة لأنّك في لحظة ما كنت مادّة خصبة لقلّة أدب البعض وسذاجتهم.
عليك أن تدفع لتصل
في بداية انتشار وسائل التواصل الاجتماعي كانت منشوراتنا تصل بشكل كامل تقريباً لمتابعينا، ومع الوقت قلّلت كثير من الشركات نسب الوصول تدريجيّاً بغية حثّ المشتركين على الدفع مقابل وصول منشوراتهم مع مميّزات تفضيليّة لاختيار القطاع الجغرافي والجنس والعمر والاهتمام وغيرها، اذاً اليوم لا تستطيع الوصول بصفحة مهما كان محتواها إلا لنسب محدودة جداً جداً من متابعيك أصلاً دون أن تدفع ولا تنسى هُنا أنّ كثير من الشعوب اليوم معاقبة فلا تسطيع الاستفادة من هذه الخدمات ولو خصصت جزءاً من أموالها للوصول لجمهورها الذي تفاعل معها أصلاً، أي أنّ هذه المواقع رغم أن لك جمهور يتابعك تعود لتأخير ظهورك أمامه حتى دفع الأموال.
أنت مُحاصر بالتريندز!
في التحوّل لشخصيّة نشطة على وسائل التواصل أنت مطالب بأن يكون لك آراء في كل شيء يحدث في هذا العالم، وفي كل شيء لم يحدث بعد أيضاً، أنت مجبر، الجمهور ينتظر، لايهم رأيك بالفعل حيث سيقف البعض معك والبعض ضدك المهم أن تشارك موقفاً، ولن يتمّ أخذ موقفك بشكل شخصي، بل سيُسحب موقفك على المكان الذي تعمل فيه أو تنشط فيه أو على الديانة التي تعتنقها وربّما على البلدة التي ولدت فيها، لن تنجو!
فرصتك محدودة
أغلب الناس لاتضغط “عرض المزيد” وبالتالي لديك بعض الحروف المحدودة وربّما جملة أو جملتين، ولايتعلّق الأمر باحترافيّة كتابة هذه الجملتين لجذب المتابعين بل هي سهولة التجاوز ومزاج الجمهور، في أيام الصحافة الورقية كان يبقى الموضوع أمامك وقد تعيد قراءة الصحيفة والمجلّة عدّة مرات انت وأفراد أسرتك أو زملائك في العمل وقد تتناقشون حول نفس المادة الإعلامية، أما على وسائل التواصل فأنت معرّض لمواد ومنشورات مختلفة عن تلك التي يتعرض لها ابنك أو صديقك أو حتى زوجتك وبالتالي سيكون النقاش غير فعال ولو كان عن نفس الموضوع كون كل منشور يقدم بطريقة الجهة التي تصدره وليست القصة حول مضمونه فقط، هناك سياسات تحرير تجعل من ضعف خصوبة طائر اللقلق مسألة متعلقة بحزب سياسي ما.
عليك منافسة التفاهة
نعم في وسائل التواصل تنافس منشورات حول إطلالة الفنانين أو قياس شورتاتهم مقالات عن الاحتباس الحراري أو زلزال أو كارثة أو حرب كاملة، ليس هنالك من تصنيف أو ترتيب، قد تستيقظ يوماً وتجد الناس متضامنين مع الحرائق في غابات بلد لايعرفونه وقد تجد أخباراً حول كوارث طبيعية خطيرة في بلدهم لايعرفون عنها شيئاً، في بعض الدول قد تتابع مئات الأخبار حول تغريدات أحد السياسيين والتي قد يعود ليقول أن ابنه كتبها حين كان يلعب بالهاتف في الصباح، إنه عالم كامل من تعميم التفاهة وينسحب هذا على بعض الكتب والمنتجات التي يتمّ الترويج المدفوع لها والتي قد يشتريها الملايين دون أن يكونوا قادرين على كتابة تقييم حقيقي لها لأنّ الموجة السائدة المدفوعة تعارض ذلك!
مواقف لم تختارها
اذا كنت شخصاُ عادياً أو معروفاً على السواء فالمتابعين وغير المتابعين لايتقبلون منك حريّتك ف التعليق او عدم التعليق، وقد يتمّ زجّ حساباتك في مسائل شائكة تجعلك مضطرّاً للتبرير أو الحديث عنها، وقد يتمّ اختيار صورة قديمة لك وأنت تلبس ألوان مختلفة لتجد الأخبار تقول أنّك تروج للمثليّة الجنسية وقبل أن يسألك الناس عن موقفك وأنت حرّ فيه مهما كان ستجد آلاف الشتائم وبعض الدعم وكثير من التكفير وربّما التهديدات في حال كنت تعيش في بيئة محافظة في بلادنا وحتى في البلدان الأوروبية هذه الأيام.
هناك حدود لكونك مناصراً لقضايا محددة
ولو كان هذا مفاجئاً لكن هناك حريّة وهميّة في بعض القضايا الأساسيّة، مسألة دعم الحقوق وفلسطين مثلاً قد تكون انتهاك لمعايير المجتمعات في وسائل التواصل الاجتماعي، وقد يخطر لك أنّ هذا فقط يحدث تجاهنا لكنه يحدث تجاه كلّ الشعوب التي لديها قضايا ولكننا اصطدمنا بهذه التهم على شكل انتهاكات وكم من حسابات جادّة وصفحات كبيرة أغلقت في هذه التهم، وجاء النزاع الروسي الاوكراني فجأة ليجعل من طرف ما مع كلّ حساباته وصفحاته العامة موضع شكّ وتقييد واتهام.
خصوصيّتك مهددة دوماً
حماية الحسابات تبدو أكثر الأشياء التي تهتم لها الشركات التي تدير وسائل التواصل الاجتماعي، لكنّ الحقيقة أنّ الحسابات الموثّقة يدفع مقابلها البعض سواء من خلال الشركات الوسيطة أو بطرق أخرى، ولو كانت الشركات جادّة في حماية الخصوصية لجعلت مسألة التوثيق متاحة لجميع المشتركين، في أي وقت من الأوقات قد تجد رسائلك الشخصيّة منشورة وخاضع أنت للابتزاز حولها وكذلك المعلومات التي تتبادلها عبر الحسابات أو حتى الروابط التي يتمّ ارسالها من خلالك للآلاف لاختراق حساباتهم، نعم هناك توعية رقميّة تقلل جداً فرص حصول هذا ولكن من حوالي ملياري مستخدم لفيسبوك كم مستخدم لديه هذا الوعي الرقمي؟
فجأة قد تُصبح مُداناً
انتشرت في السنوات الأخيرة بعض القضايا التقدميّة التي تحمّس لها كثير من ناشطي المجتمع المدني والسياسي حول العالم، وبالطبع وجدت هذه القضايا مناصرين وعانى منها ضحايا في بلداننا فأخذ الكثيرون تدريبات وحاولوا تطوير أفكارهم حول قضايا محددة وأخذوا ينشطون فيها في مجتمعاتهم، ولاريب أنّ بعض الأمور كان يعاقب عليها القانون قبل عقود أصبحت اليوم حقوقاً، المشكلة هنا أن كثير من المستخدمين وقد يكونوا من الأكاديميين ومن أصحاب التغيير في العقود الماضية فاتهم قطار هذه القضايا ولم يتعرضوا لتجارب أو خبرات لتطوير مهاراتهم فوجدوا أنفسهم فجأة مُدانين ببعض القضايا التي تخصّ الحقوق والكراهية ليسوا لأنهم كذلك يعتقدون بل لأنهم لم يلاحقوا ماحصل في السنوات الأخيرة، فجأة وجد هؤلاء أنفسهم موضع اتهام وإدانة وربّما عملت مجموعات كاملة على التبليغ عن حساباتهم ومنشوراتهم. بالطبلع هذا لاينفي الجانب الإيجابي لتشكل مجموعات ضغط لصالح حقوق كثير من الفئات وإنهاء الانتهاكات بكل أنواعها تجاه هذه المجموعات.
أنت مراقَب وتحت الأنظار
الحكومات تتابع الناشطين، هذا لاينسحب على بلدان العالم الثالث بل على كلّ الدول، نعم أنت مراقب دوماً وهناك بعض الموضوعات لايُسمح بالخوض فيها تماماً، فالسلطات الدينية بالمرصاد وحتى العائلة وكم يتجنّب الكثير من الناس التعبير عن آرائهم قلقاً من وجود أفراد عائلاتهم في قائمة الأصدقاء ولو كانوا في دول بعيدة، أيضاً فإن حالات استدعاء الناشطين والتحقيق معهم ورفع القضايا عليهم باتت مسائل متكررة جداً في مختلف البلدان، وغالباً ما يفضل البعض إلغاء التعبير عن موقف أو سلوك عندما يعرفون أنّ التكلفة ليست قليلة وتشمل دعاوى ومحامين ووقت ولو كانوا على حق.
حرّاس المعبد الافتراضي
كما في كلّ مجتمع مجموعة من الشخصيات التي تسيطر على الفنون والأكاديميا والرياضة مثلاً فكذلك وسائل التواصل، لكل مجتمع او موضوع مجموعة من “حراس المعبد” الذين يتولون السيطرة على الأخبار ولو لم نلاحظ ذلك ويتولون التعليق عليها وتوجيه دفتها في الاتجاه المناسب لهم، وهؤلاء في الغالب لا يعملون لحسابهم بل لحساب أطراف ومشغلين محليين أو عالميين وهنا ليس تعميماً لنظريّة المؤامرة لكنّ هذا يحصل باسم التأثير والقضايا وكثيراً ما نجد هؤلاء “حرّاس المعبد الافتراضي” مكرّمين من منظمات دولية أو سفارات أو حكومات نظراً لجهودهم في الترويج لقضايا معرفة وأخرى غير معروفة.
كلّ هذه الاعتبار تعيد السؤال للبداية، هل هناك حريّة وفرص متساوية للتعبير في وسائل التواصل الاجتماعي؟ وهل هذه الاعتبارات تساعد على فهم معاناة الآلاف من رُهاب وسائل التواصل الاجتماعي فيكتفون بالإطلاع ويخافون من المشاركة أو دعم قضيّة أو التعبير عن آرائهم؟
نحن بحاجة لإعادة التفكير في هذه الاعتبارات ولو على المستويات المحليّة لكي لايفقد الإعلام الجديد دوره في الأخذ والرد بين الأطراف وكونه باتجاهين ولا يعود كما كان الاعلام التقليدي اتجاه واحد موجه بشكل كامل.
وسيم السخلة
دمشق – أيار ٢٠٢٢